بدأت السورة بأسلوب يشوق إلى سماع الحديث عن يوم القيامة وما يكون فيه ، مشيرة إلى أن الناس فيه قسمان : فمنهم من لا يرون فيه كرامة عند استقبالهم ويدخلون نارا حامية ، ومنهم من يستقبلونه فرحين بمظاهر الرحمة والرضوان المعدة لهم . ثم ساقت الأدلة الواضحة على قدرته تعالى على البعث مما يشاهدونه بأعينهم وينتفعون به في حياتهم ، وبعد ذكر هذه الأدلة انتقلت إلى أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بالتذكير لأنها مهمته الأولى بالنسبة إليهم . مبينة أنه ليس مسلطا عليهم فيجبروهم على الإيمان ، وأن من تولى وكفر بعد هذا التذكير ، فسوف يأخذه الله بذنبه ويعذبه العذاب الأكبر . حين يرجع إليه بعد الموت لأن رجوعهم جميعا إليه وحسابهم جميعا عليه .
1- هل أتاك - يا محمد - حديث القيامة التي تغشى الناس بأهوالها ؟ .
{ 1 - 16 } { بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ * وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ * عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ * تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً * تُسْقَى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ * لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ * لَا يُسْمِنُ وَلَا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ * وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاعِمَةٌ * لِسَعْيِهَا رَاضِيَةٌ * فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ * لَا تَسْمَعُ فِيهَا لَاغِيَةً * فِيهَا عَيْنٌ جَارِيَةٌ * فِيهَا سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ * وَأَكْوَابٌ مَوْضُوعَةٌ * وَنَمَارِقُ مَصْفُوفَةٌ * وَزَرَابِيُّ مَبْثُوثَةٌ }
يذكر تعالى أحوال يوم القيامة وما فيها من الأهوال الطامة ، وأنها تغشى الخلائق بشدائدها ، فيجازون بأعمالهم ، ويتميزون [ إلى ] فريقين : فريقًا في الجنة ، وفريقًا في السعير .
1- سورة " الغاشية " ، وتسمى سورة " هل أتاك حديث الغاشية " من السور المكية الخالصة ، وعدد آياتها ست وعشرون آية ، وهي السورة الثامنة والثمانون في ترتيب المصحف ، أما ترتيبها في النزول ، فهي السورة السابعة والستون من بين السور المكية ، وكان نزولها بعد سورة " الذاريات " وقبل سورة " الكهف " .
2- وهي من السور التي كان النبي صلى الله عليه وسلم يقرؤها كثيرا ، فقد أخرج الإمام مسلم في صحيحه ، عن النعمان بن بشير ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقرأ " سبح اسم ربك الأعلى " " والغاشية " في صلاة الجمعة والعيدين .
وفي رواية –أيضا- عن النعمان بن بشير أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يقرأ هذه السورة مع سورة الجمعة ، في صلاة الجمعة .
وقد اشتملت السورة الكريمة على بيان أحوال الكافرين والمؤمنين يوم القيامة ، كما لفتت أنظار الناس إلى مظاهر قدرة الله في خلقه ، لكي يتفكروا ويتدبروا أن الخالق لهذه الأشياء بتلك الصورة البديعة ، هو المستحق للعبادة والطاعة ، وأنهم سيعودون إليه للحساب والجزاء [ إن إلينا إيابهم . ثم إن علينا حسابهم ] .
الاستفهام فى قوله - تعالى - : { هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الغاشية } للتحقيق والتقرير ، أو المقصود به التعجيب من حديث القيامة ، والتشويق إلى الاستماع إليه .
والغاشية : لفظ مشتق من الغشيان ، وهو تغطية الشئ لغيره ، يقال : غشيه الأمر ، إذا غطاه ، والمقصود بالغاشية يوم القيامة ، ووصف يوم القيامة بذلك ، لأنه يغشى الناس بأهواله وشدائده ، ويغطى عقولهم عن التفكير فى أى شئ سواه .
والمعنى : هل بلغك - أيها الرسول الكريم أو أيها المخاطب - حديث يوم القيامة ، الذى يغشى الناس بأحواله المفزعة ، ويعمهم بشدائده . . إن كان لم يأتك فهذا خبره ، وتلك هى أقسام الناس فيه .
وافتتاح السورة بهذا الافتتاح - بجانب ما فيه من تشويق - يدل على أهمية هذا الخبر ، وأنه من الأخبار التى ينبغى الاستعداد لما اشتملت عليه من معانى لا يصح التغافل عنها .
سميت في المصاحف والتفاسير { سورة الغاشية } . وكذلك عنونها الترمذي في كتاب التفسير من جامعه ، لوقوع لفظ { الغاشية } في أولها .
وثبت في السنة تسميتها { هل أتاك حديث الغاشية } ، ففي الموطأ أن الضحاك بن قيس سأل النعمان بن بشير بم كان رسول الله يقرأ في الجمعة مع سورة الجمعة? قال : هل أتاك حديث الغاشية . وهذا ظاهر في التسمية لأن السائل سأل عما يقرأ مع سورة الجمعة فالمسؤول عنه السورة الثانية ، وبذلك عنونها البخاري في كتاب التفسير من صحيحه .
وربما سميت { سورة هل أتاك } بدون كلمة { حديث الغاشية } . وبذلك عنونها ابن عطية في تفسيره وهو اختصار .
وهي معدودة السابعة والستين في عداد نزول السور نزلت بعد سورة الذاريات وقبل سورة الكهف .
اشتملت هذه السورة على تهويل يوم القيامة وما فيه من العقاب قوم مشوهة حالتهم ، ومن ثواب قوم ناعمة حالتهم وعلى وجه الإجمال المرهب أو المرغب .
والإيماء إلى ما يبين ذلك الإجمال كله بالإنكار على قوم لم يهتدوا بدلالة مخلوقات من خلق الله وهي نصب أعينهم ، على تفرده بالإلهية فيعلم السامعون أن الفريق المهدد هم المشركون .
وعلى إمكان إعادته بعض مخلوقاته خلقا جديدا بعد الموت يوم البعث .
وتثبيت النبي صلى الله عليه وسلم على الدعوة إلى الإسلام وأن لا يعبأ بإعراضهم .
وأن وراءهم البعث فهم راجعون إلى الله فهو مجازيهم على كفرهم وإعراضهم .
الافتتاح بالاستفهام عن بلوغ خبر الغاشية مستعمل في التشويق إلى معرفة هذا الخبر لما يترتب عليه من الموعظة .
وكونُ الاستفهام ب { هل } المفيدة معنى ( قد ) ، فيه مزيد تشويق فهو استفهام صوري يكنى به عن أهمية الخبر بحيث شأنه أن يكون بلَغ السامع ، وقد تقدم نظيره في قوله تعالى : { وهل أتاك نبؤا الخصم } في سورة ص ( 21 ) . وقوله : { هل أتاك حديث موسى } في سورة النازعات ( 15 ) .
وتقدم هنالك إطلاق فعل الإِتيان على فشو الحديث .
وتعريف ما أضيف إليه { حديث } بوصفه { الغاشية } الذي يقتضي موصوفاً لم يذكر هو إبهام لزيادة التشويق إلى بيانه الآتي ليتمكن الخبر في الذهن كمال تمكُّن .
والحديث : الخبر المتحدَّث به وهو فعيل بمعنى مفعول ، أو الخبر الحاصل بحدثان أي ما حدث من أحوال . وتقدم في سورة النازعات .
و { الغاشية } : مشتقة من الغشيان وهو تغطية متمكنة وهي صفة أريد بها حادثة القيامة سميت غاشية على وجه الاستعارة لأنها إذا حصلت لم يجد الناس مَفراً من أهوالها فكأنها غاششٍ يغشى على عقولهم . ويطلق الغشيان على غيبوبة العقل فيجوز أن يَكون وصف الغاشية مشتقاً منه . ففهم من هذا أن الغاشية صفة لمحذوف يدل عليه السياق وتأنيث الغاشية لتأويلها بالحادثة ولم يستعملوها إلا مؤنثة اللفظ والتأنيث كثير في نقل الأوصاف إلى الإسمية مثل الداهية والطامة والصاخة والقارعة والآزفة .
و { الغاشية } هنا : علم بالغلبة على ساعة القيامة كما يؤذن بذلك قوله عقبه { وجوه يومئذ } [ الغاشية : 2 ] أي يوم الغاشية .