( سورة الغاشية مكية ، وآياتها 26 آية ، نزلت بعد سورة الذاريات ) .
وهي سورة قصيرة الآيات ، متناسقة الفواصل ، تطوّف بالقلب البشرى أمام الآخرة وأحوالها ، فأصحاب الجحيم يلقون أشد ألوان الألم والعذاب ، وأهل الجنة يتمتعون بألوان النعيم وصنوف التكريم ، ثم تعرض أمام الناظرين مشاهد الكون ، وآيات الله المبثوثة في خلائقه ، المعروضة للجميع .
ثم تذكّر الناس بحساب الآخرة ، وسيطرة الله ، وحتمية الرجوع إليه في نهاية المطاف ، كل ذلك في أسلوب عميق الإيقاع ، هادئ ولكنه نافذ ، رصين ولكنه رهيب .
1- الغاشية هي الداهية التي تغشى بشدائدها ، وتغمرهم بأهوالها ، والمراد بها هنا يوم القيامة ، وقد سبق في هذا الجزء وصف القيامة بالطامة والصاخة ، وسيأتي وصفها بالقارعة ، بما يناسب طبيعة التذكير والتهديد للمعاندين . والاستفهام هنا لتعظيم الأمر وتقديره ، أي : هل سمعت قصة يوم القيامة وما يقع فيه ؟
وعن عمر بن ميمون ، قال : مرّ النبي صلى الله عليه وسلم على امرأة تقرأ : هل أتاك حديث الغاشية . فقام يستمع ويقول : ( نعم قد جاءني ) .
والخطاب مع ذلك عام لكل من يسمع القرآن .
2-7- إن وجوه الكفار في هذا اليوم تكون ذليلة ، لما يظهر عليها من الحزن والكآبة ، وسوف يلقون تعبا وإرهاقا في النار بسبب أعمالهم السيئة ، وسيدخلون النار المتأججة التي تلتهمهم ، وإذا عطشوا من شدة حرها ، وطلبوا ما يطفئ ظمأهم ، سقوا ، من عين آنية . أي : من ينبوع شديد الحرارة ، وإن يستغيثوا يغاثوا بما كالمهل يشوي الوجوه بئس الشراب وساءت مرتفقا . ( الكهف : 29 ) . وليس لهم طعام في النار إلا من ضريع ، والضريع : شجر ذو شوك لائط بالأرض ، فإذا كان رطبا سمي بالشبرق ، وإذا جنى صار اسمه الضريع ، ولم تستطع الإبل مذاقه فهو عندئذ سام ، والأكل منه لون من ألوان العذاب الشديد ، يضاف إلى ذلك الغسلين والغساق وباقي الألوان التي لا تسمن ولا تغني من جوع .
8-11- وجوه يومئذ ناعمة* لسعيها راضية* في جنة عالية* لا تسمع فيها لاغية .
هنا وجوه يبدو عليها النعيم ، ويفيض منها الرضا ، وجوه تنعم بما تجد ، وتشعر بالرضا عن عملها حين ترى رضا الله عنها ، وهذا النعيم في جنة عالية المقام ، مرتفعة على غيرها من الأماكن ، لأن الجنة منازل ودرجات بعضها أعلى من بعض ، كما أن النار دركات بعضها أسفل من بعض .
لا يسمع أهل الجنة لغوا ولا باطلا ، وإنما يعيشون في جو من السكون والهدوء والسلام والاطمئنان ، والود والرضا ، والنجاء والسمر بين الأحبة والأوداء ، والتنزه والارتفاع عن كل كلمة لاغية ، لا خير فيها ولا عافية ، وهذه وحدها نعيم وسعادة ، وتوحي الجملة بأن المؤمنين في الأرض حين ينأون عن اللغو والباطل إنما ينعمون بطرف من حياة الجنة ، ويتشبهون بأهلها .
12- فيها عين جارية . والعين الجارية : الينبوع المتدفق ، والمياه الجارية متعة للنفس وللنظر ، وقد افتخر بمثلها فرعون فقال : أليس لي ملك مصر وهذه الأنهار تجري من تحتي أفلا تبصرون . ( الزخرف : 51 ) .
13- فيها سرر مرفوعة . وفيها سرر عالية المكان والمقدار ، ليرى المؤمن وهو عليها ما خوله الله من النعم .
14- وأكواب موضوعة . مصفوفة مهيأة للشرب ، لا تحتاج إلى طلب ولا إعداد .
15- ونمارق مصفوفة . والنمارق الوسائد والحشايا ، قد صفت بعضها إلى بعض للاتكاء في ارتياح .
16- وزرابيّ مبثوثة . والزرابي هي البسط ( أي : السجاجيد ) . مبثوثة : أي : مبسوطة أو مفرقة هنا وهناك ، كما تراه في بيوت أهل النعمة . كل ذلك لتصوير النعمة والرفاهية واللذة ، وتقريبها لتصور الناس في الدنيا ، وإلا فنعيم تلك الدار نعيم لا يشبهه في هذه الدار نعيم ، فمتاع الدنيا قليل ، ومتاع الآخرة لا شبيه له ولا مثيل ، وفيها ما تشتهيه الأنفس وتلذّ الأعين وأنتم فيها خالدون . ( الزخرف : 71 ) .
فيها النعيم والرضا ، فيها السرور بالنجاة ، والأنس برضوان الله ، فيها ما لا عين رأت ، ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر .
17- أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت .
يلفت القرآن الأنظار إلى دلائل قدرة الله ، وبديع صنعه ، فلينظر الإنسان إلى الجمال كيف خلقت ؟ وليتدبر كيف وجدت على هذا النحو المناسب لوظيفتها ، المحقق لغاية خلقها ، المتناسق مع بيئتها ووظيفتها جميعا ، إن الناس لم يخلقوها ، وهي لم تخلق نفسها ، فلا يبقى إلا أن تكون من إبداع المتفرد بصنعته ، التي تدل عليه وتقطع بوجوده ، كما تشى بتدبيره وتقديره .
18- وإلى السماء كيف رفعت . أفلا ينظرون إليها كيف رفعت ؟ ومن ذا رفعها بلا عمد ؟ ونثر فيها النجوم بلا عدد ؟ وجعل فيها هذه البهجة وهذا الجمال .
19- وإلى الجبال كيف نصبت . والجبل ملجأ وملاذ ، وأنيس وصاحب ، ومشهد يوحي إلى النفس الإنسانية جلالا واستهوالا ، حيث يتضاءل الإنسان إلى جواره ويستكين ، ويخشع للجلال السامق الرزين ، ( ونصب الجبال إقامتها علما للسائر ، وملجأ من الجائر ، وهي في الأغلب نزهة للناظر )i ، وأمان وحفظ لتوازن الأرض .
قال تعالى : وجعلنا في الأرض رواسي أن تميد بهم . . . ( الأنبياء : 31 ) .
وقال سبحانه : والجبال أوتادا . ( النبأ : 7 ) . أي : وسيلة لحفظ نظام الأرض من الزلازل والبراكين وغيرها .
20- وإلى الأرض كيف سطحت . والأرض مسطوحة أمام النظر ، ممهدة للحياة والسير والعمل ، والناس لم يسطحوها كذلك ، فقد سطحت قبل أن يكونوا هم ، أفلا ينظرون إليها ، ويتدبرون ما وراءها ، ويسألون من سطحها ومهدها هكذا للحياة تمهيدا ؟
( وقد أيقظ القرآن الحس ، ولفت النظر إلى مشهد كلي يضم منظر السماء المرفوعة ، والأرض المبسوطة وفي هذا المدى المتطاول تبرز الجبال منصوبة السنان ، لا رأسية ولا ملقاة ، وتبرز الجمال منصوبة السنام خطان أفقيان ، وخطان رأسيان ، في المشهد الهائل ، في المساحة الشاسعة ، وهي لوحة متناسقة الأبعاد والاتجاهات ، على طريقة القرآن في عرض المشاهد ، وفي التعبير بالتصوير على وجه الإجمال )ii .
والآن بعد الجولة الأولى في عالم الآخرة ، والجولة الثانية في مشاهد الكون المعروضة ، يخاطب النبي الكريم فيقول :
21-24- فذكّر إنما أنت مذكّر* لست عليهم بمصيطر* إلا من تولّى وكفر* فيعذبه الله العذاب الأكبر .
فعظهم يا محمد بآيات القرآن ، وذكرهم بالدعوة إلى الإله الواحد القهار ، فالإنسان بفطرته ميسر للإذعان بقدرة الله وبديع صنعته ، وإنما قد تتحكم الغفلات ، فتحتاج النفوس إلى مذكر يردها إلى الحق والصواب .
إنما أنت مذكّر . أي : إنما بعثت للتذكير فحسب ، وليس عليك هداهم : إن عليك إلا البلاغ ، وتبليغ الدعوة وترك الناس أحرارا في اعتقادهم ، فلا إكراه في الدين .
لست عليهم بمصيطر . والمصيطر : المتسلط ، فأنت لا تجبرهم على الإيمان .
قال تعالى : وما أنت عليهم بجبّار فذكّر بالقرآن من يخاف وعيد . ( ق : 45 ) .
فمن تولى عن الحق ، وكفر بآيات الله ، وأنكر الدعوة ، فإن حسابه إلى الله المطلع على القلوب ، وصاحب السلطان على السرائر ، وسوف يعذبه الله العذاب الأكبر في الآخرة ، وقد يضم إلى عذاب الآخرة عذاب الدنيا .
25 ، 26- إنّ إلينا إيابهم* ثم إنّ علينا حسابهم . وتختم السورة بهذا الإيقاع المناسب ، لتؤكد دور الرسول في البلاغ ، أما الجزاء والحساب فسيكون في يوم الدين ، يوم يقوم الناس لرب العالمين ، إن إلينا إيابهم ورجوعهم ، ثم إن علينا وحدنا حسابهم حسابهم وجزاءهم .
قال تعالى : ونضع الموزين القسط ليوم القيامة فلا تظلم نفس شيئا وإن كان مثقال حبة من خردل أتينا بها وكفى بنا حاسبين . ( الأنبياء : 47 ) .
2- وصف مشاهد الكون وبدائع الصنعة الإلهية .
3- تحديد مهمة الرسول صلى الله عليه وسلم بالبلاغ والدعوة إلى الهداية .
هول القيامة ، وأحوال أهل النار .
{ هل أتاك حديث الغاشية 1 وجوه يومئذ خاشعة 2 عاملة ناصبة 3 تصلى نارا حامية 4 تسقى من عين آنية 5 ليس لهم طعام إلا من ضريع 6 لا يسمن ولا يغني من جوع 7 وجوه يومئذ ناعمة 8 لسعيها راضية 9 في جنة عالية 10 لا تسمع فيها لاغية 11 فيها عين جارية 12 فيها سرر مرفوعة 13 وأكواب موضوعة 14 ونمارق مصفوفة 15 وزرابيّ مبثوثة 16 }
الغاشية : القيامة تغشى الناس بأهوالها .
هل بلغك يا محمد خبر الغاشية التي تغشى الناس بأهوالها ؟ إذا لم يكن بلغك فأنا أحدّثك عنه .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.