70 - الذين كذَّبوا بالقرآن وبما أرسلنا به رسلنا - جميعاً - من الوحي ، فسوف يعلمون عاقبة تكذيبهم حين تكون الأغلال والسلاسل في أعناقهم ، يجرون بها في الماء الذي بلغ الغاية في الحرارة ، ثم بعد ذلك يلقون في النار يصطلون حرها ، ثم يقال لهم - توبيخاً وتبكيتاً - : أين معبوداتكم التي كنتم تعبدونها من دون الله ؟ قال الكافرون : غابوا عنا ، بل الحق أننا لم نكن نعبد من قبل في الدنيا شيئاً يعتد به . مثل هذا الإضلال الشنيع يُضل الله الكافرين عن سبيل الحق لعلمه أنهم يؤثرون الضلالة على الهدى .
ثم فصل - سبحانه - هذا الوعيد ، وبين ما أعده لهم من عذاب فقال : { إِذِ الأغلال في أَعْنَاقِهِمْ والسلاسل يُسْحَبُونَ . فِي الحميم ثُمَّ فِي النار يُسْجَرُونَ }
و " إذ " هنا ظرف بمعنى " إذا " وهو متعلق بيعلمون ، وعبر - سبحانه - بالظرف الدال على المضى ، للدلالة على تحقق الخبر ، حتى لكأن العذاب قد نزل بهم فعلا .
والأغلال : جمع غل - بضم الغين - وهو القيد يوضع فى اليد والعنق فيجمعهما .
والسلاسل : جمع سلسلة ، وهى ما يربط بها الجانى على سبيل الإِذلال له .
والحميم : الماء البالغ أقصى درجات الحرارة .
ويسجرون : مأخوذ من سجر التنور ، إذا ملأه بالوقود .
والمعنى : فسوف يعلمون سوء عاقبة تكذيبهم وجدالهم بالباطل يوم القيامة ، وقت أن توضع الأغلال والقيود فى أعناقهم ، ثم يسحبون ويجرون إلى الحميم بعنف وإهانة ، ثم يلقى بهم فى النار التى تمتلئ بهم ، ويكونون وقودا لها .
قال صاحب الكشاف : فإن قلت : وهل قوله : { فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ . إِذِ الأغلال . . } إلا مثل قولك : سوف أصوم أمس ؟
قلت : المعنى على إذا ، إلا أن الأمور المستقبلة لما كانت فى أخبارك الله - تعالى - متيقنة مقطوعا بها ، عبر عنها بلفظ ما كان ووجد . والمعنى على الاستقبال . .
وقوله : { إِذِ الأغْلالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلاسِلُ } أي : متصلة بالأغلال ، بأيدي الزبانية يسحبونهم على وجوههم ، تارة إلى الحميم وتارة إلى الجحيم ؛ ولهذا قال : { يُسْحَبُونَ . فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ } ، كما قال : { هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ } [ الرحمن : 43 ، 44 ] . وقال بعد ذكْره أكلهم الزقوم وشربهم الحميم : { ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لإلَى الْجَحِيمِ } [ الصافات : 68 ] وقال { وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ مَا أَصْحَابُ الشِّمَالِ . فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ . وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ . لا بَارِدٍ وَلا كَرِيمٍ } إلى أن قال : { ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ . لآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ . فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ . فَشَارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ . فَشَارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ . هَذَا نزلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ } [ الواقعة : 41 - 56 ] . وقال { إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ . طَعَامُ الأثِيمِ . كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ . كَغَلْيِ الْحَمِيمِ . خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلَى سَوَاءِ الْجَحِيمِ . ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذَابِ الْحَمِيمِ . ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ . إِنَّ هَذَا مَا كُنْتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ } [ الدخان : 43 - 50 ] ،
أي : يقال لهم ذلك على وجه التقريع والتوبيخ ، والتحقير والتصغير ، والتهكم والاستهزاء بهم .
قال ابن أبي حاتم : حدثنا علي بن الحسين ، حدثنا أحمد بن منيع ، حدثنا منصور بن عمار ، حدثنا بشير {[25595]} بن طلحة الخزامي ، عن خالد بن دُرَيْك ، عن يعلى بن مُنْيَه - رفع الحديث إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم - قال : " ينشئ الله سحابة لأهل النار سوداء مظلمة ، ويقال : يا أهل النار ، أي شيء تطلبون ؟ فيذكرون بها سحاب الدنيا فيقولون : نسأل بَرْد الشراب ، فتمطرهم أغلالا تزيد في أغلالهم ، وسلاسل تزيد في سلاسلهم ، وجمرا يُلْهِبُ النار عليهم " . هذا حديث غريب{[25596]} .
وقوله تعالى : { إذ الأغلال } يعني يوم القيامة ، والعامل في الظرف { يعلمون } وعبر عن ظرف الاستقبال بظرف لا يقال إلا في الماضي ، وذلك لما تيقن وقوع الأمر حسن تأكيده بالإخراج في صيغة المضي ، وهذا كثير في القرآن كما قال تعالى : { وإذ قال الله يا عيسى ابن مريم }{[10024]} قال الحسن بن أبي الحسن : لم تجعل السلاسل في أعناق أهل النار ، لأنهم أعجزوا الرب ، لكن لترسبهم إذا أطفاهم اللهب{[10025]} .
وقرأ جمهور الناس : «والسلاسلُ » عطفاً على { الأغلال } . وقرأ ابن عباس وابن مسعود : «والسلاسلَ » بالنصب «يسحَبون » بفتح الحاء وإسناد الفعل إليهم وإيقاع الفعل على «السلاسل » . وقرأت فرقة «والسلاسلِ » بالخفض على تقدير إذ أعناقهم في الأغلال والسلاسل . فعطف على المراد من الكلام لا على ترتيب اللفظ ، إذ ترتيبه فيه قلب ، وهو على حد قول العرب : أدخلت القلنسوة في رأسي . وفي مصحف أبي بن كعب : «وفي السلاسل يسحبون » . و : { يسحبون } معناه يجرون ، والسحب الجر . و { الحميم } : الذائب الشديد الحر من النار ، ومنه يقال للماء السخن : حميم .