اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{إِذِ ٱلۡأَغۡلَٰلُ فِيٓ أَعۡنَٰقِهِمۡ وَٱلسَّلَٰسِلُ يُسۡحَبُونَ} (71)

قوله : { إِذِ الأغلال } فيه سؤال ، هو أن «سوفَ » للاستقبال ، و «إِذْ » للماضي ، فقوله : { فسوف يعلمون إذ الأغلال في أعناقهم } مثل قولك : سَوْفَ أَصُمُ أَمْسِ ، والجواب : جوزوا في «إذ » هذه أن تكون بمعنى «إذا » ؛ لأن العامل فيها محقق الاستقبال وهو فسوف يعلمون .

قالوا : وكما تقع «إذَا » موضع إِذْ في قوله تعالى : { وَإِذَا رَأَوْاْ تِجَارَةً أَوْ لَهْواً انفضوا إِلَيْهَا } [ الجمعة : 11 ] كذلك تقع إِذْ مَوْقِعَهَا .

وقد مضى نَحْوٌ من هذا في البقرة عند قوله تعالى : { وَلَوْ يَرَى الذين ظلموا إِذْ يَرَوْنَ العذاب } [ البقرة : 165 ] قالوا : والذي حسن هذا تيقن وقوع الفعل ، فأخرج في صورة الماضي{[48393]} .

قال شهاب الدين : ولا حاجة إلى إخْراج «إِذْ : عن موضوعها ؛ بل هي باقية على دَلاَلتِهَا على المعنى ، وهي منصوبة بقوله : { فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ } نصب المفعول به ، أي فسوف يعلمون يوم القيامة وقت الأغلال في أعناقهم أيْ وقتَ سببِ الأغلال ، وهي المعاصي التي كانوا يفعلونها في الدنيا ، كأنه قيل : سيعرفون وقت معاصيهم التي تَجْعَلُ الأغلال في أعناقهم وهو وجه واضح غاية ما فيه التصرفُ في إذ يجعلها . وهو وجه واضح غاية ما فيه التصرف في إذ يجعلها مفعولاً بها{[48394]} . ولا يضر ذلك ، فإن المعربين غالب أوقاتهم يقولون : منصوب «باذْكُرْ » مقُدَّراً ، أو لا يكون حينئذ إلا مفعولاً به لاستحالة عمل المستقبل في الزمن الماضي .

وجوز أن يكون منصوباً باذْكُرْ مقدراً ، أي اذكر لهم وَقْتَ الإِغلال ؛ ليخالفوا ويَنْزَجِرُوا ، فهذه ثلاثة أوجه خيرها أوسطها{[48395]} .

قوله : «والسَّلاَسِلُ » العامة على رفعها ، وفيه ثلاثة أوجه :

أحدها : أنه معطوف على الأغْلاَلِ . وأخبر عن النوعين بالجار ، فالجار في نية التأخير والتقدير : إذ الأَغْلاَلُ والسَّلاَسِلُ في أعناقهم{[48396]} .

الثاني : أنه مبتدأ ، والخبر محذوف لدلالة خبر الأول عليه{[48397]} .

الثالث : أنه مبتدأ أيضاً ، وخبره الجملة{[48398]} من قوله : «يُسْحَبُونَ » ولا بُدَّ مِن ذكر ضمير يعود عليه منها ، والتقدير : والسلاسل يُسْحَبُونَ بِهَا ، حذف لِقُوَّة الدَّلالةِ عليه .

«فَيُسْحَبُونَ » مرفوع المحل على هذا الوجه . وأما الوجهين المتقدمين فيجوز فيه النصب على الحال من الضمير المنويّ في الجار ، ويجوز أن يكون مستأنفاً{[48399]} .

وقرأ ابنُ عَبَّاسٍ وابنُ مسعُودٍ وزَيْدُ بْنُ عَلِيِّ وابْنُ وَثَّابٍ ، والحسن في اختياره «والسَّلاَسِلَ » نصباً يَسْحَبُونَ بفتح الياء{[48400]} ، مبنياً للفاعل ، فيكون السلاسل مفعولاً مقدماً ، ويكون قد عطف جملة فعلية على جملة اسمية{[48401]} .

قال ابن عباس في معنى هذه القراءة : إذا كانوا يَجُرُّونَهَا فهو أشد عليهم يكلفون ذلك ولا يطيقونه{[48402]} .

وقرأ ابن عباس وجماعة «والسَّلاَسِل » بالجر{[48403]} يُسْحَبُونَ مبنياً للمفعول وفيها ثلاثةُ تأويلاتٍ :

أحدها : الحمل على المعنى وتقديره إِذْ أَعْنَاقُهُم في الأغلالِ والسلاسلٍ فلما كان معنى الكلام على ذلك حمل عليه في العطف{[48404]} .

قال الزمخشري : ووجهه إنه لو قيل : «إِذْ أَعْنَاقُهُمْ في الأغلال مكان قوله : إِذ الأَغْلاَلُ في أعناقهم » لكان صحيحاً مستقيماً ، فلما كانتا عبارتين مُعْتَقِبَتَيْنِ{[48405]} ، حمل قوله : «والسلاسل » ( عليه ) على العبارة الأخرى{[48406]} . ونظيره :

4347 مَشَائِيمُ لَيْسُوا مُصْلِحينَ عَشِيرةً *** وَلاَ نَاعِبٍ إلاَّ بِبَيْنٍ غُرَابُهَا{[48407]}

كأنه قيل : بمصليحن .

وقرئ : بالسَّلاَسلِ{[48408]} . وقال ابن عطية : تقديره : إذا أعناقهم في الأغلال والسلاسلِ فعطف على المراد من الكلام لا على ترتيب اللفظ ؛ إذ ترتيبه فيه قلب ، وهو على حد قول العرب : أَدْخَلْتُ القَلَنْسُوَةَ فِي رَأْسِي{[48409]} .

وفي مصحف أًُبيِّ : وفي السلاسِل يَسْحَبُونها . قال أبو حيان بعد قول ابن عطية والزمخشري المتقدم : ويمسى هذا العطف على التوهم ، إلا أن قولهم : إدخال حرف الجر على مصلحين أقرب من تغيير تركيب الجملة بأسرها ، والقراءة من تغيير تركيب الجملة السابقة بأسرها{[48410]} ، ونظير ذلك قوله :

4348 أَجِدَّكَ لَنْ تَرَى بثُعَيْلبَاتٍ *** وَلاَ بَيْدَاءَ نَاجِيَةً ذَمُولاَ

وَلاَ مُتَدارِكٍ واللَّيْلُ طِفْلٌ *** بِبعْضِ نَوَاشِغِ الوَادِي حُصًُولاً{[48411]}

التقدير : لَسْتَ براءٍ ولا بمتداركٍ .

وهذا الذي قالاه سبقهما إليه الفَرَّاءُ فإِنه قال : «من جر السلاسل حمله على المعنى »{[48412]} ، إذ المعنى أعناقهم في الأغلال والسلاسل .

الوجه الثاني : أنه عطف على «الحميم »{[48413]} ، فقدم على المعطوف عليه وسيأتي تقرير ذلك .

الثالث : أن الجر على تقدير إضمار الخافض ويؤيده قراءة أُبَيٍّ : «وفِي السَّلاَسِلِ » وقرأ غيره : وبالسَّلاَسِلِ وإلى هذا نحا الزجاج{[48414]} ، إلاَّ أنَّ الأنباريِّ{[48415]} ردَّه وقال : لو قلت : «زيد في الدار » لم يحسن أن تضمر «في » فتقول : زيد ( في ){[48416]} الدار ثم ذكر تأويل الفراء وخرج القراءة عليه . ثم قال : كما تقول : «خَاصَمَ عَبْد اللهِ زَيْداً العَاقِليْنِ » ، بنصب «العاقلين » ورفعه{[48417]} ؛ لأن أحدهما إذا خاصم صاحبه فقد خاصمه الآخر{[48418]} .

وهذه المسألة ليست جارية على أصول البصريين ، ونصّوا على منعها وإنما قال بها من الكوفيين ابْنُ ( سَ ){[48419]} عْدَانَ .

وقال مَكيّ : وقد قرئ : والسَّلاَسلِ بالخفض على العطف على الأعناق ، وهو غلط ؛ لأنه يصير الأغلال في الأعناق وفي السلاسل ولا معنى للأغلال في السَّلاَسل{[48420]} .

قال شهاب الدين : وقوله : على العطف على الأعناق ممنوع بل خفضه على ما تقدم{[48421]} . وقال أيضاً : وقيل : هو معطوف على «الحميم » وهو أيضاً لا يجوز ؛ لأن المعطوف المخفوض ، لا يتقدم على المعطوف عليه لو قلت : «مَرَرْتُ وَزَيْدٍ بِعَمْرو » لم يجز ، وفي المرفوع يجوز ، نحو : قَام وَزَيْدٌ عَمْرٌ ، ويبعد في المنصوب لا يحسن رأيتُ وَزَيْداً عَمْراً ، ولم يُجِزْهُ في المخفوض أحدٌ{[48422]} .

قال شهاب الدين : وظاهر كلامه أنه يجوز في المرفوع منعه{[48423]} ، وقد نصوا أنه لا يجوز إلا ضرورة بثلاثة شروط :

أن لا يقع حرف العطف صدراً ، وأن يكون العامل متصرفاً ، وأن لا يكون المعطوف عليه مجروراً{[48424]} وأنشدوا :

4349 . . . . . . . . . . . . . . *** عَلَيْكِ وَرَحْمَةُ اللهِ السَّلاَمُ{[48425]}

إلى غير ذلك من الشواهد مع تنصيصهم على أنه مختص{[48426]} بالضرورة . و «السَّلاَسِلُ » معروفة ، قال الراغب : «وتَسَلْسَلَ الشيءُ اضطرب كأنه تُصُوِّر منه تسلسلٌ متردد فتردد لفظه تنبيهاً على تردد معناه . وماء سلسل متردد في مقره »{[48427]} .

والسَّحْبُ : الجر بعنف ، والسَّحابُ من ذلك لأن الريح تَجُرُّوهُ ، أو لأنه يجر الماء{[48428]} ، وسجرت التَّنُّورَ أي ملأته ناراً وهيجتها ، ومنه البحر المسجور ، أي المملوء ، وقيل : المضطرب ناراً{[48429]} ، وقال الشاعر ( رحمة الله عليه{[48430]} ) :

4350 إِذَا شَاءَ طَالَعَ مَسْجُورةً *** تَرَى حَوْلَهَا النَّبْعَ والشَّوْحَطَا{[48431]}


[48393]:البحر المحيط 7/474 والكشاف 3/436، والتبيان 1022، 135.
[48394]:كذا في الدر المصون والأقرب مفعولا به.
[48395]:قاله الإمام شهاب الدين في الدر المصون 4/707.
[48396]:قاله ابن الأنباري في البيان 2/334 والسمين في الدر 4/707 والزجاج في معاني القرآن وإعرابه 4/378، وأبو البقاء في التبيان 1022 والنحاس في الإعراب 4/42.
[48397]:قاله العكبري في تبيانه السابق 1022 وكذلك السمين في الدر.
[48398]:البيان لابن الأنباري المرجع السابق قال: "ومنهم من وقف على أعناقهم وابتدأ: والسلاسل يسحبون في الجحيم".
[48399]:التبيان لأبي البقاء والدر المصون للسمين المرجعين السابقين.
[48400]:من الشاذات غير المتواترات ذكرها الزمخشري في الكشاف 3/436 وأبو الفتح في المحتسب 2/242 وابن خالويه في المختصر 233.
[48401]:الكشاف السابق.
[48402]:القرطبي 15/332 والبحر المحيط 7/475.
[48403]:البحر والكشاف السابقين.
[48404]:وهو ما يسمى بالعطف على المعنى مع القرآن تأدبا ومع غيره بالعطف على التوهم.
[48405]:في الكشاف متعقبتين.
[48406]:الكشاف 3/436.
[48407]:من الأبيات المشهورة في شواهد النحو وهو من الطويل، ونسبه سيبويه في الكتاب إلى الأحوص الرياحي مرة، وإلى الفرزدق مرة أخرى، وشاهده: عطف ولا ناعب ـ بالجر ـ على توهم دخول الباء في خبر ليس كأنه قيل: بمصلحين، والباء تدخل في خبر "ليس وما" كثيرا، وهو ما يسمى بالعطف على التوهم. وانظر الكتاب 1/165، 306، 3/29، والخصائص 2/354، والإنصاف 193، 395، وابن يعيش 7/57، 8/69 والرضي على الكافية 2/269، والخزانة 2/158، والكشاف 3/436، والمغني 553 والأشموني 2/235، والبحر المحيط 7/475، والإفصاح 159، والدر المصون 4/708.
[48408]:هي قراءة شاذة لم ينسبها جار الله الزمخشري وكذلك السمين إلى من قرأ بها. انظر الكشاف 3/436، والدر المصون 4/708.
[48409]:البحر المحيط 7/475 وهو رأي وجيه.
[48410]:وأبو حيان في هذا يرد على ابن عطية مفضلا إطلاق عطف التوهم في القرآن عن قلب الكلام كما قال ابن عطية بذلك.
[48411]:من تمام الوافر، للمرار الفقعسي، وقد تقدم.
[48412]:معاني الفراء 3/11.
[48413]:الدر المصون 4/708.
[48414]:معاني الفراء وإعرابه 4/378.
[48415]:يبدو أنه ابن الأنباري الكوفي أبو بكر العالم الكبير الذي تبحر في علوم جمة، وكان من أعلم الناس وأفضلهم في نحو الكوفيين. من مؤلفاته الأضداد وغيرها مات سنة 336 وانظر نزهة الألباء 178 ـ 186.
[48416]:سقط حرف (في) في القرطبي وهو المناسب للسياق.
[48417]:في القرطبي ويجوز رفعهما.
[48418]:وانظر القرطبي 15/332 والبحر المحيط 7/475، والدر المصون 4/709.
[48419]:زيادة عن النسختين وتصحيح لهما ففيهما ابن معدان ولكن الأصح أنه ابن سعدان أبو جعفر الضرير كان من أكابر الكوفيين، محمد بن سعدان، نشأ بالكوفة، وأخذ عن أبي معاوية الضرير، وغيره، مات سنة 231 هـ وانظر إنباه الرواة للقفطي 2/358، 3/102.
[48420]:مشكل إعراب القرآن 2/268.
[48421]:الدر المصون 4/709.
[48422]:مشكل الإعراب المرجع السابق.
[48423]:كذا في النسختين وفي الدر المصون له "يبعد" بدل "منعه".
[48424]:المرجع السابق وقد قال ابن الأنباري في البيان: "وقد يجيء التقديم للضرورة قليلا في المرفوع وفي المنصوب أقل منه، ولم يجئ ذلك في المجرور ولم يجزه أحد البتة" البيان 2/334.
[48425]:من تمام الوافر وينسب للأحوص، وصدره: ألا يا نخلة من ذات عرق .................................... و "ذات عرق": مكان بين نجد وتهامة، والنخلة يكنى بها عن المرأة. وشاهده: تقديم المعطوف (رحمه الله) على المعطوف عليه (السلام) للضرورة الشعرية وينسب هذا للكوفيين ويروى الشطر الثاني: برود الظل شاعكم السلام وعلى ذلك فلا شاهد حينئذ. وانظر الخصائص 2/386، والخزانة 1/399 ـ 401 والتصريح 1/344، 376 ومجالس ثعلب 239 والرضي 2/93، والهمع 1/173، 220، 2/130، 140، وأمالي الزجاجي 81، والمغني 7/35، 459، وشرح شواهده للسيوطي 777 والدر المصون 710/4.
[48426]:انظر السيوطي في همعه 2/140، 141.
[48427]:نقله في المفردات 237.
[48428]:السابق.
[48429]:اللسان سحر 1942.
[48430]:ما بين القوسين زيادة من أ.
[48431]:من المتقارب وقائله النمر بن تولب، وصواب القافية كما في المرجع السابق: الساسما. والمسجورة: الروضة المملوءة عشبا. والنبع والساسم من شجر الجبال. والشوحط: نوع من التبغ والاستشهاد بالبيت على أن السجورة المملوءة وانظر ابن يعش 8/102، ومجاز القرآن 2/230، 31، والدر المصون 4/710 وغريب القرآن 423، 424.