قوله : { إِذِ الأغلال } فيه سؤال ، هو أن «سوفَ » للاستقبال ، و «إِذْ » للماضي ، فقوله : { فسوف يعلمون إذ الأغلال في أعناقهم } مثل قولك : سَوْفَ أَصُمُ أَمْسِ ، والجواب : جوزوا في «إذ » هذه أن تكون بمعنى «إذا » ؛ لأن العامل فيها محقق الاستقبال وهو فسوف يعلمون .
قالوا : وكما تقع «إذَا » موضع إِذْ في قوله تعالى : { وَإِذَا رَأَوْاْ تِجَارَةً أَوْ لَهْواً انفضوا إِلَيْهَا } [ الجمعة : 11 ] كذلك تقع إِذْ مَوْقِعَهَا .
وقد مضى نَحْوٌ من هذا في البقرة عند قوله تعالى : { وَلَوْ يَرَى الذين ظلموا إِذْ يَرَوْنَ العذاب } [ البقرة : 165 ] قالوا : والذي حسن هذا تيقن وقوع الفعل ، فأخرج في صورة الماضي{[48393]} .
قال شهاب الدين : ولا حاجة إلى إخْراج «إِذْ : عن موضوعها ؛ بل هي باقية على دَلاَلتِهَا على المعنى ، وهي منصوبة بقوله : { فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ } نصب المفعول به ، أي فسوف يعلمون يوم القيامة وقت الأغلال في أعناقهم أيْ وقتَ سببِ الأغلال ، وهي المعاصي التي كانوا يفعلونها في الدنيا ، كأنه قيل : سيعرفون وقت معاصيهم التي تَجْعَلُ الأغلال في أعناقهم وهو وجه واضح غاية ما فيه التصرفُ في إذ يجعلها . وهو وجه واضح غاية ما فيه التصرف في إذ يجعلها مفعولاً بها{[48394]} . ولا يضر ذلك ، فإن المعربين غالب أوقاتهم يقولون : منصوب «باذْكُرْ » مقُدَّراً ، أو لا يكون حينئذ إلا مفعولاً به لاستحالة عمل المستقبل في الزمن الماضي .
وجوز أن يكون منصوباً باذْكُرْ مقدراً ، أي اذكر لهم وَقْتَ الإِغلال ؛ ليخالفوا ويَنْزَجِرُوا ، فهذه ثلاثة أوجه خيرها أوسطها{[48395]} .
قوله : «والسَّلاَسِلُ » العامة على رفعها ، وفيه ثلاثة أوجه :
أحدها : أنه معطوف على الأغْلاَلِ . وأخبر عن النوعين بالجار ، فالجار في نية التأخير والتقدير : إذ الأَغْلاَلُ والسَّلاَسِلُ في أعناقهم{[48396]} .
الثاني : أنه مبتدأ ، والخبر محذوف لدلالة خبر الأول عليه{[48397]} .
الثالث : أنه مبتدأ أيضاً ، وخبره الجملة{[48398]} من قوله : «يُسْحَبُونَ » ولا بُدَّ مِن ذكر ضمير يعود عليه منها ، والتقدير : والسلاسل يُسْحَبُونَ بِهَا ، حذف لِقُوَّة الدَّلالةِ عليه .
«فَيُسْحَبُونَ » مرفوع المحل على هذا الوجه . وأما الوجهين المتقدمين فيجوز فيه النصب على الحال من الضمير المنويّ في الجار ، ويجوز أن يكون مستأنفاً{[48399]} .
وقرأ ابنُ عَبَّاسٍ وابنُ مسعُودٍ وزَيْدُ بْنُ عَلِيِّ وابْنُ وَثَّابٍ ، والحسن في اختياره «والسَّلاَسِلَ » نصباً يَسْحَبُونَ بفتح الياء{[48400]} ، مبنياً للفاعل ، فيكون السلاسل مفعولاً مقدماً ، ويكون قد عطف جملة فعلية على جملة اسمية{[48401]} .
قال ابن عباس في معنى هذه القراءة : إذا كانوا يَجُرُّونَهَا فهو أشد عليهم يكلفون ذلك ولا يطيقونه{[48402]} .
وقرأ ابن عباس وجماعة «والسَّلاَسِل » بالجر{[48403]} يُسْحَبُونَ مبنياً للمفعول وفيها ثلاثةُ تأويلاتٍ :
أحدها : الحمل على المعنى وتقديره إِذْ أَعْنَاقُهُم في الأغلالِ والسلاسلٍ فلما كان معنى الكلام على ذلك حمل عليه في العطف{[48404]} .
قال الزمخشري : ووجهه إنه لو قيل : «إِذْ أَعْنَاقُهُمْ في الأغلال مكان قوله : إِذ الأَغْلاَلُ في أعناقهم » لكان صحيحاً مستقيماً ، فلما كانتا عبارتين مُعْتَقِبَتَيْنِ{[48405]} ، حمل قوله : «والسلاسل » ( عليه ) على العبارة الأخرى{[48406]} . ونظيره :
4347 مَشَائِيمُ لَيْسُوا مُصْلِحينَ عَشِيرةً *** وَلاَ نَاعِبٍ إلاَّ بِبَيْنٍ غُرَابُهَا{[48407]}
وقرئ : بالسَّلاَسلِ{[48408]} . وقال ابن عطية : تقديره : إذا أعناقهم في الأغلال والسلاسلِ فعطف على المراد من الكلام لا على ترتيب اللفظ ؛ إذ ترتيبه فيه قلب ، وهو على حد قول العرب : أَدْخَلْتُ القَلَنْسُوَةَ فِي رَأْسِي{[48409]} .
وفي مصحف أًُبيِّ : وفي السلاسِل يَسْحَبُونها . قال أبو حيان بعد قول ابن عطية والزمخشري المتقدم : ويمسى هذا العطف على التوهم ، إلا أن قولهم : إدخال حرف الجر على مصلحين أقرب من تغيير تركيب الجملة بأسرها ، والقراءة من تغيير تركيب الجملة السابقة بأسرها{[48410]} ، ونظير ذلك قوله :
4348 أَجِدَّكَ لَنْ تَرَى بثُعَيْلبَاتٍ *** وَلاَ بَيْدَاءَ نَاجِيَةً ذَمُولاَ
وَلاَ مُتَدارِكٍ واللَّيْلُ طِفْلٌ *** بِبعْضِ نَوَاشِغِ الوَادِي حُصًُولاً{[48411]}
التقدير : لَسْتَ براءٍ ولا بمتداركٍ .
وهذا الذي قالاه سبقهما إليه الفَرَّاءُ فإِنه قال : «من جر السلاسل حمله على المعنى »{[48412]} ، إذ المعنى أعناقهم في الأغلال والسلاسل .
الوجه الثاني : أنه عطف على «الحميم »{[48413]} ، فقدم على المعطوف عليه وسيأتي تقرير ذلك .
الثالث : أن الجر على تقدير إضمار الخافض ويؤيده قراءة أُبَيٍّ : «وفِي السَّلاَسِلِ » وقرأ غيره : وبالسَّلاَسِلِ وإلى هذا نحا الزجاج{[48414]} ، إلاَّ أنَّ الأنباريِّ{[48415]} ردَّه وقال : لو قلت : «زيد في الدار » لم يحسن أن تضمر «في » فتقول : زيد ( في ){[48416]} الدار ثم ذكر تأويل الفراء وخرج القراءة عليه . ثم قال : كما تقول : «خَاصَمَ عَبْد اللهِ زَيْداً العَاقِليْنِ » ، بنصب «العاقلين » ورفعه{[48417]} ؛ لأن أحدهما إذا خاصم صاحبه فقد خاصمه الآخر{[48418]} .
وهذه المسألة ليست جارية على أصول البصريين ، ونصّوا على منعها وإنما قال بها من الكوفيين ابْنُ ( سَ ){[48419]} عْدَانَ .
وقال مَكيّ : وقد قرئ : والسَّلاَسلِ بالخفض على العطف على الأعناق ، وهو غلط ؛ لأنه يصير الأغلال في الأعناق وفي السلاسل ولا معنى للأغلال في السَّلاَسل{[48420]} .
قال شهاب الدين : وقوله : على العطف على الأعناق ممنوع بل خفضه على ما تقدم{[48421]} . وقال أيضاً : وقيل : هو معطوف على «الحميم » وهو أيضاً لا يجوز ؛ لأن المعطوف المخفوض ، لا يتقدم على المعطوف عليه لو قلت : «مَرَرْتُ وَزَيْدٍ بِعَمْرو » لم يجز ، وفي المرفوع يجوز ، نحو : قَام وَزَيْدٌ عَمْرٌ ، ويبعد في المنصوب لا يحسن رأيتُ وَزَيْداً عَمْراً ، ولم يُجِزْهُ في المخفوض أحدٌ{[48422]} .
قال شهاب الدين : وظاهر كلامه أنه يجوز في المرفوع منعه{[48423]} ، وقد نصوا أنه لا يجوز إلا ضرورة بثلاثة شروط :
أن لا يقع حرف العطف صدراً ، وأن يكون العامل متصرفاً ، وأن لا يكون المعطوف عليه مجروراً{[48424]} وأنشدوا :
4349 . . . . . . . . . . . . . . *** عَلَيْكِ وَرَحْمَةُ اللهِ السَّلاَمُ{[48425]}
إلى غير ذلك من الشواهد مع تنصيصهم على أنه مختص{[48426]} بالضرورة . و «السَّلاَسِلُ » معروفة ، قال الراغب : «وتَسَلْسَلَ الشيءُ اضطرب كأنه تُصُوِّر منه تسلسلٌ متردد فتردد لفظه تنبيهاً على تردد معناه . وماء سلسل متردد في مقره »{[48427]} .
والسَّحْبُ : الجر بعنف ، والسَّحابُ من ذلك لأن الريح تَجُرُّوهُ ، أو لأنه يجر الماء{[48428]} ، وسجرت التَّنُّورَ أي ملأته ناراً وهيجتها ، ومنه البحر المسجور ، أي المملوء ، وقيل : المضطرب ناراً{[48429]} ، وقال الشاعر ( رحمة الله عليه{[48430]} ) :
4350 إِذَا شَاءَ طَالَعَ مَسْجُورةً *** تَرَى حَوْلَهَا النَّبْعَ والشَّوْحَطَا{[48431]}