ثم أوعده على غيبته فقال :{ لأعذبنه عذاباً شديداً } واختلفوا في العذاب الذي أوعده به ، فأظهر الأقاويل أن ينتف ريشه وذنبه ويلقيه في الشمس ممعطاً ، لا يمتنع من النمل ولا من هوام الأرض . وقال مقاتل بن حيان : لأطلينه بالقطران ولأشمسنه . وقيل : لأودعنه القفص . وقيل : لأفرقن بينه وبين إلفه . وقيل : لأحبسنه مع ضده . { أو لأذبحنه } لأقطعن حلقه ، { أو ليأتيني بسلطان مبين } بحجة بينة في غيبته ، وعذر ظاهر ، قرأ ابن كثير : { ليأتيني } بنونين ، الأولى مشددة ، وقرأ الآخرون بنون واحدة مشددة . وكان سبب غيبة الهدهد على ما ذكره العلماء : أن سليمان لما فرغ من بناء بيت المقدس عزم على الخروج إلى أرض الحرم ، فتجهز للمسير ، واستصحب من الجن والإنس والشياطين والطيور والوحوش ما بلغ معسكره مائة فرسخ ، فحملتهم الريح ، فلما وافى الحرم أقام به ما شاء الله أن يقيم ، وكان ينحر كل يوم بمقامه بمكة خمسة آلاف ناقة ويذبح خمسة آلاف ثور وعشرين ألف كبش ، وقال لمن حضره من أشراف قومه : إن هذا مكان يخرج منه نبي عربي صفته كذا وكذا ، يعطى النصر على جميع من نأواه ، وتبلغ هيبته مسيرة شهر ، القريب والبعيد عنده في الحق سواء ، لا تأخذه في الله لومة لائم . قالوا فبأي دين يدين يا نبي الله ؟ قال : يدين بدين الحنفية ، فطوبى لمن أدركه وآمن به ، فقالوا : كم بيننا وبين خروجه يا نبي الله ؟ قال مقدار ألف عام فليبلغ الشاهد منكم الغائب ، فإنه سيد الأنبياء وخاتم الرسل ، قال : فأقام بمكة حتى قضى نسكه ، ثم خرج من مكة صباحاً ، وسار نحو اليمن فوافى صنعاء وقت الزوال ، وذلك مسيرة شهر ، فرأى أرضاً حسناء تزهو خضرتها فأحب النزول بها ليصلي ويتغدى ، فلما نزل قال الهدهد : إن سليمان قد اشتغل بالنزول فارتفع نحو السماء لينظر إلى طول الدنيا وعرضها ، ففعل ذلك ، فنظر يميناً وشمالاً ، فرأى بستاناً لبلقيس ، فمال إلى الخضرة فوقع فيه فإذا هو بهدهد فهبط عليه ، وكان اسم هدهد سليمان يعفور واسم هدهد اليمن يعفير ، فقال يعفير اليمن ليعفور سليمان : من أين أقبلت وأين تريد ؟ قال : أقبلت من الشام مع صاحبي سليمان بن داود . فقال : ومن سليمان ؟ قال ملك الجن والإنس والشياطين والطير والوحوش والرياح ، فمن أين أنت ؟ قال : أنا من هذه البلاد ، قال : ومن ملكها ؟ قال : امرأة يقال لها بلقيس ، وإن لصاحبكم ملكاً عظيماً ولكن ليس ملك بلقيس دونه ، فإنها ملكة اليمن كلها ، وتحت يدها إثنا عشر ألف قائد ، تحت يد كل قائد مائة ألف مقاتل ، فهل أنت منطلق معي حتى تنظر إلى ملكها ؟ قال : أخاف أن يتفقدني سليمان في وقت الصلاة إذا احتاج إلى الماء ، قال الهدهد اليماني : إن صاحبك يسره أن تأتيه بخبر هذه الملكة ، فانطلق معه ونظر إلى بلقيس وملكها ، وما رجع إلى سليمان إلا في وقت العصر . قال : فلما نزل سليمان ودخل عليه وقت الصلاة وكان نزل على غير ماء ، فسأل الإنس والجن والشياطين عن الماء فلم يعلموا ، فتفقد الطير ، ففقد الهدهد ، فدعا عريف الطير وهو النسر ، فسأله عن الهدهد ، فقال : أصلح الله الملك ، ما أدري أين هو ، وما أرسلته إلى مكان ، فغضب عند ذلك سليمان ، وقال : { لأعذبنه عذاباً شديداً } الآية . ثم دعا العقاب سيد الطير فقال : علي بالهدهد الساعة ، فرفع العقاب نفسه دون السماء حتى التزق بالهواء فنظر إلى الدنيا كالقصعة بين يدي أحدكم ثم التفت يميناً وشمالاً فإذا هو بالهدهد مقبلاً من نحو اليمين ، فانقض العقاب نحوه يريده ، فلما رأى الهدهد ذلك علم أن العقاب يقصده بسوء فناشده ، فقال : بحق الله الذي قواك وأقدرك علي إلا رحمتني ولم تتعرض لي بسوء ، قال : فولى عنه العقاب ، وقال له : ويلك ثكلتك أمك ، إن نبي الله قد حلف أن يعذبك أو يذبحك ، ثم طارا متوجهين نحو سليمان ، فلما انتهيا إلى العسكر تلقاه النسر والطير ، فقالوا له : ويلك أين غبت في يومك هذا ؟ ولقد توعدك نبي الله ، وأخبراه بما قال ، فقال الهدهد : أو ما استثنى رسول الله ؟ قالوا : بلى ، قال : أو ليأتيني بسلطان مبين ؟ قال : فنجوت إذاً ، ثم طار العقاب والهدهد حتى أتيا سليمان وكان قاعداً على كرسيه ، فقال العقاب قد أتيتك به يا نبي الله ، فلما قرب الهدهد رفع رأسه وأرخى ذنبه وجناحيه يجرهما على الأرض تواضعاً لسليمان ، فلما دنا منه أخذ برأسه فمده إليه وقال له : أين كنت ؟ لأعذبنك عذاباً شديداً ؟ فقال الهدهد : يا نبي الله اذكر وقوفك بين يدي الله تعالى ، فلما سمع سليمان ذلك ارتعد وعفا عنه ، ثم سأله فقال : ما الذي أبطأ بك عني ؟
فحينئذ تغيظ عليه وتوعده فقال : { لأعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا } دون القتل ، { أَوْ لأذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ } أي : حجة واضحة على تخلفه ، وهذا من كمال ورعه وإنصافه أنه لم يقسم على مجرد عقوبته بالعذاب أو القتل لأن ذلك لا يكون إلا من ذنب ، وغيبته قد تحتمل أنها لعذر واضح فلذلك استثناه لورعه وفطنته .
وقوله - تعالى - : { لأُعَذِّبَنَّهُ عَذَاباً شَدِيداً أَوْ لأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ } بيان للحكم الذى أصدره سليمان - عليه السلام - على الهدهد بسبب غيابه بدون إذن .
أى : لأعذبن الهدهد عذاباً شديداً يؤلمه ، أو لأذبحنه ، أو ليأتينى بحجة قوية توضح سبب غيابه . وتقنعنى بالصفح عنه ، وبترك تعذيبه ، أو ذبحه .
فأنت ترى أن سليمان - عليه السلام - وهو النبى الملك الحكيم العادل - يقيد تعذيب الهدهد أو ذبحه . بعدم إتيانه بالعذر بالمقبول عن سبب غيابه ، أما إذا أتى بهذا العذر فإنه سيعفو عنه ، ويترك عقابه .
فكأنه - عليه السلام - يقول : هذا الهدهد الغائب إما أن أعذبه عذاباً شديداً وإما أن أذبحهى بعد حضوره ، وإما أن يأتينى بعذر مقبول عن سبب غيابه ، وفى هذه الحالة فأنا سأعفو عنه .
وقوله : { لأعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا } : قال الأعمش ، عن المِنْهَال بن عمرو ، عن سعيد ، عن ابن عباس : يعني نتف ريشه .
وقال عبد الله بن شداد : نتف ريشه وتشميسه . وكذا قال غير واحد من السلف : إنه نتف ريشه ، وتركه مُلْقًى يأكله الذر والنمل .
وقوله : { أَوْ لأذْبَحَنَّهُ } يعني : قتله ، { أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ } أي : بعذر واضح بين .
وقال سفيان بن عيينة ، وعبد الله بن شداد : لما قدم الهدهد قال له الطير : ما خلفك ، فقد نذر سليمان دمك ! فقال : هل استثنى ؟ فقالوا : نعم ، قال : { لأعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا أَوْ لأذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ } فقال : نجوت إذًا .
قال مجاهد : إنما دفع [ الله ]{[22012]} عنه ببره بأمه{[22013]} .
وقوله : لأُعَذّبَنّهُ عَذَابا شَدِيدا يقول : فلما أخبر سليمان عن الهدهد أنه لم يحضر وأنه غائب غير شاهد ، أقسم لأُعَذّبَنّه عَذَابا شَدِيدا وكان تعذيبه الطير فيما ذُكر عنه إذا عذّبها أن ينتف ريشها . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا أبو كُرَيب ، قال : حدثنا الحماني ، عن الأعمش ، عن المنهال ، عن سعيد بن جُبَير ، عن ابن عباس ، في قوله لأُعَذّبَنّهُ عَذَابا شَدِيدا قال : نتف ريشه .
حدثنا أبو كُرَيب ، قال : حدثنا ابن عطية ، عن شريك ، عن عطاء ، عن مجاهد ، عن ابن عباس ، في لأُعَذّبَنّهُ عَذَابا شَدِيدا عذابه : نتفه وتشميسه .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله لأُعَذّبَنّهُ عَذَابا شَدِيدا قال : نتف ريشه وتشميسه .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد لأُعَذّبَنّهُ عَذَابا شَدِيدا قال : نتف ريشه كله .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، عن مجاهد ، قوله لأُعَذّبَنّهُ عَذَابا شدِيدا قال : نتف ريش الهدهد كله ، فلا يغفو سنة .
قال : ثنا الحسين ، قال : حدثنا أبو سفيان ، عن معمر ، عن قَتادة ، قال : نتف ريشه .
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله لأُعَذّبَنّهُ عَذَابا شَدِيدا يقول : نتف ريشه .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، قال : ثني ابن إسحاق ، عن يزيد بن رومان أنه حدّث أن عذابه الذي كان يعذّب به الطير نتف جناحه .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد : قيل لبعض أهل العلم : هذا الذبح ، فما العذاب الشديد ؟ قال : نتف ريشه بتركه بَضعة تنزو .
حدثنا سعيد بن الربيع الرازيّ ، قال : حدثنا سفيان ، عن عمرو بن بشار ، عن ابن عباس ، في قوله لأُعَذّبَنّهُ عَذَابا شَدِيدا قال : نتفه .
حدثني سعيد بن الربيع ، قال : حدثنا سفيان ، عن حسين بن أبي شدّاد ، قال : نتفه وتشميسه .
أو لأذبحنه ، يقول : أو لأقتلنه . كما :
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول ، في قوله : أوْ لأَذْبَحَنّه يقول : أو لأقتلنه .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثنا عباد بن العوّام ، عن حُصَين ، عن عبد الله بن شدّاد : لأُعَذّبَنّهُ عَذَابا شَدِيدا أَوْ لأَذْبحَنّهُ . . . الاَية ، قال : فتلقاه الطير ، فأخبره ، فقال : ألم يستثن ؟
وقوله : أوْ لَيَأْتِيَنّي بسُلْطانٍ مُبِينٍ يقول : أو ليأتيني بحجة تبين لسامعها صحتها وحقيقتها . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا عليّ بن الحسين الأزديّ ، قال : حدثنا المعافىَ بن عمران ، عن سفيان ، عن عمار الدّهْني ، عن سعيد بن جُبَير ، عن ابن عباس ، قال : كل سلطان في القرآن فهو حجة .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله أوْلَيَأْتِيَنّي بِسُلْطانٍ مَبِينٍ يقول : ببينة أعذره بها ، وهو مثل قوله : الّذِينَ يُجادِلُونَ في آياتِ اللّهِ بغَيْرِ سُلْطانٍ يقول : بغير بيّنة .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا سفيان ، عن رجل ، عن عكرِمة ، قال : كل شيء في القرآن سلطان ، فهو حجة .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثنا عبد الله ، بن يزيد ، عن قَباث بن رَزِين ، أنه سمع عكرِمة يقول : سمعت ابن عباس يقول : كلّ سلطان في القرآن فهو حجة ، كان لهدهد سلطان .
حدثنا الحسين ، قال : حدثنا أبو سفيان ، عن معمر ، عن قَتادة أوْلَيَأْتِيَنّي بِسُلْطانٍ مُبِينٍ قال : بعذر بين .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن بعض أهل العلم ، عن وهب بن منبه أوْلَيأْتِيَنّي بِسُلْطانٍ مُبِينِ : أي بحجة عذر له في غيبته .
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول ، في قوله : أوْليَأْتِيَنّي بِسُلْطانٍ مُبِينِ يقول : ببينة ، وهو قول الله الّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللّهِ بغَيْرِ سُلْطانٍ بغير بينة .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله أوْلَيَأْتِيَنّي بِسُلْطانٍ مُبِينٍ قال : بعذر أعذره فيه .
{ لأعذبنه عذابا شديدا } كنتف ريشه وإلقائه في الشمس ، أو حيث النمل يأكله أو جعله مع ضده في قفص . { أو لأذبحنه } ليعتبر به أبناء جنسه . { أو ليأتيني بسلطان مبين } بحجة تبين عذره ، والحلف في الحقيقة على أحد الأولين بتقدير عدم الثالث لكن لما اقتضى ذلك وقوع أحد الأمور الثلاثة ثلث المحلوف عليه بعطفه عليهما ، وقرأ ابن كثير أو " ليأتينني " بنونين الأولى مفتوحة مشددة .
ثم توعده عليه السلام بالعذاب ، وروي عن ابن عباس ومجاهد وابن جريج أن تعذيبه للطير كان بأن تنتف ، قال ابن جريج : ريشه أجمع ، وقال يزيد بن رومان{[3]} : جناحاه ، وروى ابن وهب أنه بأن تنتف أجمع وتبقى بضعة تنزو ، و «السلطان » الحجة حيث وقع في القرآن ، قاله عكرمة عن ابن عباس ، وقرأ ابن كثير وحده «ليأتينني » بنونين ، وفعل سليمان هذا بالهدهد إغلاظاً عن العاصين وعقاباً على إخلاله بنوبته ورتبته .
قول سليمان { لأعذبنه عذاباً شديداً } شريعة منسوخة .
أما العقاب الخفيف للحيوان لتربيته وتأديبه كضرب الخيل لتعليم السير ونحو ذلك فهو مأذون فيه لمصلحة السير ، وكذلك السبق بين الخيل مع ما فيه من إتعابها لمصلحة السير عليها في الجيوش .
و { أو } تفيد أحَدَ الأشياء فقوله : { أو ليأتيني بسلطان مبين } جعله ثالث الأمور التي جعلها جزاء لغيبته وهو أن يأتي بما يدفع به العقاب عن نفسه من عذر في التخلف مقبول .
والسلطان : الحجة . والمبين : المظهر لحق المحتج بها . وهذه الزيادة من النبي سليمان استقصاء للهدهد في حقه لأن الغائب حجته معه .
وأكد عزمه على عقابه بتأكيد الجملتين { لأعذبنه لأذبحنه } باللام الموكدة التي تسمى لام القسم وبنون التوكيد ليَعلم الجند ذلك حتى إذا فُقِد الهدهد ولم يرجع يكون ذلك التأكيد زاجراً لباقي الجند عن أن يأتوا بمثل فَعْلته فينالهم العقاب .
وأما تأكيد جملة : { أو ليأتيني بسلطان مبين } فلإفادة تحقيق أنه لا منجى له من العقاب إلا أن يأتي بحجة تبرّر تغيبه ، لأن سياق تلك الجملة يفيد أن مضمونها عديل العقوبة . فلما كان العقاب مؤكّدا محققاً فقد اقتضى تأكيد المخرج منه لئلا يبرئه منه إلا تحقق الإتيان بحجة ظاهرة لئلا تتوهم هوادةٌ في الإدلاء بالحجة فكان تأكيد العديل كتأكيد مُعادله . وبهذا يظهر أن { أو } الأولى للتخيير و { أو } الثانية للتقسيم .
وقيل جيء بتوكيد جملة : { ليأتيني } مشاكلة للجملتين اللتين قبلها وتغليباً . واختاره بعض المحققين وليس من التحقيق .
وكتب في المصاحف { لا أذبحنه } بلاَم ألففٍ بعدها ألفٌ حتى يخال أنه نفي الذبح وليس بنفي ، لأن وقوع نون التوكيد بعده يؤذن بأنه إثبات إذ لا يؤكد المنفي بنون التأكيد إلا نادراً في كلامهم ، ولأن سياق الكلام والمعنى حارس من تطرق احتمال النفي ، ولأن اعتماد المسلمين في ألفاظ القرآن على الحفظ لا على الكتابة ، فإن المصاحف ما كتبت حتى قرىء القرآن نَيِّفاً وعشرين سنة . وقد تقع في رسم المصحف أشياء مخالفة لما اصطلح عليه الراسمون من بعد لأن الرسم لم يكن على تمام الضبط في صدر الإسلام وكان اعتماد العرب على حوافظهم .
وقرأ ابن كثير : { أو ليأتينَّني } بنونين ، الأولى مشددة وهي نون التوكيد ، والثانية نون الوقاية . وقرأ الباقون بنون واحدة مشددة بحذف نون الوقاية لتلاقي النونات .