فتح البيان في مقاصد القرآن للقنوجي - صديق حسن خان  
{لَأُعَذِّبَنَّهُۥ عَذَابٗا شَدِيدًا أَوۡ لَأَاْذۡبَحَنَّهُۥٓ أَوۡ لَيَأۡتِيَنِّي بِسُلۡطَٰنٖ مُّبِينٖ} (21)

فلما تحقق الغيبة قال :{ لأعذبنه عذابا شديدا } اختلفوا في هذا العذاب الشديد ما هو ؟ فقال ابن عباس ومجاهد وابن جرير : هو أن ينتف ريشه جميعا وروي نحو هذا عن جماعة من التابعين ، وقال زيد ابن رومان : هو أن ينتف ريش جناحه وقيل : يحبسه من أضداده ، وقيل : أن يمنعه من خدمته وقيل : إلقاءه في الشمس وقيل : التفريق بينه وبين إلفه . وقيل : إلزامه خدمته أقرانه . وقيل : إيداعه في القفص . وقيل : طرحه بين يدي النمل ليأكله ، وفي هذا دليل على أن العقوبة على قدر الذنب ، لا على قدر الجسد . وحل له تعذيب الهدهد لما رأى فيه المصلحة ، كما حل ذبح البهائم والطيور للأكل وغيره من المنافع ، وإذا سخر له الطير لم يتم التسخير إلا بالتأديب والسياسة .

وعن الحسن قال : كان اسم هدهد سليمان غبر ، قال الشوكاني : لا أدري من أين جاء هذا للحسن رحمه الله ، وهكذا روي عنه أن اسم النملة حرس ، وأنها قبيلة يقال لهم بنو الشيصان ، وأنها كانت عرجاء ، وكانت بقدر الذئب ، وهو رحمه الله أروع الناس عن نقل الكذب ، ونحن نعلم أنه لم يصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك شيء ، ونعلم أنه ليس للحسن إسناد متصل بسليمان أو أحد من أصحابه فهذا العلم مأخوذ من أهل الكتاب .

وقد أمرنا أن لا نصدقهم ولا نكذبهم . فإن ترخص مترخص بالرواية عنهم لمثل ما روي . حدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج ، فليس ذلك مما يتعلق بتفسير كتاب الله سبحانه بلا شك ، بل فيما يذكر عنهم من القصص الواقعة لهم . وقد كرر التنبيه على مثل هذا عند عروض ذكر التفاسير الغريبة .

{ أو لأذبحنه } بقطع حلقومه { أو ليأتيني بسلطان مبين } هو الحجة البينة في غيبته . قال ابن عباس : السلطان المبين خبر الحق الصدق البين . وعنه قال : كل سلطان في القرآن حجة ، وذكر هذه الآية ثم قال : وأي سلطان كان للهدهد ؟ يعني أن المراد بالسلطان الحجة لا السلطان الذي هو الملك ، والحلف في الحقيقة على أحد الأولين بتقدير عدم الثالث ، فكلمة ( أو ) بين الأولين للتخيير ، وفي الثالث للترديد بينه وبينهما .

قال الزمخشري : فإن قلت : قد حلف على أحد ثلاثة أشياء فحلفه على فعله لا كلام فيه ، ولكن كيف يصح حلفه على فعل الهدهد ؟ ومن أين درى أنه يأتي بسلطان ؟

قلت : لما نظم الثلاثة بأو في الحكم الذي هو الحلف ، آل كلامه إلى قولك : ليكونن أحد الأمور ، يعني إن كان الإتيان بسلطان ، لم يكن تعذيب ولا ذبح ، وإن لم يكن ، كان أحدهما ، وليس في هذا ادعاء دراية انتهى . و ( أو ) الثانية ترجع في المعنى إلى أنها بمعنى إلا وهي قيد في كل الأمرين قبلها ، فكأنه قال : لأعذبنه إلا أن يأتيني أو لأذبحنه إلا أن يأتيني بسلطان مبين .