{ لَوْلَا أَنْ تَدَارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَرَاءِ } أي : لطرح في العراء ، وهي الأرض الخالية { وَهُوَ مَذْمُومٌ } ولكن الله تغمده{[1202]} برحمته فنبذ وهو ممدوح ، وصارت حاله أحسن من حاله الأولى ، ولهذا قال : { فَاجْتَبَاهُ رَبُّهُ }
وقوله - سبحانه - : { لَّوْلاَ أَن تَدَارَكَهُ نِعْمَةٌ مِّن رَّبِّهِ لَنُبِذَ بالعرآء وَهُوَ مَذْمُومٌ . .
استئناف لبيان جانب من فضله - تعالى - على عبده يونس - عليه السلام - .
و { لَّوْلاَ } هنا حرف امتناع لوجود ، و { أَن } يجوز أن تكون مخففة من { أَن } الثقيلة ، واسمها ضمير الشأن ، وهو محذوف ، وجملة { تَدَارَكَهُ نِعْمَةٌ مِّن رَّبِّهِ } خبرها .
ويجوز أن تكون مصدرية ، أى : لولا تدارك رحمة من ربه .
والتدارك : تفاعل من الدرك - بفتح الدال - بمعنى اللحاق بالغير . والمقصود به هنا : المبالغة فى إدراك رحمة الله - تعالى - لعبده يونس - عليه السلام - .
قال الجمل : قرأة العامة : { تَدَارَكَهُ } وهو فعل ماضى مذكر ، حمل على معنى النعمة ، لأن تأنيثها غير حقيقى ، وقرأ ابن عباس وابن مسعود : تدراكه - على لفظ النعمة - وهو خلاف المرسوم .
والمراد بالنعمة : رحمته - سبحانه - بيونس - عليه السلام - وقبول توبته ، وإجابة دعائه . .
والنبذ : الطرح والترك للشئ ، والعراء : الأرض الفضالة الخالية من النبات وغيره .
والمعنى : لولا أن الله - تدارك عبده يونس برحمته ، وبقبول توبته . . لطرح من بطن الحوت بالأرض الفضاء الخالية من النبات والعمران . . وهو مذموم ، أى : وهو ملوم ومؤاخذ منا على ما حدث منه . .
ولكن ملامته ومؤاخذته منا قد امتنعت ، لتداركه برحمتنا ، حيث قبلنا توبته ، وغسلنا حوبته ، ومنحناه الكثير من خيرنا وبرنا . .
فالمقصود من الآية الكريمة بيان جانب من فضل الله - تعالى - على عبده يونس - عليه السلام - ، وبيان أن رحمته - تعالى - به ، ونعمته عليه ، قد حالت بينه ويبن أن يكن مذموما على ما صدر منه ، من مغاضبة لقومه ومفارقته لهم بدون إذن من ربه . .
قال الجمل ما ملخصه : قوله : { وَهُوَ مَذْمُومٌ } أى : ملوم ومؤاخذ بذنبه والجملة حال من مرفوع " نُبِذ " وهى محط الامتناع المفاد بلولا ، فهى المنفية لا النبذ بالعراء . .
أى : لنبذ بالعراء وهو مذموم ، لكنه رُحِم فنبذ غير مذموم . .
فلولا - هنا - ، حرف امتناع لوجود ، وأن الممتنع القيد فى جوابها لا هو نفسه .
يقول تعالى : { فَاصْبِرْ } يا محمد على أذى قومك لك وتكذيبهم ؛ فإن الله سيحكم لك عليهم ، ويجعل العاقبة لك ولأتباعك في الدنيا والآخرة ، { وَلا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ } يعني : ذا النون ، وهو يونس بن متى ، عليه السلام ، حين ذهب مُغَاضِبًا على قومه ، فكان من أمره ما كان من ركوبه في البحر والتقام الحوت له ، وشرود الحوت به في البحار وظلمات غمرات اليم ، وسماعه تسبيح البحر بما فيه للعلي القدير ، الذي لا يُرَدّ ما أنفذه من التقدير ، فحينئذ نادى في الظلمات . { أَنْ لا إِلَهَ إِلا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ } [ الأنبياء : 87 ] . قال الله { فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ } [ الأنبياء : 88 ] ، وقال تعالى : { فَلَوْلا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ } [ الصافات : 143 ، 144 ] وقال هاهنا : { إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ } قال ابن عباس ، ومجاهد ، والسدي : وهو مغموم . وقال عطاء الخراساني ، وأبو مالك : مكروب .
وقد قدمنا في الحديث أنه لما قال : { لا إِلَهَ إِلا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ } خرجت الكلمة تَحُفّ حول العرش ، فقالت الملائكة : يا رب ، هذا صوت ضعيف معروف من بلاد غريبة . فقال الله : أما تعرفون هذا ؟ قالوا : لا . قال : هذا يونس . قالوا : يا رب ، عبدك الذي لا يزال يرفع له عمل صالح ودعوة مجابة ؟ قال : نعم . قالوا : أفلا ترحم ما كان يعمله في الرخاء فتنجيه من البلاء ؟ فأمر الله الحوت فألقاه بالعراء ؛ ولهذا قال تعالى : { فَاجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ }
وقد قال الإمام أحمد : حدثنا وكيع ، حدثنا سفيان ، عن الأعمش ، عن أبي وائل ، عن عبد الله قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا ينبغي لأحد أن يقول : أنا خير من يونس بن متى " .
ورواه البخاري من حديث سفيان الثوري{[29214]} وهو في الصحيحين من حديث أبي هريرة{[29215]} .
وقوله : لَوْلا أنْ تَدَارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبّهِ يقول جلّ ثناؤه : لولا أن تدارك صاحب الحوت نعمة من ربه ، فرحمه بها ، وتاب عليه من مغاضبته ربه لَنُبِذَ بالعَرَاءِ وهو الفضاء من الأرض : ومنه قول بن جَعْدة :
وَرَفَعْتُ رِجْلاً لا أخافُ عِثارَها *** وَنَبَذْتُ بالبَلَدِ العَرَاءِ ثِيابِي
وَهُوَ مَذْمُومٌ اختلف أهل التأويل في معنى قوله : وَهُوَ مَذْمُومٌ فقال بعضهم : معناه وهو مُلِيم . ذكر من قال ذلك :
حدثني عليّ ، قال : ثني أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، في قوله : وَهُوَ مَذْمُومٌ يقول : وهو مليم .
وقال آخرون : بل معنى ذلك : وهو مذنب ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا المعتمر ، عن أبيه عن بكر وَهُوَ مَذْمُومٌ قال : هو مذنب .
وقرأ جمهور الناس : «لولا أن تداركه » أسند الفعل دون علامة تأنيث ، لأن تأنيث النعمة غير حقيقي وقرأ أبيّ بن كعب وابن مسعود وابن عباس : «تداركته » على إظهار العلامة ، وقرأ ابن هرمز{[11269]} والحسن : «تدّاركه » بشد الدال على معنى : تتداركه وهي حكاية حال تام ، فلذلك جاء الفعل مستقبلاً بمعنى : { لولا أن } ، يقال فيه تتداركه نعمة من ربه ونحوه ، قوله تعالى : { فوجد فيها رجلين يقتتلان }{[11270]} فهذا وجه القراءة ، ثم أدغمت التاء في الدال ، والنعمة : هي الصفح والتوب ، والاجتباء : الذي سبق له عنده ، والعراء : الأرض الواسعة التي ليس فيها شيء يوارى من بناء ولا نبات ولا غيره من جبل ونحوه ، ومنه قول الشاعر [ أبو الخراش الهذلي ] : [ الكامل ]
رفعت رجلاً لا أخاف عثارها . . . ونبذت بالأرض العراء ثيابي{[11271]}
وقوله : { لولا أن تداركه نعمة من ربّه لَنُبذ بالعراء } إلخ استئناف بياني ناشىء عن مضمون النهي من قوله : { ولا تكن كصاحب الحوت إذ نادى } إلخ لأنه يتضمن التحذير من الوقوع في كرب من قبيل كرب يونس ثم لا يدري كيف يكون انفراجه .
و { أنْ } يجوز أن تكون مخففة من ( أنَّ ) ، واسمها ضمير شأن محذوف ، وجملة { تداركه نعمة من ربّه } خبرها . ويجوز أن تكون مصدرية ، أي لولا تدارك رحمة من ربّه .
والتدارك : تفاعل من الدرَك بالتحريك وهو اللحاق ، أي أن يلحق بعضُ السائرين بعضاً وهو يقتضي تسابقهم وهو هنا مستعمل في مبالغة إدراك نعمة الله إياه .
والنبذ : الطرح والترك . والعراء ممدوداً : الفضاء من الأرض الذي لا نبات فيه ولا بناء .
والمعنى : لنبذهُ الحوت أو البحر بالفضاء الخالي لأن الحوت الذي ابتلعه من النوع الذي يُرضع فراخه فهو يقترب من السواحل الخالية المترامية الأَطراف خوفاً على نفسه وفراخه .
والمعنى : أن الله أنعم عليه بأن أنبت عليه شجرة اليقطين كما في سورة الصافات .
وأُدمج في ذلك فضل التوبة والضراعة إلى الله ، وأنه لولا توبته وضراعته إلى الله وإنعام الله عليه نعمة بعدَ نعمة لقذفه الحوت من بطنه ميتاً فأخرجه الموج إلى الشاطىء فلكان مُثْلة للناظرين أو حيّاً منبوذاً بالعراء لا يجد إسْعافاً ، أو لَنجا بعد لأي والله غاضب عليه فهو مذموم عند الله مسخوط عليه . وهي نعم كثيرة عليه إذ أنقذه من هذه الورطات كلها إنقاذاً خارقاً للعادة .
وهذا المعنى طوي طياً بديعاً وأشير إليه إشارة بليغة بجملة { لولا أن تداركه نعمة من ربّه لنبذ بالعراء وهو مذموم .
وطريقة المفسرين في نشر هذا المطوي أن جملة وهو مذموم } في موضع الحال وأن تلك الحال قيد في جواب { لَولا } ، فتقدير الكلام : لولا أن تداركه نعمة من ربّه لنبذ بالعراء نبذاً ذميماً ، أي ولكن يونس نبذ بالعراء غيرَ مذموم .
والذي حملهم على هذا التأويل أن نبذه بالعراء واقع فلا يستقيم أن يكون جواباً للشرط لأن { لولا } تقتضي امتناعاً لوُجودٍ ، فلا يكون جوابها واقعاً فتعين اعتبار تقييد الجواب بجملة الحال ، أي انتفى ذمه عند نبذه بالعراء .
ويلوح لي في تفصيل النظم وجه آخر وهو أن يكون جواب { لولا } محذوفاً دل عليه قوله { وهو مكظوم } مع ما تفيده صيغة الجملة الاسمية من تمكن الكظم كما علمت آنفاً ، فتلك الحالة إذا استمرت لم يحصل نبذه بالعراء ، ويكون الشرط ب { لولا } لاحقاً لجملة { إذ نادى وهو مكظوم } ، أي لبقي مكظوماً ، أي محبوساً في بطن الحوت أبداً ، وهو معنى قوله في سورة الصافات ( 143 144 ) { فلولا أنه كان من المسبّحين للبث في بطنه إلى يوم يبعثون } ، وتجعل جملة { لَنُبِذ بالعراء وهو مذموم } استئنافاً بيانياً ناشئاً عن الإِجمال الحاصل من موقع { لَولا } .
واللام فيها لام القسم للتحقيق لأنه خارق للعادة فتأكيده لرفع احتمال المجاز . والمعنى : لقد نبذ بالعراء وهو مذموم . والمذموم : إمّا بمعنى المذنب لأن الذنب يقتضي الذمَّ في العاجل والعقاب في الآجل ، وهو معنى قوله في آية الصافات ( 142 ) { فالتقمه الحوت وهو مُليم } وإِمّا بمعنى العيب وهو كونه عارياً جائعاً فيكون في معنى قوله : { فنبذناه بالعراء وهو سقيم } [ الصافات : 145 ] فإن السقم عيب أيضاً .