قوله عز وجل :{ ظهر الفساد في البر والبحر } يعني : قحط المطر وقلة النبات ، وأراد بالبر البوادي والمفاوز ، وبالبحر المدائن والقرى التي هي على المياه الجارية . قال عكرمة : العرب تسمي المصر بحراً ، يقال : أجدب البر وانقطعت مادة البحر ، { بما كسبت أيدي الناس } أي : بشؤم ذنوبهم ، وقال عطية وغيره : البر ظهر الأرض الأمصار وغيرها ، والبحر هو البحر المعروف ، وقلة المطر كما تؤثر في البر تؤثر في البحر فتخلوا أجواف الأصداف لأن الصدف إذا جاء المطر يرتفع إلى وجه البحر ويفتح فاه فما يقع في فيه من المطر صار لؤلؤاً . وقال ابن عباس ، وعكرمة ، ومجاهد : الفساد في البر : قتل أحد بني آدم أخاه ، وفي البحر : غصب الملك الجائر السفينة . قال الضحاك : كانت الأرض خضرة مونقة لا يأتي ابن آدم شجرة إلا وجد عليها ثمرة ، وكان ماء البحر عذباً وكان لا يقصد الأسد البقر والغنم ، فلما قتل قابيل هابيل اقشعرت الأرض وشاكت الأشجار وصار ماء البحر ملحاً زعافاً وقصد الحيوان بعضها بعضاً . قال قتادة : هذا قبل مبعث النبي صلى الله عليه وسلم ، امتلأت الأرض ظلماً وضلالة ، فلما بعث الله محمداً صلى الله عليه وسلم رجع راجعون من الناس بما كسبت أيدي الناس من المعاصي ، يعني كفار مكة . { ليذيقهم بعض الذي عملوا } أي : عقوبة بعض الذي عملوا من الذنوب ، { لعلهم يرجعون } عن الكفر وأعمالهم الخبيثة .
{ 41 } { ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ }
أي : استعلن الفساد في البر والبحر أي : فساد معايشهم ونقصها وحلول الآفات بها ، وفي أنفسهم من الأمراض والوباء وغير ذلك ، وذلك بسبب ما قدمت أيديهم من الأعمال الفاسدة المفسدة بطبعها .
هذه المذكورة { لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا } أي : ليعلموا أنه المجازي على الأعمال فعجل لهم نموذجا من جزاء أعمالهم في الدنيا { لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ } عن أعمالهم التي أثرت لهم من الفساد ما أثرت ، فتصلح أحوالهم ويستقيم أمرهم . فسبحان من أنعم ببلائه وتفضل بعقوبته وإلا فلو أذاقهم جميع ما كسبوا ما ترك على ظهرها من دابة .
وبعد هذا التوجيه الحكيم ، يسوق - سبحانه - الآثار السيئة التى ترتب على الكفر والمعاصى ، ويأمر بالاعتبار بالسابقين ، ويبين عاقبة الأشرار وعاقبة الأخيار فيقول : { ظَهَرَ الفساد فِي البر . . . لاَ يُحِبُّ الكافرين } .
قال ابن كثير ما ملخصه : قال ابن عباس وغيره : المراد بالبر ها هنا ، الفيافى . وبالبحر : الأمصار والقرى ، ما كان منها على جانب نهر .
وقال آخرون : بل المراد بالبر هو البر المعروف . وبالبحر المعروف .
والقول الأول أظهر ، وعليه الأكثر ، ويؤيده ما ذكره ابن إسحاق فى السيرة : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صالح ملك أيلة ، وكتب به ببحره - يعنى ببلده - .
والمعنى : ظهر الفساد فى البر والبحر ، ومن مظاهر ذلك انتشار الشرك والظلم ، والقتل وسفك الدماء ، والأحقاد والعدوان ، ونقص البركة فى الزروع والثمار والمطاعم والمشارب ، وغير ذلك مما هو مفسدة وليس بمنفعة . .
قال ابن كثير - رحمه الله - : وقال أبو العالية : من عصى الله فى الأرض فقد أفسد فيها ، لأن صلاح الأرض والسماء بالطاعة ، ولهذا جاء الحديث الذى رواه أبو داود : " الحد يقام فى الأرض ، أحب إلى أهلها من أن يمطروا أربعين صباحاً " .
والسبب فى هذا أن الحدود إذا أقيمت ، انكف الناس ، أو أكثرهم ، أو كثير منهم ، عن تعاطى المحرمات . وإذا ارتكبت المعاصى كان سبباً فى محق البركات . . وكلما أقيم العدل كثرت البركات والخيرات . وقد ثبت فى الحديث الصحيح : " إن الفاجر إذا مات تستريح منه العباد والبلاد والشجر والدواب " .
وقوله - تعالى - : { بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي الناس } بيان لسبب ظهور الفساد . أى : عم الفساد وطم البر والبحر ، بسبب اقتراف الناس للمعاصى . وانهماكهم فى الشهوات ، وتفلتهم من كل ما أمرهم الله - تعالى - به ، أو نهاهم عنه ، كما قال - تعالى - : { وَمَآ أَصَابَكُمْ مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُواْ عَن كَثِيرٍ } فظهور الفساد وانتشاره ، لا يتم عبثاً أو اعتباطاً ، وإنما يتم بسبب إعراض الناس عن طاعة الله - تعالى - ، وارتكابهم للمعاصى . .
ثم بين - سبحانه - ما ترتب على الوقوع فى المعاصى من بلاء واختبار ، فقال : { لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الذي عَمِلُواْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ } .
واللام فى " ليذيقهم " للتعليل وهى متعلقة بظهر . أى : ظهر الفساد . . ليذيق - سبحانه - الناس نتائج بعض اعمالهم السيئة ، كى يرجعوا عن غيرهم وفسقهم ، ويعودوا إلى الطاعة والتوبة .
ويجوز ان تكون متعلقة بمحذوف ، اى : عاقبهم بانتشار الفساد بينهم ، ليجعلهم يحسون بسوء عاقبة الولوغ فى المعاصى ، ولعلهم يرجعون عنها ، إلى الطاعة والعمل الصالح .
قال ابن عباس ، وعِكْرِمة ، والضحاك ، والسُّدِّي ، وغيرهم : المراد بالبر هاهنا : الفَيَافي ، وبالبحر : الأمصار والقرى ، وفي رواية عن ابن عباس وعَكرمة : البحر : الأمصار والقرى ، ما كان منها على جانب نهر .
وقال آخرون : بل المراد بالبر هو البر المعروف ، وبالبحر : البحر المعروف .
وقال زيد{[22871]} بن رُفَيْع : { ظَهَرَ الْفَسَادُ } يعني : انقطاع المطر عن البر يعقبه القحط ، وعن البحر تعمى{[22872]} دوابه . رواه ابن أبي حاتم .
وقال : حدثنا محمد بن عبد الله بن يزيد المقري ، عن سفيان ، عن حميد بن قيس الأعرج ، عن مجاهد : { ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ } ، قال : فساد البر : قتل ابن آدم ، وفساد{[22873]} البحر : أخذ السفينة غصبا .
وقال عطاء الخراساني : المراد بالبر : ما فيه من المدائن والقرى ، وبالبحر : جزائره .
والقول الأول أظهر ، وعليه الأكثر ، ويؤيده ما ذكره محمد بن إسحاق في السيرة : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وسلم صَالَح ملك أيلة ، وكتب إليه ببحره ، يعني : ببلده .
ومعنى قوله تعالى : { ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ } أي : بان النقص في {[22874]} الثمار والزروع بسبب المعاصي .
وقال أبو العالية : مَنْ عصى الله في الأرض فقد أفسد في الأرض ؛ لأن صلاح الأرض والسماء بالطاعة ؛ ولهذا جاء في الحديث الذي رواه أبو داود : " لَحَدٌّ يقام في الأرض أحبّ إلى أهلها من أن يمطروا أربعين صباحا " {[22875]} . والسبب في هذا أن الحدود إذا أقيمت ، انكف الناس - أو أكثرهم ، أو كثير منهم - عن تعاطي المحرمات ، وإذا ارتكبت المعاصي كان سببا في محاق {[22876]} البركات من السماء والأرض ؛ ولهذا إذا نزل عيسى [ ابن مريم ]{[22877]} عليه السلام ، في آخر الزمان فحكم بهذه الشريعة المطهرة في ذلك الوقت ، من قتل الخنزير وكسر الصليب ووضع الجزية ، وهو تركها - فلا يقبل إلا الإسلام أو السيف ، فإذا أهلك الله في زمانه الدجال وأتباعه ويأجوج ومأجوج ، قيل للأرض : أخرجي بركاتك . فيأكل من الرمانة الفئَام من الناس ، ويستظلون بقَحْفها ، ويكفي لبن اللّقحة الجماعةَ من الناس . وما ذاك إلا ببركة تنفيذ شريعة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فكلما أقيم العدل كثرت البركات والخير ؛ [ ولهذا ]{[22878]} ثبت في الصحيح :{[22879]} " إنَّ الفاجر إذا مات تستريح منه العباد والبلاد ، والشجر والدواب " {[22880]} .
ولهذا قال الإمام أحمد بن حنبل : حدثنا محمد والحسين قالا حدثنا عَوْف ، عن أبي قحذم قال{[22881]} : وجد رجل في زمان زياد - أو : ابن زياد - صرة فيها حَبّ ، يعني من بر أمثال النوى ، عليه مكتوب : هذا نبت في زمان كان يعمل فيه بالعدل{[22882]} .
وروى مالك ، عن زيد بن أسلم : أن المراد بالفساد هاهنا الشرك . وفيه نظر .
وقوله : { لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ } أي : يبتليهم بنقص الأموال والأنفس والثمرات ، اختبارا منه ، ومجازاة على صنيعهم ، { لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ } أي : عن المعاصي ، كما قال تعالى : { وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ } [ الأعراف : 168 ] .
القول في تأويل قوله تعالى : { ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الّذِي عَمِلُواْ لَعَلّهُمْ يَرْجِعُونَ } .
يقول تعالى ذكره : ظهرت المعاصي في برّ الأرض وبحرها بكسب أيدي الناس ما نهاهم الله عنه .
واختلف أهل التأويل في المراد من قوله : ظَهَرَ الفَسادُ فِي البَرّ والبَحْرِ فقال بعضهم : عنى بالبَرّ : الفلوات ، وبالبحر : الأمصار والقُرى التي على المياه والأنهار . ذكر من قال ذلك : حدثنا أبو كُرَيب ، قال : حدثنا عَثّام ، قال : حدثنا النضْر بن عربيّ ، عن مجاهد وَإذَا تَوَلّى سَعَى فِي الأرْض لِيُفْسِدَ فِيها . . . الاَية ، قال : إذا ولي سعى بالتعدّي والظلم ، فيحبس الله القطر ، ف يُهْلِكَ الحَرْثَ والنّسْلَ ، وَاللّهُ لا يُحِبّ الفَسادَ قال : ثم قرأ مجاهد : ظَهَرَ الفَسادُ فِي البَرّ والبَحْرِ . . . الاَية قال : ثم قال : أما والله ما هو بحرُكم هذا ، ولكن كل قرية على ماء جار فهو بحر .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن النضْر بن عربيّ ، عن عكرمة ظَهَرَ الفَسادُ فِي البَرّ والبَحْرِ قال : أَمَا إني لا أقول بحرُكم هذا ، ولكن كلّ قرية على ماء جار .
قال : ثنا يزيد بن هارون ، عن عمرو بن فَرّوخ ، عن حبيب بن الزبير ، عن عكرمة ظَهَرَ الفَسادُ فِي البَرّ والبَحْرِ قال : إن العرب تسمي الأمصار بحرا .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قَتادة ، قوله ظَهَرَ الفَسادُ فِي البَرّ والبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أيْدِي النّاسِ قال : هذا قبل أن يَبعث الله نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم ، امتلأت ضلالة وظلما ، فلما بعث الله نبيه ، رجع راجعون من الناس .
قوله : ظَهَرَ الفَسادُ فِي البَرّ والبَحْرِ أما البرّ فأهل العمود ، وأما البحر فأهل القُرَى والريف .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله ظَهَرَ الفَسادُ فِي البَرّ والبَحْرِ قال : الذنوب ، وقرأ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الّذِي عَمِلُوا لَعلّهُمْ يَرْجِعُونَ .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا أبو عامر ، قال : حدثنا قرة ، عن الحسن ، في قوله ظَهَرَ الفَسادُ فِي البَرّ والبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أيْدِي النّاسِ قال : أفسدهم الله بذنوبهم ، في بحر الأرض وبرها ، بأعمالهم الخبيثة .
وقال آخرون : بل عُنِي بالبرّ : ظهر الأرض ، الأمصار وغيرها ، وبالبحر البحر المعروف . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن ليث ، عن مجاهد ظَهَر الفَسادُ فِي البَرّ والبَحْرِ : قال : في البرّ : ابن آدم الذي قتل أخاه ، وفي البحر : الذي كان يأخذ كلّ سفينة غصبا .
حدثني يعقوب ، قال : قال أبو بشر : يعني ابن عُلَيّة ، قال : سمعت ابن أبي نجيح ، يقول في قوله ظَهَرَ الفَسادُ فِي البَرّ والبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أيْدِي النّاسِ قال : بقتل ابن آدم ، والذي كان يأخذ كل سفينة غصبا .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا يزيد بن هارون ، عن فضيل بن مرْزوق ، عن عطية ظَهَرَ الفَسادُ فِي البَرّ والبَحْرِ قال : قلت : هذا البرّ والبحر أيّ فساد فيه ؟ قال : فقال : إذا قلّ المطر ، قل الغَوْص .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قوله ظَهَرَ الفَسادُ فِي البَرّ قال : قتل ابن آدم أخاه ، والبحر : قال : أخذ الملك السفن غَصْبا .
وأولى الأقوال في ذلك بالصواب : أن الله تعالى ذكره ، أخبر أن الفساد قد ظهر في البرّ والبحر عند العرب في الأرض القفار ، والبحر بحران : بحر ملح ، وبحر عذب ، فهما جميعا عندهم بحر ، ولم يخصص جلّ ثناؤه الخبر عن ظهور ذلك في بحر دون بحر ، فذلك على ما وقع عليه اسم بحر ، عذبا كان أو ملحا . وإذا كان ذلك كذلك ، دخل القرى التي على الأنهار والبحار .
فتأويل الكلام إذن إذ كان الأمر كما وصفت ، ظهرت معاصي الله في كل مكان ، من برّ وبحر بِمَا كَسَبَتْ أيْدِي النّاسِ : أي بذنوب الناس ، وانتشر الظلم فيهما .
وقوله : ولِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الّذِي عَمِلُوا يقول جلّ ثناؤه : ليصيبهم بعقوبة بعض أعمالهم التي عملوا ، ومعصيتهم التي عَصَوا لَعَلّهُمْ يَرْجِعُونَ يقول : كي ينيبوا إلى الحقّ ، ويرجعوا إلى التوبة ، ويتركوا معاصيَ الله . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا ابن فضيل ، عن أشعث ، عن الحسن لَعلّهُم يَرْجِعُونَ قال : يتوبون .
قال : ثنا ابن مهديّ ، عن سفيان ، عن السديّ ، عن أبي الضحى ، عن مسروق ، عن عبد الله لَعلّهُمْ يَرْجِعُونَ يوم بدر ، لعلهم يتوبون .
قال : ثنا أبو أُسامة ، عن زائدة ، عن منصور عن إبراهيم لَعَلّهُمْ يَرْجِعُونَ قال : إلى الحقّ .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قَتادة ، قوله لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الّذِي عَمِلُوا لَعَلّهُمْ يَرْجِعُونَ : لعلّ راجعا أن يرجع ، لعل تائبا أن يتوب ، لعلّ مستعتبا أن يستعتب .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا أبو عامر ، قال : حدثنا قرة ، عن الحسن ، لَعَلّهُمْ يَرْجِعُونَ قال : يرجع مَنْ بعدَهم .
واختلفت القرّاء في قراءة قوله : لِيُذِيقَهمْ فقرأ ذلك عامة قرّاء الأمصار لِيُذِيقَهُمْ بالياء ، بمعنى : ليذيقهم الله بعض الذي عملوا ، وذُكر أن أبا عبد الرحمن السّلَمي قرأ ذلك بالنون على وجه الخبر من الله عن نفسه بذلك .
ظهر الفساد في البر والبحر } كالجدب والموتان وكثرة الحرق والغرق وإخفاق الغاصة ومحق البركات وكثرة المضار ، أو الضلالة والظلم . وقيل المراد بالبحر قرى السواحل وقرئ و " البحور " . { بما كسبت أيدي الناس } بشؤم معاصيهم أو بكسبهم إياه ، وقيل ظهر الفساد في البر بقتل قابيل أخاه وفي البحر بأن جلندا ملك عمان كان يأخذ كل سفينة غصبا . { ليذيقهم بعض الذي عملوا } بعض أجزائه فإن تمامه في الآخرة واللام للعلة أو العاقبة . وعن ابن كثير ويعقوب " لنذيقهم " بالنون . { لعلهم يرجعون } عما هم عليه .
ثم ذكر تعالى على جهة العبرة ما ظهر من الفساد بسبب المعاصي في قوله { ظهر الفساد في البر والبحر } ، واختلف الناس في معنى { البر والبحر } في هذه الآية ، فقال مجاهد { البر } البلاد البعيدة من البحر ، و { البحر } السواحل والمدن التي على ضفة البحر والأنهار الكبار ، وقال قتادة { البر } الفيافي ومواضع القبائل وأهل الصحاري ، و { البحر } المدن جمع بحرة{[9320]} .
قال الفقيه الإمام القاضي : ومنه قول سعد بن عبادة للنبي صلى الله عليه وسلم في شأن عبد الله بن أبي ابن سلول الحديث ولقد أجمع أهل هذه البحرة على أن يتوجوه " الحديث{[9321]} ، ومما يؤيد هذا أن عكرمة قرأ «في البر والبحور »{[9322]} ، ورويت عن ابن عباس ، وقال مجاهد أيضاً : ظهور الفساد في البر قتل أحد ابني آدم لأخيه ، وفي البحر أخذ السفن غضباً ، وقال بعض العباد { البر } اللسان و { البحر } القلب ، وقال الحسن بن أبي الحسن { البر والبحر } هما المعروفان المشهوران في اللغة .
قال الفقيه الإمام القاضي : وهذا هو القول الصحيح وظهور الفساد فيهما هو بارتفاع البركات ونزول رزايا وحدوث فتن وتغلب عدو كافر ، وهذه الثلاثة توجد في البر والبحر ، قال ابن عباس : الفساد في البحر انقطاع صيده بذنوب بني آدم وقلما توجد أمة فاضلة مطيعة مستقيمة الأعمال إلا يدفع الله عنها هذه ، والأمر بالعكس في أهل المعاصي وبطر النعمة ، وكذلك كان أمر البلاد في وقت مبعث النبي صلى الله عليه وسلم قد كان الظلم عم الأرض براً وبحراً ، وقد جعل الله هذه الأشياء ليجازي بها على المعاصي فيذيق الناس عاقبة إذنابهم لعلهم يتوبون ويراجعون بصائرهم في طاعة الله تعالى ، وقوله تعالى : { بما كسبت } تقديره جزاء ما كسبت ، ويحتمل أن تتعلق الباء ب { ظهر } أي كسبهم المعاصي في البر والبحر هو نفس الفساد الظاهر ، والترجي في «لعل » هو بحسب معتقداتنا وبحسب نظرنا في الأمور ، وقرأ عامة القراء والناس «ليذيقهم » بالياء ، وقرأ قنبل عن ابن كثير والأعرج وأبو عبد الرحمن السلمي «لنذيقهم » بالنون{[9323]} ومعناهما بين ، وقرأ أيضاً أبو عبد الرحمن «لتذيقهم » بالتاء من فوق .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{ظهر الفساد في البر والبحر} قحط المطر، وقلة النبات في البر، حيث لا تجري الأنهار، وأهل العمود.
{ظهر الفساد} قحط المطر ونقص الثمار في البحر، في الريف يعني القرى حيث تجري فيها الأنهار.
{بما كسبت أيدي الناس} من المعاصي...
{بعض الذي عملوا} الكفر والتكذيب.
{لعلهم} يعني لكي {يرجعون} من الكفر إلى الإيمان...
روى مالك عن زيد بن أسلم: أن المراد بالفساد هاهنا الشرك...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: ظهرت المعاصي في برّ الأرض وبحرها بكسب أيدي الناس ما نهاهم الله عنه.
واختلف أهل التأويل في المراد من قوله:"ظَهَرَ الفَسادُ فِي البَرّ والبَحْرِ"؛ فقال بعضهم: عنى بالبَرّ: الفلوات، وبالبحر: الأمصار والقُرى التي على المياه والأنهار... قوله: "ظَهَرَ الفَسادُ فِي البَرّ والبَحْرِ "أما البرّ فأهل العمود، وأما البحر فأهل القُرَى والريف...
وقال آخرون: بل عُنِي بالبرّ: ظهر الأرض، الأمصار وغيرها، وبالبحر البحر المعروف... وأولى الأقوال في ذلك بالصواب: أن الله تعالى ذكره، أخبر أن الفساد قد ظهر في البرّ والبحر عند العرب في الأرض القفار، والبحر بحران: بحر ملح، وبحر عذب، فهما جميعا عندهم بحر، ولم يخصص جلّ ثناؤه الخبر عن ظهور ذلك في بحر دون بحر، فذلك على ما وقع عليه اسم بحر، عذبا كان أو ملحا. وإذا كان ذلك كذلك، دخل القرى التي على الأنهار والبحار.
فتأويل الكلام إذن إذ كان الأمر كما وصفت: ظهرت معاصي الله في كل مكان، من برّ وبحر "بِمَا كَسَبَتْ أيْدِي النّاسِ": أي بذنوب الناس، وانتشر الظلم فيهما.
وقوله: "لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الّذِي عَمِلُوا "يقول جلّ ثناؤه: ليصيبهم بعقوبة بعض أعمالهم التي عملوا، ومعصيتهم التي عَصَوا "لَعَلّهُمْ يَرْجِعُونَ" يقول: كي ينيبوا إلى الحقّ، ويرجعوا إلى التوبة، ويتركوا معاصيَ الله.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
هذا يحتمل وجهين: أحدهما: أن يكون قوله: {ظهر الفساد في البر والبحر} هو الشرك والكفر {بما كسبت أيدي الناس} من الأمور التي كانوا يتعاطون مع قطع الطريق والسرف والظلم وأنواع أعمال السوء التي يتعاطونها، ذلك بسبب شركهم وكفرهم بالله. وبذلك كان يغطي قلوبهم حتى لا تتجلى قلوبهم للإيمان كقوله: {كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون} [المطففين: 14] وكقوله: {فأعقبهم نفاقا في قلوبهم} الآية [التوبة: 77] ونحوه. فإن كان هذا فهو على حقيقة تقديم الأيدي والكسب.
والثاني: يكون: {ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس} هو القحط وقلة الأمطار والأنزال والضيق. وقوله تعالى: {بما كسبت أيدي الناس} هو شركهم وكفرهم وتعاطيهم ما لا يحل، أي ذلك القحط والضيق وقلة الأنزال والشدائد لهم لشركهم وكفرهم وأعمالهم التي اختاروها. ويكون ذكر كسب الأيدي على المجاز لا على الحقيقة، ولكن لما باليد يكتسب، وبالقدم يقدم.
{لعلهم يرجعون} قال: يرجع من كان بعدهم، ويتعظون بهم. وقتادة يقول: لعل راجعا يرجع، لعل تائبا يتوب، لعل مستغيثا يستغيث. وأصله لكي يلزمهم الرجوع والتوبة عما عملوا، وينهاهم عن ذلك كله.
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
" ظهر الفساد في البر والبحر"...
والظهور: خروج الشيء إلى حيث يقع عليه الإحساس والعلم به بمنزلة الإدراك له. وقد يظهر الشيء بخروجه عن وعاء أو وجوده عن عدم أو ظهوره بدليل. وقيل: بالعدل ينبت الله الزرع ويدر الضرع، وبالظلم يكون القحط وضيق الرزق.
وجه تعلق هذه الآية بما قبلها هو أن الشرك سبب الفساد كما قال تعالى: {لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا} وإذا كان الشرك سببه جعل الله إظهارهم الشرك مورثا لظهور الفساد ولو فعل بهم ما يقتضيه قولهم: {لفسدت السماوات والأرض} كما قال تعالى: {تكاد السماوات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هدا} وإلى هذا أشار بقوله تعالى: {ليذيقهم بعض الذي عملوا}
التفسير القيم لابن القيم 751 هـ :
قال مجاهد: إذا ولي الظالم سعى بالظلم والفساد، فيحبس بذلك القطر، فيهلك الحرث والنسل. والله لا يحب الفساد... ثم قرأ {ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس ليذيقهم بعض الذي عملوا لعلهم يرجعون}
قلت: وقد سمى الله تعالى الماء العذب بحرا، فقال: {وهو الذي مرج البحرين هذا عذب فرات وهذا ملح أجاج} [الفرقان: 53] وليس في العالم بحر حلو واقفا، وإنما هي الأنهار الجارية والبحر المالح والساكن. فتسمى القرى التي على المياه الجارية باسم تلك المياه.
وقال ابن زيد: {ظهر الفساد في البر والبحر}، قال: الذنوب. قلت: أراد أن الذنب سبب الفساد الذي ظهر، وإن أراد أن الفساد الذي ظهر هو الذنوب نفسها، فيكون اللام في قوله: {ليذيقهم بعض الذي عملوا} لام العاقبة والتعليل. وعلى الأول: فالمراد بالفساد: النقص والشر والآلام التي يحدثها الله في الأرض بمعاصي العباد فكل ما أحدثوا ذنبا أحدث لهم عقوبة. كما قال بعض السلف: كل ما أحدثتم ذنبا أحدث الله لكم من سلطانه عقوبة.
تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :
وقال أبو العالية: مَنْ عصى الله في الأرض فقد أفسد في الأرض؛ لأن صلاح الأرض والسماء بالطاعة؛ ولهذا جاء في الحديث الذي رواه أبو داود:"لَحَدٌّ يقام في الأرض أحبّ إلى أهلها من أن يمطروا أربعين صباحا". والسبب في هذا أن الحدود إذا أقيمت، انكف الناس -أو أكثرهم، أو كثير منهم- عن تعاطي المحرمات، وإذا ارتكبت المعاصي كان سببا في محاق البركات من السماء والأرض؛ ولهذا إذا نزل عيسى [ابن مريم] عليه السلام، في آخر الزمان فحكم بهذه الشريعة المطهرة في ذلك الوقت، من قتل الخنزير وكسر الصليب ووضع الجزية، وهو تركها -فلا يقبل إلا الإسلام أو السيف، فإذا أهلك الله في زمانه الدجال وأتباعه ويأجوج ومأجوج، قيل للأرض: أخرجي بركاتك. فيأكل من الرمانة الفئَام من الناس، ويستظلون بقَحْفها، ويكفي لبن اللّقحة الجماعةَ من الناس. وما ذاك إلا ببركة تنفيذ شريعة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكلما أقيم العدل كثرت البركات والخير؛ [ولهذا] ثبت في الصحيح: "إنَّ الفاجر إذا مات تستريح منه العباد والبلاد، والشجر والدواب". ولهذا قال الإمام أحمد بن حنبل: حدثنا محمد والحسين قالا حدثنا عَوْف، عن أبي قحذم قال: وجد رجل في زمان زياد- أو: ابن زياد -صرة فيها حَبّ، يعني من بر أمثال النوى، عليه مكتوب: هذا نبت في زمان كان يعمل فيه بالعدل...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ولما بين لهم سبحانه من حقارة شركائهم ما كان حقهم به أن يرجعوا، فلم يفعلوا، أتبعه ما أصابهم به على غير ما كان في أسلافهم عقوبة لهم على قبيح ما ارتكبوا، استعطافاً للتوبة.
{كسبت} أي عملت من الشر عملاً هو من شدة تراميهم إليه وإن كان على أدنى الوجوه بما أشار إليه تجريد الفعل كأنه مسكوب من علو، ومن شدة إتقان شره كأنه مسبوك.
تيسير التفسير لاطفيش 1332 هـ :
وحكم الآية باق الى قيام الساعة، ومن أذنب ذنبا خاصمه الثقلان والحيوانات برا وبحرا يوم القيامة، بمنع المطر لشؤمه...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
ثم يكشف لهم عن ارتباط أحوال الحياة وأوضاعها بأعمال الناس وكسبهم؛ وأن فساد قلوب الناس وعقائدهم وأعمالهم يوقع في الأرض الفساد، ويملؤها برا وبحرا بهذا الفساد، ويجعله مسيطرا على أقدارها، غالبا عليها: (ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس).. فظهور الفساد هكذا واستعلاؤه لا يتم عبثا، ولا يقع مصادفة؛ إنما هو تدبير الله وسنته.. (ليذيقهم بعض الذي عملوا) من الشر والفساد، حينما يكتوون بناره، ويتألمون لما يصيبهم منه: (لعلهم يرجعون) فيعزمون على مقاومة الفساد، ويرجعون إلى الله وإلى العمل الصالح وإلى المنهج القويم...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
موقع هذه الآية ومعناها صالح لعدة وجوه من الموعظة، وهي من جوامع كلم القرآن،والمقصد منها هو الموعظة بالحوادث ماضيها وحاضرها للإقلاع عن الإشراك وعن تكذيب الرسول صلى الله عليه وسلم...
فأما موقعها فيجوز أن تكون متصلة بقوله قبلها {أو لم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم} الآيات [الروم: 9]، فلما طولبوا بالإقرار على مَا رأوه من آثار الأمم الخالية، أو أُنكِرَ عليهم عدمُ النظر في تلك الآثار، أُتبع ذلك بما أدَّى إليه طريق الموعظة من قوله {هو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده} [الروم: 27]، ومن ذكر الإنذار بعذاب الآخرة... عاد الكلام إلى التذكير بأن ما حلّ بالأمم الماضية من المصائب ما كان إلا بما كسبت أيديهم، أي بأعمالهم، فيوشك أن يحلّ مثل ما حلّ بهم بالمخاطبين الذين كسبت أيديهم مثلَ ما كسبت أيدي أولئك.
فموقع هذه الجملة على هذا الوجه موقع النتيجة من مجموع الاستدلال أو موقع الاستئناف البياني بتقدير سؤال عن سبب ما حلّ بأولئك الأمم.
ويجوز أن تقع هذه الآية موقع التكملة لقوله {وإذا مسّ الناسَ ضُر دَعوا ربهم} [الروم: 33] الآية، فهي خبر مستعمل في التنديم على ما حلّ بالمكذبين المُخاطبين من ضرّ ليعلموا أن ذلك عقاب من الله تعالى فيقلعوا عنه خشية أن يحيط بهم ما هو أشد منه، كما يؤذن به قوله عقب ذلك {لعلهم يرجعون}.
فالإتيان بلفظ الناس في قوله {بما كسبت أيدي الناس} إظهار في مقام الإضمار لزيادة إيضاح المقصود، ومقتضى الظاهر أن يقال « بما كسبت أيديهم». فالآية تشير إلى مصائب نزلت ببلاد المشركين وعطلت منافعها، ولعلها مما نشأ عن الحرب بين الروم وفارس، وكان العرب منقسمين بين أنصار هؤلاء وأنصارِ أولئك، فكان من جراء ذلك أن انقطعت سبل الأسفار في البر والبحر فتعطلت التجارة وقلّت الأقوات بمكة والحجاز كما يقتضيه سَوْق هذه الموعظة في هذه السورة المفتتحة ب {غُلِبَتِ الرومُ} [الروم: 2].
فموقع هذه الجملة على هذا الوجه موقع الاستئناف البياني لسبب مسِّ الضر إياهم حتى لجأوا إلى الضراعة إلى الله، وما بينها وبين جملة {وإذا مسّ الناسَ ضرّ} [الروم: 33] إلى آخره اعتراض واستطراد تخلل في الاعتراض.
ويجوز أن يكون موقعها موقع الاعتراض بين ذكر ابتهال الناس إلى الله إذا أحاط بهم ضر ثم إعراضهم عن عبادته إذا أذاقهم منه رحمةً وبين ذكر ما حلّ بالأمم الماضية اعتراضاً ينبئ أن الفساد الذي يظهر في العالم ما هو إلا من جراء اكتساب الناس وأن لو استقاموا لكان حالهم على صلاح.
{الفساد}: سوء الحال، وهو ضد الصلاح... ثم التعريف في {الفساد:} إما أن يكون تعريف العهد لفساد معهود لدى المخاطبين، وإما أن يكون تعريف الجنس الشامل لكل فساد ظهر في الأرض برِّها وبحرِها أنه فساد في أحوال البر والبحر، لا في أعمال الناس... فذكر البر والبحر لتعميم الجهات بمعنى: ظهر الفساد في جميع الأقطار...
ويجوز أن يكون المعنى أن الله تعالى خلق العالم على نظام مُحكم ملائم صالح للناس فأحدث الإنسان فيه أعمالاً سيئة مفسدة، فكانت وشائجَ لأمثالها: وهل ينبت الخطيَّ إلا وشيجُه.
ومحمل صيغة فعل {ظهر} على حقيقتها من المضي يقتضي أن الفساد حصل وأنه ليس بمستقبل، فيكون إشارة إلى فساد مشاهَد أو محقق الوقوع بالأخبار المتواترة. وقد تحمل صيغة الماضي على معنى توقع حصول الفساد والإنذار به فكأنه قد وقع على طريقة {أتى أمر الله}...
ويجري حكمُ تعريف {الناس} على نحو ما يجري في تعريف {الفساد} من عهد أو عموم، فالمعهود هم المشركون وقد شاع في القرآن تغليب اسم {الناس} عليهم...
والإذاقة: استعارة مكنية؛ شبه ما يصيبهم من الآلام فيُحسون بها بإصابة الطعام حاسة المطعم. ولما كان ما عملوه لا يصيبهم بعينه تعين أن بعض الذي عملوا أطلق على جزاء العمل ولذلك فالبعضية تبعيض للجزاء، فالمراد بعض الجزاء على جميع العمل لا الجزاء على بعض العمل، أي أن ما يذيقهم من العذاب هو بعض ما يستحقونه. وفي هذا تهديد إن لم يُقلعوا عن مساوئ أعمالهم كقوله تعالى: {ولو يؤاخذ الله الناس بما كسبوا ما ترك على ظهرها من دابة} [فاطر: 45]، ثم وراء ذلك عذاب الآخرة كما قال تعالى: {ولعذاب الآخرة أشد وأبقى} [طه: 127].
والعدول عن أن يقال: بعض أعمالهم إلى {بعضَ الذي عملوا} للإيماء إلى ما في الموصول من قوة التعريف، أي أعمالهم المعروفة عندهم المتقرر صدورها منهم.
والرجاء المستفاد من (لعلَّ) يشير إلى أن ما ظهر من فساد كاف لإقلاعهم عما هم اكتسبوه، وأن حالهم حال من يُرجى رجوعه فإن هم لم يرجعوا فقد تبين تمردهم وعدم إجداء الموعظة فيهم، وهذا كقوله تعالى: {أو لا يَرْون أنهم يُفْتَنون في كل عام مرة أو مرتين ثم لا يتوبون ولا هم يذّكرون} [التوبة: 126].
والرجوع مستعار للإقلاع عن المعاصي كأنَّ الذي عصى ربه عبد أبق عن سيّده، أو دابة قد أبدت، ثم رجع.
التيسير في أحاديث التفسير للمكي الناصري 1415 هـ :
وتصدى كتاب الله بعد ذلك للكشف عن حقيقة اجتماعية وأخلاقية بعيدة الأثر، ألا وهي أن الإنسان وحده هو العنصر الأساسي في كل فساد يقع في الأرض، وكل انحراف يصيب المجتمع، وأنه هو المسؤول مباشرة عن نتائج فساده وإفساده ماديا وروحيا، فما عليه إلا أن يتحمل نتائج عمله انحلالا واختلالا، خرابا وزوالا، ولو وقف الإنسان في سلوكه عند حد الصلاح والإصلاح، اللذين من أجلهما توجه الله بالخلافة عنه في عمارة الأرض، لما وقع في الأرض فساد، ولسعدت البلاد والعباد، وذلك ما ينطق به قوله تعالى: {ظهر الفساد في البر والبحر، بما كسبت أيدي الناس، ليذيقهم بعض الذي عملوا، لعلهم يرجعون (41) قل سيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة الذين من قبل، كان أكثرهم مشركين (42)}.
{لعلهم يرجعون}، إشارة إلى أن الله تعالى لا يريد الانتقام من عباده، عندما يسلط عليهم آثار أعمالهم، وإنما هي بمنزلة السوط يؤدبهم به، عسى أن يغيروا ما بأنفسهم، ويعودوا إلى صراط الله الحميد، فيبسط لهم من جديد بساط نعمته، ويخلع عليهم رداء رحمته، وبنفس هذا المعنى جاء قوله تعالى في آية أخرى (168: 7): {وبلوناهم بالحسنات والسيئات لعلهم يرجعون}...
ظهر: بان ووضح. والظهور: أن يبين شيء موجود بالفعل لكنا لا نراه، وما دام الحق سبحانه قال: {ظهر الفساد} فلا بد أن الفساد كان موجودا، لكن أصحاب الفساد عموه وجنوه إلى أن فقس وفرخ في المجتمع.
وتأتي ظهر بمعنى "الغلبة "كما في قوله تعالى: {فأيدنا الذين آمنوا على عدوهم فأصبحوا ظاهرين 14} (الصف) أي: غالبين.
وبمعنى "العلو" في قوله تعالى: {فما اسطاعوا أن يظهروه وما استطاعوا له نقبا97} (الكهف) فالمعنى {ظهر الفساد} أي: غلب الصلاح وعلا عليه، والكون خلقه الله تعالى على هيئة الصلاح، وأعده لاستقبال الإنسان إعدادا رائعا
وللتأكد من صدق هذه المسألة انظر في الكون وأجناسه وأفلاكه وأجوائه، فلن ترى فسادا إلا فيما تتناوله يد الإنسان. أما ما لا تتناوله يد الإنسان، فلا ترى فيه خللا، لأن الله خلقه منسجم الأجناس ومنسجم التكوين: {لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر ولا الليل سابق النهار وكل في فلك يسبحون40} (يس)
فهل خلقنا الحق سبحانه وخلق اختيارنا لنفسد في الكون؟ لا، إنما هو ابتلاء الاختيار حين ينزل عليك المنهج ويجعله قانونا لحركتك بافعل ولا تفعل، وما لم أقل فيه (افعل) أو (لا تفعل) فأنت حر فيه، فلا يحدث من الفعل أو من عدمه ضرر في الكون، أما أنا فقد قلت افعل في الذي يحصل منه ضرر بعدم فعله، وقلت لا تفعل في الذي يحصل ضرر في فعله.
فالفساد يأتي حين تدخل يدك في شيء وأنت تطرح قانون الله في افعل ولا تفعل، أما الصلاح فموجود وفيه مناعة يكافح بها الفساد، فإن علا تيار الفساد وظهر على الصلاح وغلبه بان للناس. وعندها ينبهنا الحق سبحانه بالأحداث تطرقنا وتقول لنا: انظروا إلى من خالف منهج الله ماذا حدث له؛ لذلك في أعقاب الأحداث نزداد عشقا لله، وحبا لطاعته، لكن سرعان ما يعودون إلى ما كانوا عليه من الإهمال والغفلة،فالحق يقول: {ظهر الفساد} أي: غلب على قانون الصلاح الذي أقام الله عليه نظام هذا الكون، الذي لو نالته يد الإنسان لفسد هو الآخر، كما قال سبحانه: {ولو اتبع الحق أهواءهم لفسدت السماوات والأرض} (المؤمنون 71)
{ظهر الفساد في البر} نتيجة لدعوته صلى الله عليه وسلم؛ لأن كلمة (ظهر) تدل على أن شيئا وقع، فكأنه يقول لنا: إن كررتم الفساد والغفلة تكرر ظهور الفساد، فهو يعطينا ملخصا بما حدث بالفعل من عداوتهم لرسول الله، ومقاطعته وعزله وإغراء السفهاء منهم للتحرش به، ثم عداوة أصحابه وإجبارهم على الهجرة إلى الحبشة حتى لا يستقر لهم قرار بمكة. لذلك دعا عليهم رسول الله: "اللهم اشدد وطأتك على مضر، واجعلها عليهم سنين كسنى يوسف" فأصابهم الجدب والقحط، حتى روي أنهم كانوا يذهبون للبحر لصيد السمك، فيبتعد عنهم ولا يستقيم لهم فيعودون كما أتوا.
. هناك قضية أخرى أحب أو أوضحها لكم، وهي أن الحق سبحانه يعامل خلقه معاملته في الجزاء، فالله يقول: {من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها} (الأنعام 160) إذن: فالحسنة الواحدة تستر عشر سيئات، إذن: إن رأيت الفساد فاعلم أنه نتيجة إهمال وغفلة فاقت كل الحدود.
{كسبت} عندنا: كسب واكتسب، الغالب أن تكون كسب للحسنة، واكتسب للسيئة؛ لأن الحسنة تأتي من المؤمن طبيعة بدون تكلف أو افتعال، فدل عليها بالفعل المجرد (كسب). أما السيئة، فعلى خلاف الطبيعة، فتحتاج منك إلى تكلف وافتعال، فدل عليها بالفعل المزيد الدال على الافتعال (اكتسب).
فلم جعل السيئة كسبا لا اكتساب. قالوا: لأن السيئة هنا صارت عادة عنده، وسهلت عليه حتى صارت أمرا طبيعيا يفعله ولا يبالي كالذي يفعل الحسنة.
{ليذيقهم بعض الذي عملوا} الإذاقة هنا عقوبة، لكنها عقوبة الإصلاح كما تعاقب وتضر به حرصا عليه.
والحق سبحانه ساعة يقول {ظهر الفساد} أي: على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ليبين لنا أن الرسل إنما جاءوا لإنقاذ البشرية من هذا الفساد، لكن ما دام الأمر علل فالأمر يدور مع العلة وجودا وعدما، فكلما ظهر الفساد حلت العقوبة، فخذوها في الكون آية من آيات الله إلى قيام الساعة.