فقال موسى عليه السلام ، مجيبا لإنكار فرعون وتعطيله لرب العالمين : { رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا } .
من سائر المخلوقات { إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ } فقد أديت لكم من البيان والتبيين ، ما يفهمه كل من له أدنى مسكة من عقل ، فما بالكم تتجاهلون فيما أخاطبكم به ؟ وفيه إيماء وتنبيه إلى أن الذي رميتم به موسى من الجنون ، أنه داؤكم فرميتم أزكى الخلق عقلا وأكملهم علما ، بالجنون ، والحال أنكم أنتم المجانين ، حيث ذهبت عقولكم لإنكار أظهر الموجودات ، خالق الأرض والسماوات وما بينهما ، فإذا جحدتموه ، فأي شيء تثبتون ؟ وإذا جهلتموه ، فأي شيء تعلمون ؟ وإذا لم تؤمنوا به وبآياته ، فبأي شيء - بعد الله وآياته - تؤمنون ؟ تالله ، إن المجانين الذين بمنزلة البهائم ، أعقل منكم ، وإن الأنعام السارحة ، أهدى منكم .
ولكن موسى - عليه السلام - لم يؤثر ما قاله فرعون في نفسه ، بل رد عليه وعليهم بكل شجاعة وحزم فقال : { رَبُّ المشرق والمغرب وَمَا بَيْنَهُمَآ إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ } .
أى : قال موسى : ربنا رب السموات والأرض وما بينهما . وربكم ورب آبائكم الأولين . ورب المشرق الذى هو جهة طلوع الشمس وطلوع النهار . ورب المغرب الذى هو غروب الشمس وغروب النهار .
وخصهما بالذكر . لأنهما من أوضح الأدلة على وحدانية الله - تعالى - وقدرته ولأن فرعون أو غيره من الطغاة لا يجرؤ ولا يملك ادعاء تصريفهما أو التحكم فيهما على تلك الصورة البديعة المطردة . والتى لا اختلال فيها ولا اضطراب . . كما قال إبراهيم للذى حاجه فى ربه : { إِنَّ الله يَأْتِي بالشمس مِنَ المشرق فَأْتِ بِهَا مِنَ المغرب فَبُهِتَ الذي كَفَرَ . . } وجملة { إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ } حض لهم على التعقل والتدبر ، وتحذير لهم من التمادى فى الجحود والعناد .
أى : ربنا وربكم هو رب هذه الكائنات كلها ، فأخلصوا العبادة له ، إن كانت لكم عقول تعقل ما قلته لكم ، وتفهم ما أرشدتكم إليه .
وهكذا انتقل بهم موسى من دليل إلى دليل على وحدانية الله وقدرته ، ومن حجة إلى حجة ، ومن أسلوب إلى أسلوب لكى لا يترك مجالا فى عقولهم للتردد فى قبول دعوته .
ولكن هذا التهكم وهذا القذف لا يفت في عضد موسى ، فيمضي في طريقه يصدع بكلمة الحق التي تزلزل الطغاة والمتجبرين :
( قال : رب المشرق والمغرب وما بينهما . إن كنتم تعقلون ) . .
والمشرق والمغرب مشهدان معروضان للأنظار كل يوم ؛ ولكن القلوب لا تنتبه إليهما لكثرة تكرارهما ، وشدة ألفتهما . واللفظ يدل على الشروق والغروب . كما يدل على مكاني الشروق والغروب . وهذان الحدثان العظيمان لا يجرؤ فرعون ولا غيره من المتجبرين أن يدعي تصريفهما . فمن يصرفهما إذن ومن ينشئهما بهذا الإطراد الذي لا يتخلف مرة ولا يبطى ء عن أجله المرسوم ? إن هذا التوجيه يهز القلوب البليدة هزا ، ويوقظ العقول الغافية إيقاظا . وموسى - عليه السلام - يثير مشاعرهم ، ويدعوهم إلى التدبر والتفكير : ( إن كنتم تعقلون ) . .
{ قال رب المشرق والمغرب وما بينهما } تشهادون كل يوم أه يأتي بالشمس من المشرق ويحركها على مدار غير مدار اليوم الذي قبله حتى يبلغها إلى المغرب على وجه نافع تنظيم به أمور الكائنات . { إن كنتم تعقلون } إن كان لكم عقل علمتم أن لا جواب لكم فوق ذلك لا ينهم أولا ، ثم لما رأى شدة شكيمتهم خاشنهم وعارضهم بمثل مقالهم .
لما رأى موسى سوء فهمهم وعدم اقتناعهم بالاستدلال على الوحدانية بالتكوين المعتاد إذ التبس عليهم الأمر المعتاد بالأمر الذي لا صانع له انتقل موسى إلى ما لا قبل لهم بجحده ولا التباسِه وهو التصرف العجيب المشاهد كل يوم مرتين ، كما انتقل إبراهيم عليه السلام من الاستدلال على وجود الله بالإحياء والإماتة لما تَمَوَّه على النمرود حقيقة معنى الإحياء والإماتة فانتقل إبراهيم إلى الاستدلال بطلوع الشمس فيما حكى الله تعالى : { ألم تر إلى الذي حاجّ إبراهيم في ربّه أن آتاه الله الملك إذ قال إبراهيم ربّي الذي يحيي ويميت قال أنا أحيي وأميت قال إبراهيم فإن الله يأتي بالشمس من المشرق فأتِ بها من المغرب } [ البقرة : 258 ] فكانت حجة موسى حجة خليلية .
والمشرق والمغرب يجوز أن يراد بهما مكان شروق الشمس ومكان غروبها في الأفق ، فيكون تحريكاً للاستدلال بما يقع في ذلك المكان من الأُفق من شروق الشمس وغروبها ، فيكون المراد بربّ المشرق والمغرب خالقَ ذلك النظام اليومي على طريقة الإيجاز .
ويجوز أن يراد بالمشرق والمغرب المصدر الميمي ، أي ربّ الشروق والغروب ، فيكون المراد بالربّ الخالق ، أي مكوِّن الشروق والغروب ويكون المراد بما بينهما على هاذين الوجهين ما بين الحالين وضمير ( بينهما ) للمشرق والمغرب فكأنه قيل وما بين المشرق والمغرب وما بين المغرب والمشرق ، أي ما يقع في خلال ذلك من الأحوال ، فأما ما بين الشروق والغروب فالضحى والزوال والعصر والاصفرار ، وأما ما بين الغروب والشروق فالشفق والفجر والإسفار كلها دلائل على تكوين ذلك النظام العجيب المتقن .
وقيل المراد برب المشرق والمغرب مالك الجهتين . وهذا التفسير يفيت مناسبة الكلام لمقام الاستدلال بعظيم ولا يلاقي التذييل الواقع بعده في قوله : { إن كنتم تعقلون } .
وتانك الجهتان هما منتهى الأرض المعروفة للناس يومئذ فكأنه قيل : ربّ طرَفي الأرض ، وهو كناية عن كون جميع الأرض ملكاً لله . وهذا استدلال عرفي إذ لم يكونوا يعرفون يومئذ مَلِكاً يملك ما بين المشرق والمغرب ، وما كان مُلك فرعون المؤلّه عندهم إلا لبلاد مصر والسودان .
والتذييل بجملة : { إن كنتم تعقلون } تنبيه لنظرهم العقلي ليعاودوا النظر فيدركوا وجه الاستدلال ، أي إن كنتم تُعملون عقولكم ، ومن اللطائف جعل ذلك مقابل قول فرعون : إن رسولكم لمجنون ، لأن الجنون يقابله العقل فكان موسى يقول لهم قولاً ليناً ابتداء ، فلما رأى منهم المكابرة ووصفوه بالجنون خاشنهم في القول وعارض قول فرعون { إن رسولكم الذي أرسل إليكم لمجنون } [ الشعراء : 27 ] فقال : { إن كنتم تعقلون } أي إن كنتم أنتم العقلاء ، أي فلا تكونوا أنتم المجانين ، وهذا كقول أبي تمام للذَيْن قالا له : « لِم تقول ما لا يُفهم » قال : « لم لا تفهمان ما يقال » .