قوله تعالى : { وإن منهم لفريقاً } يعني من أهل الكتاب ( لفريقاً ) أي طائفة وهم كعب بن الأشرف ومالك بن الصيف وحيي بن أخطب ، وأبو ياسر ، وشعبة بن عمر الشاعر .
قوله تعالى : { يلوون ألسنتهم بالكتاب } أي يعطفون ألسنتهم بالتحريف والتغيير وهو ما غيروا من صفة النبي صلى الله عليه وسلم ، وآية الرجم ، وغير ذلك . يقال : لوى لسانه عن كذا أي غيره .
قوله تعالى : { لتحسبوه } أي لتظنوا ما حرفوا .
قوله تعالى : { من الكتاب } الذي أنزله الله تعالى .
قوله تعالى : { وما هو من الكتاب ويقولون هو من عند الله وما هو من عند الله ويقولون على الله الكذب } عمداً .
قوله تعالى : { وهم يعلمون } أنهم كاذبون ، وقال الضحاك عن ابن عباس أن الآية نزلت في اليهود والنصارى جميعاً ، وذلك أنهم حرفوا التوراة والإنجيل وألحقوا بكتاب الله ما ليس منه .
{ وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ }
يخبر تعالى أن من أهل الكتاب فريقا يلوون ألسنتهم بالكتاب ، أي : يميلونه ويحرفونه عن المقصود به ، وهذا يشمل اللي والتحريف لألفاظه ومعانيه ، وذلك أن المقصود من الكتاب حفظ ألفاظه وعدم تغييرها ، وفهم المراد منها وإفهامه ، وهؤلاء عكسوا القضية وأفهموا غير المراد من الكتاب ، إما تعريضا وإما تصريحا ، فالتعريض في قوله { لتحسبوه من الكتاب } أي : يلوون ألسنتهم ويوهمونكم أنه هو المراد من كتاب الله ، وليس هو المراد ، والتصريح في قولهم : { ويقولون هو من عند الله وما هو من عند الله ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون } وهذا أعظم جرما ممن يقول على الله بلا علم ، هؤلاء يقولون على الله الكذب فيجمعون بين نفي المعنى الحق ، وإثبات المعنى الباطل ، وتنزيل اللفظ الدال على الحق على المعنى الفاسد ، مع علمهم بذلك .
ثم بين - سبحانه - بعض الرذائل التى صدرت عن فريق من أهل الكتاب فقال - تعالى - : { وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقاً يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بالكتاب لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الكتاب وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ } والضمير فى قوله - تعالى - { مِنْهُمْ } يعود إلى أهل الكتاب الذين ذكر القرآن طرفاً من رذائلهم ومسالكهم الخبيثة فيما سبق .
قال الفخر الرازي : اعلم أن هذه الآية { وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقاً } تدل على أن الآية المتقدمة وهى قوله - تعالى - { إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ } نازلة فى اليهود بلا شك ، لأن هذه الآية نازلة فى حق اليهود وهى معطوفة على ما قبلها ، فهذا يقتضى كون تلك الآية المتقدمة نازلة فى اليهود أيضا " .
وقال ابن كثير : يخبر - سبحانه - عن اليهود - عليهم لعائن الله - أن منهم فريقا يحرفون الكلم عن مواضعه ، ويبدلون كلام الله ، ويزيلونه عن المراد ليوهموا الجهلة أنه فى كتاب الله كذلك وينسبونه إلى الله . وهم يعلمون من أنفسهم أنهم قد كذبوا وافتروا فى ذلك كله " .
وقوله { يَلْوُونَ } مأخوذ من اللي ، وأصل اللى الميل يقال : لوى بيده و لوى برأسه إذا أماله ، والتوى الشيء إذا انحرف ومال عن الاستقامة إلى الاعوجاج والمعنى : " وإن من هؤلاء اليهود الذين كتموا الحق واشتروا بعهد الله وبأيمانهم ثمناً قليلا . إن منهم لفريقا يلوون ألسنتهم بالكتاب " أي يعمدون إلى كتاب الله فينطقون ببعض ألفاظه نطقا مائلا محرفا يتغير به المعنى من الوجه الصحيح الذى يفيده ظاهر اللفظ إلى معنى آخر سقيم لا يدل عليه اللفظ ولكنه يوافق أهواءهم ونواياهم السيئة ، ومقاصدهم الذميمة .
وذلك كأن ينطقوا بكلمة ( رَاعِنَا ) نطقا ملتويا يوافق فى لغتهم كلمة قبيحة يقصدون بها الإساءة إلى النبى صلى الله عليه وسلم . وقد نهى الله - تعالى - المؤمنين عن مخاطبة النبى صلى الله عليه وسلم بأمثال هذه الألفاظ حتى لا يتخذها اليهود ذريعة للإساءة إلى النبى صلى الله عليه وسلم فقال - تعالى -
{ يَاأَيُّهَا الذين آمَنُواْ لاَ تَقُولُواْ رَاعِنَا وَقُولُواْ انظرنا } وكأن ينطقوا بكلمة " السلام عليكم " بقولهم : " السام عليكم " بحذف اللام يعنون الموت عليكم لأن السام معناه الموت .
وكأن يغيروا لفظاً من كتابهم فيه ما يشهد بصدق النبى صلى الله عليه وسلم بلفظ آخر ، أو يؤولوا المعانى تأويلا فاسدا ، وقد وبخهم الله - تعالى - على هذا التحريف فى كثير من آيات القرآن الكريم ، ومن ذلك قوله - تعالى - { أَفَتَطْمَعُونَ أَن يُؤْمِنُواْ لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلاَمَ الله ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِن بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ } وقوله - تعالى - { مِّنَ الذين هَادُواْ يُحَرِّفُونَ الكلم عَن مَّوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا } وقوله - تعالى - { وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقاً } إنصاف منه - سبحانه - للفريق الذى لم يرتكب هذا الفعل الشنيع وهو تحريف كلامه - عز وجل - وتلك عادة القرآن فى أحكامه لا يظلم أحداً ولكنه يمدح من يستحق المدح ويذم من يستحق الذم .
وقوله { يَلْوُونَ } صفة لقوله { فَرِيقاً } .
والباء في قوله { بالكتاب } بمعنى " فى " مع حذف المضاف . أى وإن منهم لفريقا يلوون ألسنتهم في حال قراءتهم للكتاب ، إما بحذف حروف يتغير لامعنى بحذفها ، أو بزيادة تفسد المعنى ، أو بغير ذلك من وجوه التغيير والتبديل .
وقوله - تعالى - { لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الكتاب وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ } بيان للدوافع السيئة التى دفعتهم إلى ارتكاب هذا التحريف الذميم .
والضمير المنصوب فى قوله { لِتَحْسَبُوهُ } وكذلك ضمير الغائب { هُوَ } : يعودان إلى الكلام المحرف الذى لووا به ألسنتهم والمدلول عليه بقوله
{ يَلْوُونَ } أى أن من هؤلاء اليهود فريقاً يلوون ألسنتهم فى نطقهم بالكتاب ويحرفونه عن وجهه الصحيح ، لتظنوا أيها المسلمون أن هذا المحرف الذى لووا به ألسنتهم من كتاب الله الذى أنزله على أنبيائه ، والحق بأن هذا المحرف ليس من كتاب الله فى شيء ، وإنما هو من عند أنفسهم نطقوا به زورا بهتاناً إرضاء لأهوائهم . وقوله { مِنَ الْكِتَابِ } هو المفعول الثانى لقوله مِنَ الْكِتَابِ { لِتَحْسَبُوهُ } .
والمخاطب بقوله { لِتَحْسَبُوهُ } هم المسلمون وقال { وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ } بتكرار لفظ الكتاب ، ولم يقل وما هو منه ، للتنبيه على أن كتاب الله المنزل على موسى وعيسى - عليهما السلام - برىء كل البراءة من تحريفهم وتبديلهم ، ومما يزعمونه ويفترونه عليه . ثم بين - سبحانه - أنهم قد بلغت بهم الجرأة في الكذب والافتراء أنهم نسبوا هذا الذى حرفوه وغيره من كتبهم إلى الله - تعالى - فقال : { وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللًّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِندِ الله وَيَقُولُونَ عَلَى الله الكذب وَهُمْ يَعْلَمُونَ } .
أى أن هؤلاء الذين يلوون ألسنتهم بالكتاب ؛ ليوهموا غيرهم بأن هذا المحرف من الكتاب ، لا يكتفون بهذا التحريف ، بل يقولون { هُوَ مِنْ عِندِ الله } أى هذا المحرف هو نزل من عند الله هكذا ، لم ننقص منه حرفا ولم نزد عليه حرفا ، والحق أن هذا المحرف ليس من عند الله ولكنهم قوم ضالون يقولون على الله الكذب وهم يعلمون أنهم كاذبون .
ففى هذه الجملة الكريمة بيان لإصرارهم على الباطل ، ولتعمدهم الكذب على الله ، وتوبيخ لهم على هذا الافتراء العجيب . وقد أكد الله جرأتهم فى النطق بالزور والبهتان بمؤكدات منها :
أن كذبهم لم يكن تعريضا وإنما كان فى غاية الصراحة ، فهم يقولون عن المحرف { هُوَ مِنْ عِنْدِ اللًّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِندِ الله وَيَقُولُونَ عَلَى الله } .
وأن كذبهم لم يكن على البشر فحسب وإنما على الله الذى خلقهم والذى يعلم ما يسرون وما يعلنون { وَيَقُولُونَ عَلَى الله الكذب } .
وأن كذبهم لم يكن عن جهل أو عن نسيان وإنما عن علم وإصرار على هذا الكذب ، وهذا ما يشهد به قوله - تعالى - { وَهُمْ يَعْلَمُونَ } .
وهكذا القلوب إذا فسدت ، واستولى عليها السحد والجحود ، ارتكبت كل رذيلة ومنكر بدون تفكر في العواقب ، أو تدبر لما جاءت به الشرائع ، وأمرت به العقول السليمة .
وفى هذه الآية ترى أن لفظ الجلالة { الله } قد تكرر ثلاث مرات ، كذلك لفظ { الْكِتَابِ } تكرر ثلاث مرات ، ولم يكتف بالضمير الذى يدل عليهما ، وذلك لقصد الاهتمام باسم الله - تعالى - وباسم كتابه ، والخبر المتعلق بهما ، ولأن من عادة العرب أنهم إذا عظموا شيئا أعادوا ذكره ، وقد جاء ذلك كثيرا فى أشعارهم ، ومنه قول الشاعر :
لا أرى الموت يسبق الموت شيء . . . نغص الموت ذا الغنى والفقيرا
فقصد الشاعر من تكرار لفظ الموت تفخيم شأنه وتهويل أمره .
وبذلك نرى أن القرآن الكريم قد توعد الذين يشترون بعهد الله وبأيمانهم ثمنا قليلا بأشد ألوان الوعيد ، وكشف عن لون آخر من ألوان مكر بعض اليهود ، وعن جرأتهم فى النطق بالكذب عن تعمد وإصرار ، حتى يحذرهم المسلمون .
ثم يمضي في عرض نماذج من أهل الكتاب ؛ فيعرض نموذج المضللين ، الذي يتخذون من كتاب الله مادة للتضليل ، يلوون السنتهم به عن مواضعه ، ويؤولون نصوصه لتوافق أهواء معينة ، ويشترون بهذا كله ثمنا قليلا . . عرضا من عرض هذه الحياة الدنيا : ومن بين ما يلوون السنتهم به ويحرفونه ويؤولونه ما يختص بمعتقداتهم التي ابتدعوها عن المسيح عيسى بن مريم ، مما اقتضته أهواء الكنيسة وأهواء الحكام سواء :
وإن منهم لفريقا يلوون ألسنتهم بالكتاب لتحسبوه من الكتاب وما هو من الكتاب ، ويقولون : هو من عند الله وما هو من عند الله ، ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون . ما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب والحكم والنبوة ، ثم يقول للناس . كونوا عبادا لي من دون الله . ولكن كونوا ربانيين بما كنتم تعلمون الكتاب وبما كنتم تدرسون . ولا يأمركم أن تتخذوا الملائكة والنبيين أربابا . أيأمركم بالكفر بعد إذ أنتم مسلمون ؟ . .
وآفة رجال الدين حين يفسدون ، أن يصبحوا أداة طيعة لتزييف الحقائق باسم أنهم رجال الدين . وهذهالحال التي يذكرها القرآن عن هذا الفريق من أهل الكتاب ، نعرفها نحن جيدا في زماننا هذا . فهم كانوا يؤولون نصوص كتابهم ، ويلوونها ليا ، ليصلوا منها إلى مقررات معينة ، يزعمون أنها مدلول هذه النصوص ، وإنها تمثل ما أراده الله منها . بينما هذه المقررات تصادم حقيقة دين الله في أساسها . معتمدين على أن كثرة السامعين لا تستطيع التفرقة بين حقيقة الدين ومدلولات هذه النصوص الحقيقية ، وبين تلك المقررات المفتعلة المكذوبة التي يلجئون إليها النصوص إلجاء .
ونحن اليوم نعرف هذا النموذج جيدا في بعض الرجال الذين ينسبون إلى الدين ظلما ! الذين يحترفون الدين ، ويسخرونه في تلبية الأهواء كلها ؛ ويحملون النصوص ويجرون بها وراء هذه الأهواء حيثما لاح لهم أن هناك مصلحة تتحقق ، وأن هناك عرضا من أعراض هذه الحياة الدنيا يحصل ! يحملون هذه النصوص ويلهثون بها وراء تلك الأهواء ، ويلوون اعناق هذه النصوص ليا لتوافق هذه الأهواء السائدة ؛ ويحرفون الكلم عن مواضعه ليوافقوا بينه وبين اتجاهات تصادم هذا الدين وحقائقه الأساسية . ويبذلون جهدا لاهثا في التمحل وتصيد أدنى ملابسة لفظية ليوافقوا بين مدلول آية قرآنية وهوى من الأهواء السائدة التي يهمهم تمليقها . . ( ويقولون هو من عند الله . وما هو من عند الله . ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون ) . . كما يحكي القرآن عن هذا الفريق من أهل الكتاب سواء . فهي آفة لا يختص بها أهل الكتاب وحدهم . إنما تبتلى بها كل أمة يرخص دين الله فيها على من ينتسبون إليه حتى ما يساوي إرضاء هوى من الأهواء التي يعود تمليقها بعرض من أعراض هذه الأرض ! وتفسد الذمة حتى ما يتحرج القلب من الكذب على الله ، تحريف كلماته عن مواضعها لتمليق عبيد الله ، ومجاراة أهوائهم المنحرفة ، التي تصادم دين الله . . وكأنما كان الله - سبحانه - يحذر الجماعة المسلمة من هذا المزلق الوبيء ، الذي انتهى بنزع أمانة القيادة من بني إسرائيل .
يخبر تعالى عن اليهود ، عَليهم لعائن الله ، أن منهم فريقا يُحَرِّفون الكلم عن مواضعه ويُبَدِّلون كلام الله ، ويزيلونه عن المراد به ، ليُوهِموا الجهلة
أنه في كتاب الله كذلك ، وينسبونه إلى الله ، وهو كذب على الله ، وهم يعلمون من أنفسهم أنهم قد كذبوا وافتروا في ذلك كله ؛ ولهذا قال :
{ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ } .
وقال مجاهد ، والشعبي ، والحسن ، وقتادة ، والربيع بن أنس : { يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ } يحرفونه .
وهكذا روى{[5239]} البخاري عن ابن عباس : أنهم{[5240]} يحرفون ويزيدون{[5241]} وليس أحد من خلق الله يزيل لفظ كتاب من كتب الله ، لكنهم يحرفونه : يتأولونه على غير تأويله .
وقال وهب بن مُنَبِّه : إن التوراة والإنجيل كما أنزلهما الله لم يغير منهما حرف ، ولكنهم يُضِلّونَ بالتحريف والتأويل ، وكتب كانوا يكتبونها من عند أنفسهم { وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ } فأما كتب الله فإنها محفوظة ولا تحول .
رواه ابن أبي حاتم ، فإن عَنَى وَهْب ما بأيديهم من ذلك ، فلا شك أنه قد دخلها التبديل والتحريف والزيادة والنقص ، وأما تعريب ذلك المشاهد بالعربية ففيه خطأ كبير ، وزيادات كثيرة ونقصان ، ووَهْم فاحش . وهو من باب تفسير المعبر{[5242]} المعرب ، وفَهْم{[5243]} كثير منهم بل أكثرهم ، بل جميعهم فاسد . وأما إن عَنَى كتب الله التي هي كتبه من عنده ، فتلك كما قال محفوظة لم يدخلها شيء .
الضمير في { منهم } ، عائد على أهل الكتاب ، و «الفريق » ، الجماعة من الناس هي مأخوذة من فرق ، إذا فصل وأبان شيئاً عن شيء ، و{ يلوون } معناه : يحرفون ويتحيلون بتبديل المعاني من جهة اشتباه الألفاظ واشتراكها وتشعب التأويلات فيها ، ومثال ذلك قولهم : { سمعنا وعصينا واسمع غير مسمع }{[3269]} ونحو ذلك وليس التبديل المحض بليٍّ ، وحقيق الليّ في الثياب والحبال ونحوها ، فتلها وإراغتها{[3270]} ، ومنه ليّ العنق ثم استعمل ذلك في الحجج والخصومات والمجادلات تشبيهاً بتلك الإراغة التي في الأجرام فمنه قولهم ، خصم ألوى ومنه قول الشاعر :
فَلَوْ كَانَ فِي لَيْلَى شَذًى مِنْ خُصُومَةٍ . . . لَلَوَّيْتُ أَعْنَاقَ الْخُصُومِ الملاويا{[3271]}
ألْفَيْتَني ألوي بعيداً المستمر{[3272]}
وقرأ جمهور الناس ، «يلوون » ، مضارع لوى ، على وزن فعل بتخفيف العين وقرأ أبو جعفر بن القعقاع ، وشيبة بن نصاح ، «يلَوّون » بتشديد الواو وفتح اللام ، من لوّى ، على وزن فعّل بتشديد العين ، وهو تضعيف مبالغة لا تضعيف تعدية ، وقرأ حميد «يلُوْن » بضم اللام وسكون الواو ، وهي في الأصل «يلون » مثل قراءة الجماعة ، فهمزت الواو المضمومة لأنها عرفها في بعض اللغات ، فجاء «يلؤون » فنقلت ضمة الهمزة إلى اللام فجاء «يلُون » و{ الكتاب } في هذا الموضع التوراة ، وضمير الفاعل في قوله { لتحسبوه } هو للمسلمين قوله { وما هو من عند الله } نفي أن يكون منزلاً كما ادعوا ، وهو من عند الله بالخلق والاختراع والإيجاد ومنهم بالتكسب ولم تعن الآية إلا لمعنى التنزيل فبطل تعلق القدرية بظاهر قوله ، وما هو من عند الله ، وقد تقدم نظير قوله تعالى { ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون } .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{وإن منهم}: من اليهود، {لفريقا}: طائفة. {يلوون ألسنتهم بالكتاب}: يعني باللَّيِّ: التحريف بالألسن في أمر محمد صلى الله عليه وسلم. {لتحسبوه من الكتاب}: يعني التوراة، يقول الله عز وجل: {وما هو من الكتاب}، كتبوا، يعني في التوراة من غير نعت محمد صلى الله عليه وسلم ومحوا نعته. {ويقولون هو}: هذا النعت {من عند الله وما هو من عند الله}: ولكنهم كتبوه. {ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون} أنهم كذبة، وليس ذلك نعت محمد صلى الله عليه وسلم...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
وإنّ من أهل الكتاب، وهم اليهود الذين كانوا حوالي مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم، على عهده من بني إسرائيل. والهاء والميم في قوله: {مِنْهُمْ} عائدة على أهل الكتاب الذين ذكرهم في قوله: {وَمِنْ أهْلِ الكِتابِ مَنْ إنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطارٍ يُؤَدّهِ إلَيْكَ}. {لَفَرِيقا}: جماعة. {يَلْوُونَ}: يحرّفون. {ألْسِنَتَهُمْ بالْكِتابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الكِتابِ}: لتظنوا أن الذي يحرّفونه بكلامهم من كتاب الله وتنزيله. يقول الله عزّ وجلّ: وما ذلك الذي لووا به ألسنتهم، فحرّفوه وأحدثوه من كتاب الله، ويزعمون أن ما لووا به ألسنتهم من التحريف والكذب والباطل فألحقوه في كتاب الله من عند الله، يقول: وما ذلك الذي لووا به ألسنتهم، فأحدثوه مما أنزله الله إلى أحد من أنبيائه، ولكنه مما أحدثوه من قِبَل أنفسهم، افتراء على الله. يقول عزّ وجلّ: {وَيَقُولُونَ على الله الكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} يعني بذلك: أنهم يتعمدون قيل الكذب على الله، والشهادة عليه بالباطل، والإلحاق بكتاب الله ما ليس منه طلبا للرياسة والخسيس من حطام الدنيا.
وأصل الليّ: الفتل والقلب، من قول القائل: لوى فلان يد فلان: إذا فتلها وقلبها.
الكشف والبيان في تفسير القرآن للثعلبي 427 هـ :
{يلوون}: يعطفون {ألسنتهم} بالتحريف المتعنّت وهو ما غيّروا من صفة محمد صلى الله عليه وسلم وآية الرّجم. يقال: لوى لسانه عن كذا أي غيّره، ولوى الشيء عمّا كان عليه إذا غيّره إلى غيره، ولوى فلاناً عن رأيه، إذا أماله عنه، ومنه: ليُّ الغريم،... عن ابن عباس: إنّ الآية نزلت في اليهود والنّصارى جميعاً والذين هم حرّفوا التوراة والإنجيل، وضربوا كتاب اللّه بعضه ببعض وألحقوا به ما ليس منه فأسقطوا منه الدين الحنفي، فبيّن اللّه تعالى كذبهم للمؤمنين...
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
يزيِّنون العبارات، ويطلقون ألسنتهم بما لا خَبَرَ في قلوبهم منه، ولا لهم بذلك تحقيق، تلبيساً على الأغبياء والعوام؛ يوهمون أن لهم تحقيق ما يقولونه بألسنتهم. قال تعالى في صفة هؤلاء {لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الكِتَابِ}، كذلك أرباب التلبيس والتدليس، يُرَوِّجون قالتَهم على المستضعفين، فأما أهل الحقائق فأسرارهم عندهم مكشوفة. قال الله تعالى: {وَيَقُولُونَ عَلَى اللهِ الكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ}، أي يعلمون أنهم كاذبون، كذلك أهل الباطل والتلبيس.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِ} تأكيد لقوله: هو من الكتاب، وزيادة تشنيع عليهم، وتسجيل بالكذب، ودلالة على أنهم لا يعرّضون ولا يورُّون وإنما يصرحون بأنه في التوراة هكذا، وقد أنزله الله تعالى على موسى كذلك لفرط جراءتهم على الله وقساوة قلوبهم ويأسهم من الأخرة...
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
{يلوون}: يحرفون ويتحيلون بتبديل المعاني من جهة اشتباه الألفاظ واشتراكها وتشعب التأويلات فيها، ومثال ذلك قولهم: {سمعنا وعصينا واسمع غير مسمع} ونحو ذلك وليس التبديل المحض بليٍّ،...
اعلم أن هذه الآية تدل على أن الآية المتقدمة نازلة في اليهود بلا شك لأن هذه الآية نازلة في حق اليهود وهي معطوفة على ما قبلها فهذا يقتضي كون تلك الآية المتقدمة نازلة في اليهود أيضا... (اللي) عبارة عن عطف الشيء ورده عن الاستقامة إلى الاعوجاج،...وقال تعالى: {وراعنا ليا بألسنتهم وطعنا في الدين} [النساء: 46]... قوله {يلوون ألسنتهم} معناه وأن يعمدوا إلى اللفظة فيحرفونها في حركات الإعراب تحريفا يتغير به المعنى، وهذا كثير في لسان العرب فلا يبعد مثله في العبرانية، فلما فعلوا مثل ذلك في الآيات الدالة على نبوة محمد عليه الصلاة والسلام من التوراة كان ذلك هو المراد من قوله تعالى: {يلوون ألسنتهم}... عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: إن النفر الذين لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا ينظر إليهم كتبوا كتابا شوشوا فيه نعت محمد صلى الله عليه وسلم وخلطوه بالكتاب الذي كان فيه نعت محمد صلى الله عليه وسلم ثم قالوا {هذا من عند الله}.
إذا عرفت هذا فنقول: إن لي اللسان تثنيه بالتشدق والتنطع والتكلف وذلك مذموم فعبر الله تعالى عن قراءتهم لذلك الكتاب الباطل بلى اللسان ذما لهم وعيبا ولم يعبر عنها بالقراءة، والعرب تفرق بين ألفاظ المدح والذم في الشيء الواحد، فيقولون في المدح: خطيب مصقع، وفي الذم: مكثار ثرثار...
السؤال الثاني: كيف يمكن إدخال التحريف في التوراة مع شهرتها العظيمة بين الناس؟. الجواب: لعله صدر هذا العمل عن نفر قليل، يجوز عليهم التواطؤ على التحريف، ثم إنهم عرضوا ذلك المحرف على بعض العوام وعلى هذا التقدير يكون هذا التحريف ممكنا، والأصوب عندي في تفسير الآية وجه آخر وهو أن الآيات الدالة على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم كان يحتاج فيها إلى تدقيق النظر وتأمل القلب، والقوم كانوا يوردون عليها الأسئلة المشوشة والاعتراضات المظلمة فكانت تصير تلك الدلائل مشتبهة على السامعين، واليهود كانوا يقولون: مراد الله من هذه الآيات ما ذكرناه لا ما ذكرتم، فكان هذا هو المراد بالتحريف وبلي الألسنة وهذا مثل ما أن المحق في زماننا إذا استدل بآية من كتاب الله تعالى، فالمبطل يورد عليه الأسئلة والشبهات ويقول: ليس مراد الله ما ذكرت، فكذا في هذه الصورة...
{لتحسبوه من الكتاب وما هو من الكتاب} وبين قوله {ويقولون هو من عند الله وما هو من عند الله} [آل عمران: 78] وكرر هذا الكلام بلفظين مختلفين لأجل التأكيد، أما المحققون فقالوا: المغايرة حاصلة، وذلك لأنه ليس كل ما لم يكن في الكتاب لم يكن من عند الله، فإن الحكم الشرعي قد ثبت تارة بالكتاب، وتارة بالسنة، وتارة بالإجماع، وتارة بالقياس والكل من عند الله...
فقوله {لتحسبوه من الكتاب وما هو من الكتاب} هذا نفي خاص، ثم عطف عليه النفي العام فقال: {ويقولون هو من عند الله وما هو من عند الله} وأيضا يجوز أن يكون المراد من الكتاب التوراة، ويكون المراد من قولهم: هو من عند الله، أنه موجود في كتب سائر الأنبياء عليهم الصلاة والسلام؛ وذلك لأن القوم في نسبة التحريف إلى الله كانوا متحيرين، فإن وجدوا قوما من الأغمار والبله الجاهلين بالتوراة نسبوا ذلك المحرف إلى أنه من التوراة، وإن وجدوا قوما عقلاء أذكياء زعموا أنه موجود في كتب سائر الأنبياء عليهم الصلاة والسلام الذين جاؤوا بعد موسى عليه السلام...
البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي 745 هـ :
والذي يظهر أن الليّ وقع بالكتاب أي: بألفاظه لا بمعانيه وحدها كما يزعم بعض الناس، بل التحريف والتبديل وقع في الألفاظ، والمعاني تبع للألفاظ، ومن طالع التوراة علم يقيناً أن التبديل في الألفاظ والمعاني، لأنها تضمنت أشياء يجزم العاقل أنها ليست من عند الله، ولا أن ذلك يقع في كتاب إلهي من كثرة التناقض في الاخبار والأعداد ونسبة أشياء إلى الله تعالى من الأكل والمصارعة وغير ذلك، ونسبة أشياء إلى الأنبياء من الكذب والسكر من الخمر والزنا ببناتهم. وغير ذلك من القبائح التي ينزه العاقل نفسه عن أن يتصف بشيء منها، فضلاً عن منصب النبوة.
وقد صنف الشيخ علاء الدين علي بن محمد بن خطاب الباجي، رحمه الله تعالى، كتاباً في (السؤالات على ألفاظ التوراة ومعانيه) ومن طالع ذلك الكتاب رأى فيه عجائب وغرائب، وجزم بالتبديل لألفاظ التوراة ومعانيها، هذا مع خلوها من ذكر: الآخرة، والبعث، والحشر، والنشر، والعذاب والنعيم الأخرويين، والتبشير برسول الله صلى الله عليه وسلم، وأين هذا من قوله تعالى {الذين يتبعون الرسول النبيّ الأميّ الذي يجدونه مكتوباً عندهم في التوراة والإنجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرّم عليهم الخبائث ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم} وقوله تعالى وقد ذكر رسوله وصحابته. {ذلك مثلهم في التوراة} وقد نص تعالى في القرآن على ما يقتضي إخفاءهم لكثير من التوراة، قال تعالى: {قل من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى نوراً وهدى للناس تجعلونه قراطيس تبدونها وتخفون كثيراً} وقال تعالى {يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم كثيراً مما كنتم تخفون من الكتاب} فدلت هاتان الآيتان على أن الذي أخفوه من الكتاب كثير، ودل بمفهوم الصفة أن الذي أبدوه من الكتاب قليل...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
{وإن منهم لفريقاً} أي جبلوا على الفرقة، فهم لا يزالون يسعون في التفريق... {يلوون} أي يفتلون ويحرفون {ألسنتهم بالكتاب} بأن ينقلوا اللسان لتغيير الحرف من مخرج إلى آخر -مثلاً بأن يقولوا في {اعبدوا الله} [المائدة: 72 وغيرها]: اللات، وفي {لا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق} [الأنعام: 151] بالحد، وفي "من زنى فارجموه "فارحموه بالمهملة، أو فحمموه، أو اجلدوه- ونحو هذا...
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
قوله تعالى: {وإن منهم لفريقا يلوون ألسنتهم بالكتاب} بيان لحال طائفة أخرى من أهل الكتاب والجمهور. على أن المراد بهذا الفريق بعض علماء اليهود الذين كانوا حوالي المدينة وإن كان التشنيع عليهم يتناول كل من كان على شاكلتهم منهم ومن غيرهم. ويروون عن ابن عباس،رضي الله عنهما، أن هذا الفريق هم اليهود الذين قدموا على كعب بن الأشرف أحد زعمائهم الملحين في عداوة رسول الله صلى الله عليه وسلم وإيذائه والإغراء به، غيروا التوراة وكتبوا كتابا بدلوا فيه صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخذت قريظة ما كتبوه فخلطوه بالكتاب الذي عندهم وجعلوا يلوون ألسنتهم بقراءته يوهمون الناس أنه من التوراة. وهذا العمل ينبئ بفساد اعتقادهم وعدم استمساكهم بكتابهم. وذلك أنهم جعلوا الدين جنسية وصار الانتصار له عندهم عبارة عن مقاومة من لم يكن من جنسهم وإن كان أقرب منهم إلى ما جاء في كتابهم بل إنهم يخرجون عن كتابهم ويحرفونه لمقاومة الغريب ويعدون ذلك انتصارا له. وهكذا يفعل أشباههم من المسلمين اليوم. فقد يعدون من أنصار الدين والمتعصبين له من لا معرفة له بعقائده وأصوله ولا بفروعه إلا ما هو مشهور عند العامة. ولا هو يعمل بما يعلم من ذلك وإنما يعدونه كذلك إذا هو عادى من لا يعدون من المسلمين ولو بسبب سياسي أو دنيوي لا علاقة له بالإسلام. بل يعدون من أنصار الدين من يطعن في بعض المصلحين من المسلمين لمخالفتهم ما عليه العامة، والمقلدون فيما يعدونه من الإسلام لأنهم اعتادوه لا لأن كتاب الله جاء به. وقد يحرفون القرآن بالتأويل لتأييد تقاليدهم وبدعهم أو يعرضون عنه اعتذارا بأنهم غير مطالبين بأخذ دينهم منه بل من كلام العلماء.
أما لَيُّ اللسان بالكتاب فهو فتله للكلام... فاللي والتحريف قد كان يكون منهم أحيانا بتغيير في اللفظ وأحيانا بصرفه إلى غير المعنى المراد منه، ومنه أن يقرأ القارئ شيئا بالكيفية التي يقرأ بها الكتاب من جرس الصوت وطريقة النغم وإظهار الخشوع ليحسبه السامع من الكتاب فيقبله،... هذا اللي هو أن يعطي الناس للفظ معنى آخر غير المعنى الذي يظهر منه. مثال ذلك الألفاظ التي جاءت على لسان سيدنا عيسى عليه السلام ككلمة ابن الله وتسمية الله أبا وأبا للناس فقد كان ذلك استعمالا مجازيا، ولواه بعضهم فنقله إلى الحقيقة بالنسبة إلى المسيح وحده أي فهم يفسرون لفظا بغير معناه المراد في الكتاب يوهمون الناس أن الكتاب جاء بذلك... وهكذا حال الذين اتبعوا سننهم من المسلمين، يقولون إن المسلم من أهل الجنة حتما، مهما كانت سيرته سيئة وعمله قبيحا. فإن لم تدركه الشفاعات أدركته المغفرة، ويعنون بالمسلم من اتخذ الإسلام جنسا له. وإن لم يصدق عليه ما جاء في الكتاب والأحاديث من صفات المؤمنين الصادقين، بل صدق عليه ما جاء في وصف الكافرين والمنافقين...
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
هؤلاء يقولون على الله الكذب فيجمعون بين نفي المعنى الحق، وإثبات المعنى الباطل، وتنزيل اللفظ الدال على الحق على المعنى الفاسد، مع علمهم بذلك...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
وآفة رجال الدين حين يفسدون، أن يصبحوا أداة طيعة لتزييف الحقائق باسم أنهم رجال الدين. وهذه الحال التي يذكرها القرآن عن هذا الفريق من أهل الكتاب، نعرفها نحن جيدا في زماننا هذا. فهم كانوا يؤولون نصوص كتابهم، ويلوونها ليا، ليصلوا منها إلى مقررات معينة، يزعمون أنها مدلول هذه النصوص، وإنها تمثل ما أراده الله منها. بينما هذه المقررات تصادم حقيقة دين الله في أساسها. معتمدين على أن كثرة السامعين لا تستطيع التفرقة بين حقيقة الدين ومدلولات هذه النصوص الحقيقية، وبين تلك المقررات المفتعلة المكذوبة التي يلجئون إليها النصوص إلجاء. ونحن اليوم نعرف هذا النموذج جيدا في بعض الرجال الذين ينسبون إلى الدين ظلما! الذين يحترفون الدين، ويسخرونه في تلبية الأهواء كلها؛ ويحملون النصوص ويجرون بها وراء هذه الأهواء حيثما لاح لهم أن هناك مصلحة تتحقق، وأن هناك عرضا من أعراض هذه الحياة الدنيا يحصل! يحملون هذه النصوص ويلهثون بها وراء تلك الأهواء، ويلوون اعناق هذه النصوص ليا لتوافق هذه الأهواء السائدة؛ ويحرفون الكلم عن مواضعه ليوافقوا بينه وبين اتجاهات تصادم هذا الدين وحقائقه الأساسية. ويبذلون جهدا لاهثا في التمحل وتصيد أدنى ملابسة لفظية ليوافقوا بين مدلول آية قرآنية وهوى من الأهواء السائدة التي يهمهم تمليقها.. (ويقولون هو من عند الله. وما هو من عند الله. ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون).. كما يحكي القرآن عن هذا الفريق من أهل الكتاب سواء. فهي آفة لا يختص بها أهل الكتاب وحدهم. إنما تبتلى بها كل أمة يرخص دين الله فيها على من ينتسبون إليه حتى ما يساوي إرضاء هوى من الأهواء التي يعود تمليقها بعرض من أعراض هذه الأرض! وتفسد الذمة حتى ما يتحرج القلب من الكذب على الله، تحريف كلماته عن مواضعها لتمليق عبيد الله، ومجاراة أهوائهم المنحرفة، التي تصادم دين الله.. وكأنما كان الله -سبحانه- يحذر الجماعة المسلمة من هذا المزلق الوبيء، الذي انتهى بنزع أمانة القيادة من بني إسرائيل...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
أي من اليهود طائفة تخيل للمسلمين أشياء أنها مما جاء في التوراة، وليست كذلك، إما في الاعتذار عن بعض أفعالهم الذميمة، كقولهم: ليس علينا في الأميين سبيل، وإما للتخليط على المسلمين حتى يشككوهم فيما يخالف ذلك مما ذكره القرآن، أو لإدخال الشك عليهم في بعض ما نزل به القرآن،... فلعلهم كانوا إذا قرأوا بعض التوراة بالعربية نطقوا بحروف من كلماتها بينَ بينَ ليوهموا المسلمين معنى غير المعنى المراد، وقد كانت لهم مقدرة ومِراس في هذا...
ويحتمل أن يكون اللّي هنا مجازَاً عن صرف المعنى إلى معنى آخر كقولهم لوى الحجة أي ألقي بها على غير وجهها، وهو تحريف الكلم عن مواضعه: بالتأويلات الباطلة، والأقيسة الفاسدة، والموضوعات الكاذبة، وينسبون ذلك إلى الله،... وجيء بالمضارع في هاته الأفعال: يلوون، ويَقُولون، للدلالة على تجدّد ذلك وأنه دأبهم...
وتكرير الكتاب في الآية مرتين، واسم الجلالة أيضاً مرتين، لقصد الاهتمام بالاسمين، وذلك يجر إلى الاهتمام بالخبر المتعلق بهما، والمتعلقين به،...
التيسير في أحاديث التفسير للمكي الناصري 1415 هـ :
هذه الآية تشير إلى استنكار الإسلام لما تواطأ عليه أحبار اليهود ورهبان النصارى من الزور والبهتان، فكم من عقائد سليمة حرفوها عن أصلها، وكم من عقائد باطلة وشعائر فاسدة أدمجوها في صلب الدين وليست منه، وكم من شرائع غيروها وبدلوها ترضية للأهواء والشهوات، وكشف كتاب الله عن تضليلهم وتزويرهم النقاب، فبين أن فريقا منهم (يلوون ألسنتهم بالكتاب)، أي يتمتمون بعض الفقرات والجمل أمام أتباعهم، إيهاما لهم بأن ما يتمتمون به قول صحيح وارد في كتاب الله، لا مجرد قول من أقوالهم، وأنه من عند الله لا من عندياتهم. ولا حاجة على التنبيه على أن ما استنكره القرآن الكريم من تحريف أحبار اليهود ورهبان النصارى للدين وتزييفهم للكتب المنزلة، وتقولهم على الله ما لم يقل، ومن استغلالهم للشعور الديني استغلالا فاحشا في سبيل أغراضهم وشهواتهم، وتضليل البسطاء من أتباعهم، كلها أمور لا يقبلها الله تعالى من أي أحد من علماء المسلمين، فالعالم المسلم يجب عليه أن يحتاط كل الاحتياط من الوقوع في المزالق، ويجب عليه أن يحرص كل الحرص على حفظ أمانة العلم الشريف، وأن يصونها-مهما كلفه الأمر- من التحريف والتزييف، وإلا حقت عليه كلمة العذاب، واندرج في زمرة من {يقولون على الله الكذب} بنص الكتاب...
وإذا كان أهل الكتاب لا يؤتمنون على التوراة والإنجيل، فيكون من باب أولى وأحرى أن لا يؤتمنوا على القرآن، كما هو الشأن في غلاة المستشرقين والرهبان، الذين تجب محاربة أرائهم الفاسدة، والوقوف في وجه انتشارها بين شبان المسلمين في مختلف البلدان...
أي أنهم يلوون ألسنتهم بالكلام الصادر من الله ليحرفوه عن معانيه، أو يَلْوُون ألسنتهم عندما يريدون التعبير عن المعاني. و "اللي "هو الفتل، فنحن عندما نفتل حبلا، ونحاول أن نجدل بين فرعين اثنين من الخيوط، ثم نفتلهم معا لنصنع حبلا، والهدف من الفتل هو أن نضع قوة من شعيرات الخيوط، فهذه الشعيرات لها قوة محدودة، وعندما نفتل هذه الخيوط فإننا نزيد من قوة الخيوط بجدلها معا. إذن فالفتل المراد به الوصول إلى قوة، وهكذا نرى أنهم يلوون ألسنتهم بكلام يدعون أنه من المنهج المنزل من عند الله، وهذا الكلام ليس من المنهج ولم ينزل من عند الله إنّهم يفعلون ذلك لتقوية مركزهم والتنقيص من مكانة الإسلام والطعن في الرسول... كما أخذوا من قبل قول الله: {وَقُولُواْ حِطَّةٌ} [الأعراف: 161]. وحرفوا هذا القول: "وَقُولُواْ حِنطَّةٌ"،... أما قولهم بعد ذلك: {هُوَ مِنْ عِنْدِ اللًّهِ} فهو دليل على أنهم أحدثوا في الكتاب شيئا وأصروا عليه فجاءوا بقولهم: {هُوَ مِنْ عِنْدِ اللًّهِ} لينفوا عن أنفسهم شبهة أن يُدعى عليهم أنهم حرفوا الكتاب، ولو لم يكونوا قد حرفوا الكتاب أكانت تخطر ببالهم، هذه؟ إن أمرهم جاء من باب (يكاد المريب أن يقول خذوني)...