البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{وَإِنَّ مِنۡهُمۡ لَفَرِيقٗا يَلۡوُۥنَ أَلۡسِنَتَهُم بِٱلۡكِتَٰبِ لِتَحۡسَبُوهُ مِنَ ٱلۡكِتَٰبِ وَمَا هُوَ مِنَ ٱلۡكِتَٰبِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنۡ عِندِ ٱللَّهِ وَمَا هُوَ مِنۡ عِندِ ٱللَّهِۖ وَيَقُولُونَ عَلَى ٱللَّهِ ٱلۡكَذِبَ وَهُمۡ يَعۡلَمُونَ} (78)

لوى الحبل والتوى : فتله ثم استعمل في الإراغة في الحجج والخصومات ، ومنه : ليان الغريم : وهو دفعه ومطله ، ومنه : خصم ألوى : شديد الخصومة ، شبهت المعاني بالإجرام .

اللسان : الجارحة المعروفة .

قال أبو عمرو : اللسان يذكر ويؤنث ، فمن ذكر جمعه ألسنة ومن أنث أمعه ألسنا .

وقال الفراء : اللسان بعينه لم نسمعه من العرب إلاَّ مذكراً . انتهى .

ويعبر باللسان عن الكلام ، وهو أيضاً يذكر ويؤنث إذا أريد به ذلك .

{ وإن منهم لفريقاً } أي : من اليهود ، قاله الحسن : أو : من أهل الكتابين ، قاله ابن عباس .

وعن ابن عباس أيضاً : هم اليهود الذين قدموا على كعب بن الأشرف غيّروا التوراة .

وكتبوا كتاباً بدلوا فيه صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم أخذت قريظة ما كتبوه فخلطوه بالكتاب الذي عندهم .

{ يلوون ألسنتهم بالكتاب لتحسبوه من الكتاب } أي : يفتلونها بقراءته عن الصحيح إلى المحرف ، قاله الزمخشري وقال ابن عطية : يحرفون ويتحيلون لتبديل المعاني من جهة اشتباه الألفاظ واشتراكها وتشعب التأويلات فيها ، ومثال ذلك قولهم : راعنا ، وأسمع غير مسمع ، ونحو ذلك وليس التبديل المحض .

انتهى .

والذي يظهر أن الليّ وقع بالكتاب أي : بألفاظه لا بمعانيه وحدها كما يزعم بعض الناس ، بل التحريف والتبديل وقع في الألفاظ ، والمعاني تبع للألفاظ ، ومن طالع التوراة علم يقيناً أن التبديل في الألفاظ والمعاني ، لأنها تضمنت أشياء يجزم العاقل أنها ليست من عند الله ، ولا أن ذلك يقع في كتاب إلهي من كثرة التناقض في الاخبار والأعداد ونسبة أشياء إلى الله تعالى من الأكل والمصارعة وغير ذلك ، ونسبة أشياء إلى الأنبياء من الكذب والسكر من الخمر والزنا ببناتهم .

وغير ذلك من القبائح التي ينزه العاقل نفسه عن أن يتصف بشيء منها ، فضلاً عن منصب النبوة .

وقد صنف الشيخ علاء الدين علي بن محمد بن خطاب الباجي ، رحمه الله تعالى ، كتاباً في ( السؤالات على ألفاظ التوراة ومعانيه ) ومن طالع ذلك الكتاب رأى فيه عجائب وغرائب ، وجزم بالتبديل لألفاظ التوراة ومعانيها ، هذا مع خلوها من ذكر : الآخرة ، والبعث ، والحشر ، والنشر ، والعذاب والنعيم الأخرويين ، والتبشير برسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأين هذا من قوله تعالى { الذين يتبعون الرسول النبيّ الأميّ الذي يجدونه مكتوباً عندهم في التوراة والإنجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرّم عليهم الخبائث ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم } وقوله تعالى وقد ذكر رسوله وصحابته .

{ ذلك مثلهم في التوراة }

وقد نص تعالى في القرآن على ما يقتضي إخفاءهم لكثير من التوراة ، قال تعالى : { قل من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى نوراً وهدى للناس تجعلونه قراطيس تبدونها وتخفون كثيراً } وقال تعالى { يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم كثيراً مما كنتم تخفون من الكتاب } فدلت هاتان الآيتان على أن الذي أخفوه من الكتاب كثير ، ودل بمفهوم الصفة أن الذي أبدوه من الكتاب قليل .

وقرأ الجمهور : يلوون ، مضارع : لوى وقرأ أبو جعفر بن القعقاع ، وشيبة بن نصاح ، وأبو حاتم عن نافع : يلوون بالتشديد ، مضارع : لوّى ، مشدّداً .

ونسبها الزمخشري لأهل المدينة ، والتضعيف للمبالغة والتكثير في الفعل لا للتعدية وقرأ حميد : يلون ، بضم اللام ، ونسبها الزمخشري إلى أنها رواية عن مجاهد ، وابن كثير ، ووجهت على أن الأصل : يلوون ، ثم أبدلت الواو همزة ، ثم نقلت حركتها إلى الساكن قبلها ، وحذفت هي .

والكتاب : هنا التوراة ، والمخاطب في : لتحسبوه ، المسلمون وقرئ : ليحسبوه ، بالياء وهو يعود على الذين يلوون ألسنتهم لهم ، أي : ليحسبه المسلمون ، والضمير المفعول في : ليحسبوه ، عائد على ما دل عليه ما قبله من المحرف ، أي ليحسبوا المحرف من الكتاب .

ويحتمل أن يكون قوله : بالكتاب ، على حذف مضاف أي : يلوون ألسنتهم بشبه الكتاب ، فيعود الضمير على ذلك المضاف المحذوف ، كقوله تعالى : { أو كظلمات في بحر لجّي يغشاه } أي : أو كذي ظلمات ، فأعاد المفعول في : يغشاه ، على : ذي ، المحذوف .

{ وما هو من الكتاب } أي : وما المحرف والمبدل الذي لووه بألسنتهم من التوراة ، فلا تظنوا ذلك أنه من التوراة .

{ ويقولون هو من عند الله } تأكيد لما قصدوه من حسبان المسلمين أنه من الكتاب ، وافتراء عظيم على الله ، إذ لم يكتفوا بهذا الفعل القبيح من التبديل والتحريف حتى عضدوا ذلك بالقول ليطابق الفعل القول ، ودل ذلك على أنهم لا يعرضون ، ولا يودّون في ذلك ، بل يصرحون بأنه في التوراة هكذا ، وقد أنزله الله على موسى كذلك ، وذلك لفرط جرأتهم على الله ويأسهم من الآخرة .

{ وما هو من عند الله } رد عليهم في إخبارهم بالكذب ، وهذا تأكيد لقوله { وما هو من الكتاب } نفى أولاً أخص ، إذ التعليل كان لأخص ، ونفي هنا أعم ، لأن الدعوى منهم كانت الأعم ، لأن كونه من عند الله أعم من أن يكون في التوراة أو غيرها .

قال أبو بكر الرازي : هذه الآية فيها دلالة على أن المعاصي ليست من عند الله ولا من فعله ، لأنها لو كانت من فعله كانت من عنده .

وقد نفى الله تعالى نفياً عامّاً لكون المعاصي من عنده . انتهى .

وهذا مذهب المعتزلة ، وكان الرازي يجنح إلى مذهبهم .

وقال ابن عطية { وما هو من عند الله } نفي أن يكون منزلاً كما ادّعوا ، وهو من عند الله بالخلق والاختراع والإيجاد ، ومنهم بالتكسب .

ولم تعن الآية إلاَّ معنى التنزيل ، فبطل تعلق القدرية بظاهر قوله : { وما هو من عند الله } .

{ ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون } تقدّم تفسير مثل هذا آنفاً .

/خ82