قوله تعالى : { يوم لا ينفع مال ولا بنون*إلا من أتى الله بقلب سليم } أي : خالص من الشرك والشك ، فأما الذنوب فليس يسلم منها أحد ، هذا قول أكثر المفسرين . قال سعيد بن المسيب : القلب السليم هو الصحيح ، وهو قلب المؤمن لأن قلب الكافر والمنافق مريض . قال الله تعالى : { في قلوبهم مرض } قال أبو عثمان النيسابوري : هو القلب الخالي من البدعة المطمئن على السنة .
* إِلا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ } فهذا الذي ينفعه عندك وهذا الذي ينجو به من العقاب ويستحق جزيل الثواب
والقلب السليم معناه الذي سلم من الشرك والشك ومحبة الشر والإصرار على البدعة والذنوب ويلزم من سلامته مما ذكر اتصافه بأضدادها من الإخلاص والعلم واليقين ومحبة الخير وتزيينه في قلبه وأن تكون إرادته ومحبته تابعة لمحبة الله وهواه تابعا لما جاء عن الله
{ إِلاَّ مَنْ أَتَى الله بِقَلْبٍ سَلِيمٍ } أى : واسترنى - يا إلهى - ولا تفضحنى يوم القيامة ، يوم لا ينتفع الناس بشىء من أموالهم ولا من أولادهم ، ولكنهم ينتفعون بإخلاص قلوبهم لعبادتك . بسلامتها من كل شرك أو نفاق ، وبصيانتها من الشهوات المرذولة . والأفعال القبيحة .
وهكذا نرى فى قصة إبراهيم : الشجاعة فى النطق بكلمة الحق ، حيث جابه قومه وأباه ببطلان عبادتهم للأصنام .
ونرى الحجة الدامغة التى جعلت قومه لا يجدون عذرا يعتذرون به عن عبادة الأصنام سوى قولهم : { وَجَدْنَآ آبَآءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ } .
ونرى الثناء الحسن الجميل منه على ربه - عز وجل - : { الذي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ والذي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ } .
ونرى الدعاء الخاشع الخالص الذى يتضرع به إلى خالقه - عز وجل - ، لكى يرزقه العلم والعمل ، وبأن يحشره مع الصالحين ، وأن يجعل له أثرا طيبا بعد وفاته بين الأمم الأخرى ، وبأن يجعله من الوارثين لجنة النعيم ، وبأن يستره بستره الجميل يوم القيامة ، يوم لا ينفع الناس شىء سوى إخلاص قلوبهم وعملهم الصالح ، وهى دعوات يرى المتأمل فيها شدة خوف إبراهيم - وهو الحليم الأواه المنيب - من أهوال يوم الحساب . نسأل الله - تعالى - بفضله وكرمه ، أن جنبنا إياها ، وأن يسترنا بستره الجميل .
كما نستشف من قوله : ( يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم ) . مدى إدراكه لحقيقة ذلك اليوم . وإدراكه كذلك لحقيقة القيم . فليست هنالك من قيمة في يوم الحساب إلا قيمة الإخلاص . إخلاص القلب كله لله ، وتجرده من كل شائبة ، ومن كل مرض ، ومن كل غرض . وصفائه من الشهوات والانحرافات . وخلوه من التعلق بغير الله . فهذه سلامته التي تجعل له قيمة ووزنا( يوم لا ينفع مال ولا بنون ) ؛ ولا ينفع شيء من هذه القيم الزائلة الباطلة ، التي يتكالب عليها المتكالبون في الأرض ؛ وهي لا تزن شيئا في الميزان الأخير !
قال محمد بن سيرين : القلب السليم أن يعلم أن الله حق ، وأن الساعة آتية لا ريب فيها ، وأن الله يبعث مَنْ في القبور .
وقال ابن عباس : { إِلا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ } حَيِي{[21781]} يشهد أن لا إله إلا الله .
وقال مجاهد ، والحسن ، وغيرهما : { بِقَلْبٍ سَلِيمٍ } يعني : من الشرك .
وقال سعيد بن المسيب : القلب السليم : هو القلب الصحيح ، وهو قلب المؤمن ؛ لأن قلب [ الكافر و ]{[21782]} المنافق مريض ، قال الله : { فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ } [ البقرة : 10 ] .
وقال أبو عثمان النيسابوري : هو القلب الخالي من البدعة ، المطمئن إلى السنة .
{ يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم } أي لا ينفعان أحدا إلا مخلصا سليم القلب عن الكفر وميل المعاصي وسائر آفاته ، أو لا ينفعان إلا مال من هذا شأنه وبنوه حيث أنفق ماله في سبيل البر ، وأرشد بنيه إلى الحق وحثهم على الخير وقصد بهم أن يكونوا عباد الله مطيعين شفعاء له يوم القيامة . وقيل الاستثناء مما دل عليه المال والبنون أي لا ينفع غنى إلا غناه . وقيل منقطع والمعنى لكن سلامة { من أتى الله بقلب سليم } تنفعه .
يظهر على هذا الوجه أن يكون المراد ب { من أتى الله بقلب سليم } الإشارةُ إلى إبراهيم عليه السلام لأن الله تعالى وصفه بمثل هذا في آية سورة الصافات ( 83 ، 84 ) في قوله : { وإن من شِيعَتِه } ( أي شيعة نوح ) لإبراهيمَ إذ جاء ربَّه بقلب سليم .
وفيه أيضاً تذكير قومه بأن أصنامهم لا تغني عنهم شيئاً ، ونفي نفع المال صادق بنفي وجود المال يومئذ من باب « على لاحب لا يهتدى بمناره » ، أي لا منارَ له فيهتَدى به ، وهو استعمال عربي إذا قامت عليه القرينة . ومن عبارات عِلم المنطق « السَّالبةُ تصدُق بنفي الموضوع » .
والاقتصار على المال والبنين في نفي النافعين جرى على غالب أحوال القبائل في دفاع أحد عن نفسه بأن يدافع إما بفدية وإما بنجدة ( وهي النصر ) ، فالمال وسيلة الفدية ، والبنون أحق من ينصرون أباهم ، ويعتبر ذلك النصر عندهم عهداً يجب الوفاء به . قال قيس ابن الخَطِيم :
ثأَرتُ عَدِيًّا والخطيمَ ولم أُضِع *** وَلاية أشياخ جُعلت إزاءَها
واقتضى ذلك أن انتفاء نفع ما عدا المال والبنين من وسائل الدفاع حاصل بالأوْلى بحكم دلالة الاقتضاء المستندة إلى العُرف . فالكلام من قبيل الاكتفاء ، كأنه قيل : يوم لا ينفع مال ولا بنون ولا شيء آخر . وقوله : { إلا من أتى الله بقلب سليم } استثناء من مفعول { ينفع } ، أي إلاّ منفوعاً أتى الله بقلب سليم .
هذا معنى الآية وهو مفهوم للسامعين فلذلك لم يؤثَر عن أحد من سلف المفسرين عدّ هذه الآية من متشابه المعنى وإنما أعضل على خلفهم طريق استخلاص هذا المعنى المجمل من تفاصيل أجزاء تركيب الكلام .
وذكر صاحب « الكشاف » احتمالات لا يسلم شيء منها من تقدير حذففٍ ، فَبِنَا أن نفصِّل وجه استفادة هذا المعنى من نظم الآية بوجه يكون أليق بتركيبها دون تكلف .
فاعلم أن فعل { ينفع } رافع لفاعل ومتعدّ إلى مفعول ، فهو بحقِّ تعدِّيه إلى المفعول يقتضي مفعولاً ، كما يصلح لأنْ تعلّقَ به متعلقات بحروف تعدية ، أي حروف جر ، وإن أول متعلقاته خطوراً بالذهن متعلق سبب الفعل ، فيعلم أن قوله : { يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم } يشير إلى فاعِل { ينفع } ومفعولِه وسببِه الذي يحصل به ، فقوله : { بقلب سليم } هو المتعلق بفعل { أتى الله } لأن فاعل الإتيان إلى الله هو المنفوع فهو في المعنى مفعول فعل { ينفع } والمتعلِّق بأحد فعلَيْه وهو فعل { أتى } الذي هو فاعلُه متعلِّق في المعنى بفعله الآخر وهو { ينفع } الذي { من أتى الله } مفعولُه . فعلم أن تقدير الكلام : يوم لا ينفع نافعٌ أو شيءٌ ، أو نحو ذلك مما يفيد عموم نفي النافع ، حسبما دل عليه { مَال و بنون } من عموم الأشياء كما قررنا . وحذف مفعول { ينفع } لقصد العموم كحذفه في قوله تعالى : { والله يدعوا إلى دار السلام } [ يونس : 25 ] أي يدعو كل أحد ، فتحصل أن التقدير : يوم لا ينفع أحداً شيء يأتي به للدفع عن نفسه .
والمستثنى وهو { من أتى الله بقلب سليم } متعيّن لأن يكون استثناء من مفعول { ينفع } وليس مستثنى من فاعل { ينفع } لأن من أتى الله بقلب سليم يومئذ هو منفوع لا نافع فليس مستثنى من صريح أحدِ الاسمين السابقين قبلَه ، ولا مما دلّ عليه الاسمان من المعنى الأعمّ الذي قدرناه بمعنى : « ولا غيرهما » ، فتمحض أن يكون هذا المستثنى مخرَجاً من عموم مفعول { ينفع } . وتقديره : إلا أحداً أتى الله بقلب سليم ، أي فهو منفوع ، واستثناؤه من مفعول فعل { ينفع } يضطرنا إلى وجوب تقدير نافعه فاعلَ فعل { ينفع } ، أي فإنه نفعه شيء نافع . ويُبيِّن إجماله متعلق فعل { ينفع } وهو { بقلب سليم } إذ كان القلب السليم سبب النفع فهو أحد أفراد الفاعل العام المقدر بلفظ « شيء » كما تقدم آنفاً .
فالخلاصة أن الذي يأتي الله يومئذ بقلب سليم هو منفوع بدلالة الاستثناء وهو نافع ( أي نافع نفسه ) بدلالة المجرور المتعلِّق بفعل { أتى } ، فإن القلب السليم قلبُ ذلك الشخص المنفوع فصار ذلك الشخص نافعاً ومنفوعاً باختلاف الاعتبار ، وهو ضرب من التجريد . وقريب من وقوع الفاعل مفعولاً في باب ظن في قولهم : خلتُني ورأيْتُني ، فجُعل القلب السليم سبباً يحصل به النفع ، ولهذا فالاستثناء متصل مفرَّغ عن المفعول . وقد حصل من نسج الكلام على هذا المنوال إيجازٌ مغننٍ أضعاف من الجمل المطوية . وجَعْلُ الاستثناء منقطعاً لا يدفع الإشكال .
والسليم : الموصوف بقوة السلامة ، والمراد بها هنا السلامة المعنوية المجازية ، أي الخلوص من عقائد الشرك مما يرجع إلى معنى الزكاء النفسي . وضدُّه المريض مرضاً مجازياً قال تعالى : { في قلوبهم مَرض } [ البقرة : 10 ] . والاقتصار على السليم هنا لأن السلامة باعث الأعمال الصالحة الظاهرية وإنما تثبت للقلوب هذه السلامة في الدنيا باعتبار الخاتمة فيأتون بها سالمة يوم القيامة بين يدي ربّهم .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{إلا من أتى الله} في الآخرة {بقلب سليم} من الشرك، مخلصا لله عز وجل بالتوحيد، فينفعه يوم البعث ماله وولده.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
وقوله:"إلاّ مَنْ أَتى اللّهَ بِقَلْب سَلِيمٍ" يقول: ولا تخزني يوم يبعثون، يوم لا ينفع إلا القلب السليم.
والذي عني به من سلامة القلب في هذا الموضع: هو سلامة القلب من الشكّ في توحيد الله، والبعث بعد الممات... عن مجاهد، قوله "إلاّ مَنْ أَتى اللّهَ بِقَلْب سَلِيمٍ"، قال: ليس فيه شكّ في الحقّ...
عن قتادة، في قوله بِقَلْبٍ سَلِيمٍ قال: سليم من الشرك...
عن الضحاك، في قول الله "إلاّ مَنْ أَتى اللّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ "قال: هو الخالص.
قيل: إنما سأل سلامة القلب لأنه إذا سَلِمَ القلبُ سَلِمَ سائر الجوارح من الفساد، إذ الفساد بالجوارح لا يكون إلا عن قصد فاسد بالقلب، فإن اجتمع مع ذاك جهل فقد عُدِمَ السلامة من وجهين. ورَوَى النعمان بن بشير عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"إِنّي لأَعْلَمُ مُضْغَةً إِذا صَلُحَتْ صَلُحَ البَدَنُ كُلُّهُ وإذا فَسَدَتْ فَسَدَ الجَسَدُ كُلُّهُ ألا وهي القَلْبُ".
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{إِلاَّ مَنْ أَتَى الله} إلا حال من أتى الله {بِقَلْبٍ سَلِيمٍ}... وإثبات سلامة القلب له بدلاً عن ذلك. وإن شئت حملت الكلام على المعنى وجعلت المال والبنين في معنى الغنى، كأنه قيل: يوم لا ينفع غنى إلا غنى من أتى الله بقلب سليم؛ لأن غنى الرجل في دينه بسلامة قلبه، كما أن غناه في دنياه بماله وبنيه. ولك أن تجعل الاستثناء منقطعاً. ولا بدّ لك مع ذلك من تقدير المضاف وهو الحال، والمراد بها سلامة القلب، وليست هي من جنس المال والبنين، حتى يؤول المعنى إلى أن المال والبنين لا ينفعان، وإنما ينفع سلامة القلب. ولو لم يقدر المضاف، لم يتحصل للاستثناء معنى. وقد جعل {مَن} مفعولاً لينفع، أي: لا ينفع مال ولا بنون، إلا رجلاً سلم قلبه مع ماله حيث أنفقه في طاعة الله، ومع بنيه حيث أرشدهم إلى الدين وعلمهم الشرائع. ويجوز على هذا {إِلاَّ مَنْ أَتَى الله بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} من فتنة المال والبنين.
ومعنى سلامة القلب: سلامته من آفات الكفر والمعاصي، ومما أكرم الله تعالى به خليله ونبه على جلالة محله في الإخلاص: أن حكى استثناءه هذا حكاية راض بإصابته فيه. ثم جعله صفة له في قوله: {وَإِنَّ مِن شِيعَتِهِ لإبراهيم إِذْ جَاء رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الصافات: 84]...
وما أحسن ما رتب إبراهيم عليه السلام كلامه مع المشركين، حين سألهم أوّلاً عما يعبدون سؤال مقرّر لا مستفهم، ثم أنحى على آلهتهم فأبطل أمرها بأنها لا تضر ولا تنفع ولا تبصر ولا تسمع على تقليدهم آباءهم الأقدمين، فكسره وأخرجه من أن يكون شبهة فضلاً أن يكون حجة، ثم صوّر المسألة في نفسه دونهم حتى تخلص منها إلى ذكر الله عز وعلا، فعظم شأنه وعدّد نعمته، من لدن خلقه وإنشائه إلى حين وفاته، مع ما يرجى في الآخرة من رحمته، ثم أتبع ذلك أن دعاه بدعوات المخلصين، وابتهل إليه ابتهال الأوّابين، ثم وصله بذكر يوم القيامة وثواب الله وعقابه وما يدفع إليه المشركون يومئذٍ من الندم والحسرة على ما كانوا فيه من الضلال وتمني الكرة إلى الدنيا ليؤمنوا ويطيعوا.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
{إلا من أتى الله} أي الملك الأعظم الذي له الغنى المطلق في هذا الموطن {بقلب سليم} أي عن مرض غيّره عن الفطرة الأولى التي فطره الله عليها، وهي الإسلام الذي رأسه التوحيد، والاستقامة على فعل الخير، وحفظ طريق السنة كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء ليس فيها من جدعاء فإن {المال والبنون} ينفعانه بما تصرف فيهما من خير، والاستثناء مفرغ،.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
[نص مكرر لاشتراكه مع الآية 88]
كما نستشف من قوله: (يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم). مدى إدراكه لحقيقة ذلك اليوم. وإدراكه كذلك لحقيقة القيم. فليست هنالك من قيمة في يوم الحساب إلا قيمة الإخلاص. إخلاص القلب كله لله، وتجرده من كل شائبة، ومن كل مرض، ومن كل غرض. وصفائه من الشهوات والانحرافات. وخلوه من التعلق بغير الله. فهذه سلامته التي تجعل له قيمة ووزنا (يوم لا ينفع مال ولا بنون)؛ ولا ينفع شيء من هذه القيم الزائلة الباطلة، التي يتكالب عليها المتكالبون في الأرض؛ وهي لا تزن شيئا في الميزان الأخير!.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
يظهر على هذا الوجه أن يكون المراد ب {من أتى الله بقلب سليم} الإشارةُ إلى إبراهيم عليه السلام لأن الله تعالى وصفه بمثل هذا في آية سورة الصافات (83، 84) في قوله: {وإن من شِيعَتِه} (أي شيعة نوح) لإبراهيمَ إذ جاء ربَّه بقلب سليم.
وفيه أيضاً تذكير قومه بأن أصنامهم لا تغني عنهم شيئاً، ونفي نفع المال صادق بنفي وجود المال يومئذ...
والاقتصار على المال والبنين في نفي النافعين جرى على غالب أحوال القبائل في دفاع أحد عن نفسه بأن يدافع إما بفدية وإما بنجدة، وهي النصر، فالمال وسيلة الفدية، والبنون أحق من ينصرون أباهم، ويعتبر ذلك النصر عندهم عهداً يجب الوفاء به...
واقتضى ذلك أن انتفاء نفع ما عدا المال والبنين من وسائل الدفاع حاصل بالأوْلى بحكم دلالة الاقتضاء المستندة إلى العُرف. فالكلام من قبيل الاكتفاء، كأنه قيل: يوم لا ينفع مال ولا بنون ولا شيء آخر. وقوله: {إلا من أتى الله بقلب سليم} استثناء من مفعول {ينفع}، أي إلاّ منفوعاً أتى الله بقلب سليم.
هذا معنى الآية وهو مفهوم للسامعين فلذلك لم يؤثَر عن أحد من سلف المفسرين عدّ هذه الآية من متشابه المعنى وإنما أعضل على خلفهم طريق استخلاص هذا المعنى المجمل من تفاصيل أجزاء تركيب الكلام...
وذكر صاحب « الكشاف» احتمالات لا يسلم شيء منها من تقدير حذف،
فالخلاصة أن الذي يأتي الله يومئذ بقلب سليم هو منفوع بدلالة الاستثناء وهو نافع (أي نافع نفسه) بدلالة المجرور المتعلِّق بفعل {أتى}، فإن القلب السليم قلبُ ذلك الشخص المنفوع فصار ذلك الشخص نافعاً ومنفوعاً باختلاف الاعتبار... فجُعل القلب السليم سبباً يحصل به النفع، ولهذا فالاستثناء متصل مفرَّغ عن المفعول. وقد حصل من نسج الكلام على هذا المنوال إيجازٌ مغننٍ أضعاف من الجمل المطوية. وجَعْلُ الاستثناء منقطعاً لا يدفع الإشكال.
والسليم: الموصوف بقوة السلامة، والمراد بها هنا السلامة المعنوية المجازية، أي الخلوص من عقائد الشرك مما يرجع إلى معنى الزكاء النفسي. وضدُّه المريض مرضاً مجازياً قال تعالى: {في قلوبهم مَرض} [البقرة: 10]. والاقتصار على السليم هنا لأن السلامة باعث الأعمال الصالحة الظاهرية وإنما تثبت للقلوب هذه السلامة في الدنيا باعتبار الخاتمة فيأتون بها سالمة يوم القيامة بين يدي ربّهم.