مدارك التنزيل وحقائق التأويل للنسفي - النسفي  
{إِلَّا مَنۡ أَتَى ٱللَّهَ بِقَلۡبٖ سَلِيمٖ} (89)

{ إِلاَّ مَنْ أَتَى الله بِقَلْبٍ سَلِيمٍ } عن الكفر والنفاق وقلب الكافر والمنافق مريض لقوله تعالى : { فِى قُلُوبِهِمْ مَّرَضٌ } [ البقرة : 10 ] أي إن المال إذا صرف في وجوه البر وبنوه صالحون فإنه ينتفع به وبهم سليم القلب ، أو جعل المال والبنون في معنى الغني كأنه قيل : يوم لا ينفع غنى إلا غنى من أتى الله بقلب سليم لأن غنى الرجل في دينه بسلامة قلبه كما أن غناه في دنياه بماله وبنيه . وقد جعل { من } مفعولاً ل { ينفع } أي لا ينفع مال ولا بنون إلا رجلاً سلم قلبه مع ماله حيث أنفقه في طاعة الله ، ومع بنيه حيث أرشدهم إلى الدين وعلمهم الشرائع . ويجوز على هذا إلا من أتى الله بقلب سليم من فتنة المال والبنين . وقد صوب الجليل استثاء الخليل إكراماً له ثم جعله صفة له في قوله : { وَإِنَّ مِن شِيعَتِهِ لإبراهيم إِذْ جَاء رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ } [ الصافات : 84 ] وما أحسن ما رتب عليه السلام كلامه مع المشركين حيث سألهم أولاً عما يعبدون سؤال مقرر لا مستفهم ، ثم أقبل على آلهتهم فأبطل أمرها بأنها لا تضر ولا تنفع ولا تسمع وعلى تقليدهم آباءهم الأقدمين فأخرجه من أن يكون شبهة فضلاً عن أن يكون حجة ، ثم صور المسألة في نفسه دونهم حتى تخلّص منها إلى ذكر الله تعالى فعظم شأنه وعدد نعمته من حين إنشائه إلى وقت وفاته مع ما يرجّي في الآخرة من رحمته ، ثم أتبع ذلك أن دعا بدعوات المخلصين وابتهل إليه ابتهال الأوابين ، ثم وصله بذكر يوم القيامة وثواب الله وعقابه وما يدفع إليه المشركون يومئذ من الندم والحسرة على ما كانوا فيه من الضلال وتمني الكرة إلى الدنيا ليؤمنوا ويطيعوا .