محاسن التأويل للقاسمي - القاسمي  
{إِلَّا مَنۡ أَتَى ٱللَّهَ بِقَلۡبٖ سَلِيمٖ} (89)

{ يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ } أي لا يقي المرء من عذاب الله ماله ، ولو افتدى بملء الأرض ذهبا . ولا بنوه ، وإن كانوا غاية في القوة . فإن الأمر ثمة ليس كما يعهدون في الدنيا ، بل لا ينفع إلا الموافاة بقلب سليم من مرض الكفر والنفاق والخصال المذمومة والملكات المشؤومة .

قال الزمخشري :

وما أحسن ما رتب إبراهيم عليه السلام كلامه مع المشركين حين سألهم أولا عما يعبدون سؤال مقرر لا مستفهم . ثم أنحى على آلهتهم فأبطل أمرها بأنها لا تضر ولا تنفع ولا تبصر ولا تسمع . وعلى تقليدهم آبائهم الأقدمين ، فكسره وأخرجه من أن يكون شبهة ، فضلا أن يكون حجة ، ثم صور المسألة في نفسه {[5933]} دونهم حتى تخلص منها إلى ذكر الله عز وعلا ، فعظم شأنه وعدد نعمته من لدن خلقه وإنشائه ، إلى حين وفاته ، مع ما يرجى في الآخرة من رحمته . ثم أتبع ذلك أن دعاه بدعوات المخلصين ، وابتهل إليه ابتهال الأوابين . ثم وصله بذكر يوم القيامة ، وثواب الله وعقابه ، وما يدفع إليه المشركون يومئذ من الندم والحسرة على ما كانوا فيه من الضلال ، وتمني الكرة إلى الدنيا ليؤمنوا ويطيعوا .


[5933]:[أي بقوله: {فإنهم عدو لي} على معنى أني فكرت في أمري فرأيت عبادتي للعدو وهو الشيطان. فاجتنبتها وآثرت عبادة من الخير كله في يده. وأراهم بذلك أنها نصيحة ينصح بها نفسه لينظروا فيقولوا: ما نصحنا إبراهيم إلا بما نصح به نفسه. فيكون ذلك أدعى لهم إلى القبول لقوله. وأبعث على الاستماع منه. ولو قال (فإنهم عدو لكم) لم يكن بتلك المثابة، فتخلص عند تصويره المسألة في نفسه إلى ذكر الله تعالى، وبهذه الآيات الكريمة وأمثالها رد على أبي العلاء محمد بن غانم المعروف بالغانمي في زعمه أن القرآن خال من التخلص، وهو زعم فاسد. لأن حقيقة التخلص إنما هي الخروج من كلام إلى كلام آخر غيره، بلطيفة تلائم بين الكلام الذي أخرج منه والكلام الذي خرج إليه. وفي القرآن مواضع كثيرة من ذلك، كما بسطه ابن الأثير في (المثل السائر) فراجعه. 1 هـ مؤلفه.