ثم بين - سبحانه - جانبا من الوسائل التى كانوا يستعملونها لكى يصدقهم من يسمعهم فقال - تعالى - : { اتخذوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً } .
والأيمان : - بفتح الهمزة - جمع يمين ، والجُنَّة - بضم الجيم - ما يستتر به المقاتل ليتقى ضربات السيوف والرماح والنبال .
أى : أن هؤلاء المنافقين إذا ظهر كذبهم ، أو إذا جوبهوا بما يدل على كفرهم ونفاقهم ، أقسموا ، بالأيمان المغلظة بأنهم ما قالوا أو فعلوا ما يسىء إلى النبى - صلى الله عليه وسلم - أو إلى المؤمنين . . .
فهم يستترون بالحلف الكاذب ، حتى لا يصيبهم أذى من المؤمنين ، كما يستتر المقاتل بترسه من الضربات .
وقد حكى القرآن كثيرا من أيمانهم الكاذبة ، ومن ذلك قوله - تعالى - : { وَيَحْلِفُونَ بالله إِنَّهُمْ لَمِنكُمْ وَمَا هُم مِّنكُمْ ولكنهم قَوْمٌ يَفْرَقُونَ } وقوله - سبحانه - : { يَحْلِفُونَ بالله مَا قَالُواْ وَلَقَدْ قَالُواْ كَلِمَةَ الكفر وَكَفَرُواْ بَعْدَ إِسْلاَمِهِمْ وَهَمُّواْ بِمَا لَمْ يَنَالُواْ . . } وقوله - عز وجل - : { يَحْلِفُونَ بالله لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ والله وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ إِن كَانُواْ مُؤْمِنِينَ } قال الآلوسى : قال قتادة : كلما ظهر شىء منهم يوجب مؤاخذتهم ، حلفوا كاذبين ، عصمة لأموالهم ودمائهم .
والفاء فى قوله - تعالى - : { فَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ الله . . } للتفريع على ما تقدم .
أى : اتخذوا أيمانهم الفاجرة ذريعة أمام المؤمنين لكى يصدقوهم ، فتمكنوا عن طريق هذه الأيمان الكاذبة ، من صد بعض الناس عن الصراط المستقيم ، ومن تشكيكهم فى صحة ما جاء به النبى - صلى الله عليه وسلم - .
فهم قد جمعوا بين رذيلتين كبيرتين : إحداهما : تَعمُّد الأيمان الكاذبة ، والثانية : إعراضهم عن الحق ، ومحاولتهم صرف غيرهم عنه .
وقوله - سبحانه - : { إِنَّهُمْ سَآءَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } تذييل قصد به بيان قبح أحوالهم ، وسوء عاقبتهم .
و " ساء " : فعل ماض بمعنى بئس فى إفادة الذم ، و " ما " موصولة والعائد محذوف .
أى : إن هؤلاء المنافقين بئس ما كانوا يقولونه من أقوال كاذبة ، وساء ما كانوا يفعلونه من أفعال قبيحة ، سيكونون بسببها يوم القيامة فى الدرك الأسفل من النار
( اتخذوا أيمانهم جنة ) . . وهي توحي بأنهم كانوا يحلفون الأيمان كلما انكشف أمرهم ، أو عرف عنهم كيد أو تدبير ، أو نقلت عنهم مقالة سوء في المسلمين . كانوا يحلفون ليتقوا ما يترتب على افتضاح أمر من أمورهم ، فيجعلون أيمانهم وقاية وجنة يحتمون وراءها ، ليواصلوا كيدهم ودسهم وإغواءهم للمخدوعين فيهم . ( فصدوا عن سبيل الله ) . . صدوا أنفسهم وصدوا غيرهم مستعينين بتلك الأيمان الكاذبة : ( إنهم ساء ما كانوا يعملون ) . . وهل أسوأ من الكذب للخداع والتضليل ! ?
وقوله : { اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ } أي : اتقوا الناس بالأيمان الكاذبة والحَلْفات الآثمة ، ليصدقوا فيما يقولون ، فاغتر بهم من لا يعرف جلية أمرهم ، فاعتقدوا أنهم مسلمون{[28865]} فربما اقتدى بهم فيما يفعلون وصدقهم فيما يقولون ، وهم من{[28866]} شأنهم أنهم كانوا{[28867]} في الباطن لا يألون الإسلام وأهله خَبَلا فحصل بهذا القدر ضرر كبير{[28868]} على كثير من الناس ولهذا قال تعالى : { فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } ولهذا كان الضحاك بن مُزَاحم يقرؤها : " اتَّخَذُوا إيمَانَهُمْ جُنَّةً " أي : تصديقهم الظاهر جُنَّة ، أي : تقية يتقون به القتل . والجمهور يقرؤها : {[28869]} { أيمانهم } جمع يمين .
استئناف بياني لأن تكذيب الله تعالى إياهم في قولهم للنبيء صلى الله عليه وسلم { نشهد إنك لرسول الله } [ المنافقون : 1 ] يثير في أنفس السامعين سؤالاً عن أيْمانهم لدى النبي صلى الله عليه وسلم بأنهم مؤمنون به وأنهم لا يضمرون بغضه فأخبر الله عنهم بأنهم اتخذوا أيمانهم تقية يتقون بها وقد وصفهم الله بالحلف بالأيمان الكاذبة في آيات كثيرة من القرآن .
والجُنة : ما يستتر به ويُتَّقَى ومنه سميت الدرع جُنة .
والمعنى : جعلوا أيمانهم كالجُنّة يتّقي بها ما يَلْحق من أذى . فلما شبهت الأيمان بالجُنّة على طريقة التشبيه البليغ ، أُتبع ذلك بتشبيه الحَلف باتخاذ الجنة ، أي استعمالها ، ففي { اتخذوا } استعارة تبعية ، وليس هذا خاصاً بحلف عبد الله بن أُبَيّ أنه قال : « لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل » ، كما تقدم في ذكر سبب نزولها ، بل هو أعمّ ، ولذلك فالوجه حمل ضمائر الجمع في قوله : { اتخذوا أيمانهم } الآية على حقيقتها ، أي اتخذ المنافقون كلُّهم أيمانهم جُنة ، أي كانت تلك تقيتهم ، أي تلك شنشنة معروفة فيهم .
{ فصدوا عن سبيل الله } تفريع لصدهم عن سبيل الله على الحلف الكاذب لأن اليمين الفاجرة من كبائر الإِثم لما فيها من الاستخفاف بجانب الله تعالى ولأنهم لما حلفوا على الكذب ظنوا أنهم قد أمنوا اتّهام المسلمين إياهم بالنفاق فاستمروا على الكفر والمكر بالمسلمين وذلك صدّ عن سبيل الله ، أي إعراض عن الأعمال التي أمر الله بسلوكها .
وفعل ( صدّوا ) هنا قاصر الذي قياس مضارعه يَصِدُّ بكسر الصاد .
وجملة { إنهم ساء ما كانوا يعملون } تذييل لتفظيع حالهم عن السامع . وساء من أفعال الذم تُلحق ببئس على تقدير تحويل صيغة فعْلها عن فَعَل المفتوح العين إلى فَعُل المضمومِها لقصد إفادة الذم مع إفادة التعجب بسبب ذلك التحويل كما نبه عليه صاحب « الكشاف » وأشار إليه صاحب « التسهيل » .