اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{ٱتَّخَذُوٓاْ أَيۡمَٰنَهُمۡ جُنَّةٗ فَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِۚ إِنَّهُمۡ سَآءَ مَا كَانُواْ يَعۡمَلُونَ} (2)

وقيل : الجواب { اتخذوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً } ، وهو بعيد ، و «قالُوا » أيضاً : حال{[56707]} .

فصل في تعلق هذه السورة بالتي قبلها

قال ابنُ الخطيب{[56708]} : وجه تعلق هذه السورة بما قبلها هو أن تلك السورة مشتملةٌ على ذكر بعثة الرسول ، وذكر من كان يُكذِّبهُ قلباً ولساناً فضرب لهم المثل بقوله : { مَثَلُ الذين حُمِّلُواْ التوراة ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الحمار يَحْمِلُ أَسْفَاراً }[ الجمعة : 5 ] .

وهذه السورة مشتملةٌ على ذكر من كان يكذِّبُ قلباً دون اللسان ، ويصدقه لساناً دون القلب .

وأما تعلق الأول بالآخر ، فلأن في آخر تلك السُّورة تنبيه للمؤمنين على تعظيم الرسول - عليه الصلاة والسلام - ورعايةِ حقِّه بعد النداء لصلاةِ الجمعةِ ، وتقديم متابعته على غيره ، فإنَّ ترك التعظيم والمتابعةِ من شيمِ المنافقين ، والمنافقون هم الكاذبون .

فصل في نزول السورة .

روى البخاري عن زيد بن أرقم ، قال : «كنت مع عمي فسمعتُ عبد الله بن أبيِّ ابْنَ سلول يقول : { لاَ تُنفِقُواْ على مَنْ عِندَ رَسُولِ الله حتى يَنفَضُّواْ } ، وقال : { لَئِن رَجَعْنَا إِلَى المدينة لَيُخْرِجَنَّ الأعز مِنْهَا الأذل } ، فذكرتُ ذلك لعمي ، فذكر عمي لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عبد الله بن أبي وأصحابه ، فحلفوا ما قالوا ، فصدَّقهُمْ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وكذَّبني فأصابَنِي همٌّ لمْ يُصبني مثلُه ، فجلست في بيتي ، فأنزل اللَّهُ - عزَّ وجلَّ - : { إِذَا جَاءَكَ المنافقون } إلى قوله : { هُمُ الذين يَقُولُونَ لاَ تُنفِقُواْ على مَنْ عِندَ رَسُولِ الله حتى يَنفَضُّواْ } ، وقوله : { لَيُخْرِجَنَّ الأعز مِنْهَا الأذل } ، فأرسل إليَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم قال " إنَّ اللَّهَ قدْ صدقَك " {[56709]} .

وروى الترمذي عن زيد بن أرقم ، قال : " غَزوْنَا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان معنا أناسٌ من الأعراب ، فكُنَّا نبدر الماء ، أي : نقسمه ، وكان الأعرابُ يسبقُوننا إلى الماء ، فيسبق الأعرابي أصحابه ، فيملأ الحوض ، ويجعلُ حوله حجارة ، ويجعلُ النِّطع عليه حتى يجيء أصحابه ، قال : فأتى رجلٌ من الأنصار أعرابيًّا فأرخى زِمامَ ناقته لتِشرب ، فأبَى أن يدعهُ ، فانتزع حجراً ففاض الماءُ ، فرفع الأعرابيُّ خشبة ، فضرب بها رأس الأنصاريِّ فشجَّهُ ، فأتى عبد الله بن أبي رأس المنافقين فأخبره - وكان من أصحابه - فغضب عبد الله بن أبي ، ثم قال : { لاَ تُنفِقُواْ على مَنْ عِندَ رَسُولِ الله حتى يَنفَضُّواْ }[ المنافقون : 7 ] من حوله ، يعني : الأعراب ، وكانوا يحضرون رسول الله صلى الله عليه وسلم عند الطعام ، فقال عبد الله : فإذا انفضوا من عند محمد فأتوا محمداً بالطعام فليأكل هو ومن عنده ، ثم قال لأصحابه : { لَئِن رَّجَعْنَا إِلَى المدينة لَيُخْرِجَنَّ الأعز مِنْهَا الأذل } .

قال زيد : وأنا ردف عمي ، فسمعت عبد الله بن أبي ، فأخبرت عمي ، فانطلق ، فأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فأرسل إليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فحلف وجحد قال : فصدَّقه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكذَّبني ، قال : فجاء عمّي إليَّ فقال : ما أردت إلى أن مقتك رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ، وكذبك ، والمنافقون .

قال : فوقع عليّ من جرأتهم ما لم يقع على أحدٍ .

قال : فبينما أسير مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قد خفقتُ برأسي من الهمِّ إذ أتاني رسول الله صلى الله عليه وسلم فعرك في أذني وضحك في وجهي ، فما كان يسرّني أنَّ لي بها الخُلدَ في الدنيا ، ثم إن أبا بكرٍ لحقني فقال : ما قال لك رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ .

قلت : ما قال لي شيئاً إلا أنه عرك أذني ، وضحك في وجهي ، فقال : أبْشِرْ ثم لحقني عمرُ ، فقلتُ له مثل قولي لأبي بكر ، فلما أصبحنا قرأ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم سورة المنافقين " {[56710]} .

قال الترمذي : هذا حديث حسن صحيح .

فصل في المنافق

سُئلَ حُذيفةُ بنُ اليمانِ عن المنافقِ ، فقال : الذي يصفُ الإسلامَ ولا يعملُ به{[56711]} .

وروى أبو هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " آيةُ المُنافقِ ثلاثٌ : إذا حدَّث كَذَبَ ، وإذَا وعَدَ أخْلف ، وإذا ائتُمِنَ خَانَ " {[56712]} .

وروى عبدُ الله بن عمر ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " أربعٌ من كُنَّ فيه كانَ مُنافقاً خَالِصاً ، ومَنْ كَانَتْ فِيهِ خَصْلةٌ مِنهُنَّ كَانَتْ فيه خَصْلَةٌ من النِّفاقِ حتَّى يدعها : إذا ائتُمِنَ خَانَ ، وإذَا حدَّث كَذَبَ ، وإذَا عَاهَدَ غَدَرَ ، وإذَا خَاصَمَ فَجَرَ " {[56713]} .

وروي عن الحسن أنه ذُكِرَ له هذا الحديثُ ، فقال : إن بني يعقوب حدَّثوا فكذبُوا ، ووعدوا فأخلفوا وائتمنوا فخانوا . إنما هذا القول من النبي صلى الله عليه وسلم على سبيل الإنذار للمسلمين ، والتحذير لهم أن يعتادوا هذه الخصال شفقاً أن تفضي بهم إلى النفاق .

وليس المعنى : أن من بدرت منه هذه الخصالُ من غير اختيارٍ واعتيادٍ أنه منافقٌ وقال - عليه الصلاة والسلام – " المُؤمِنُ إذَا حدَّثَ صَدَقَ ، وإذَا وَعَدَ نجَّزَ ، وإذا ائتُمِنَ وفَّى " {[56714]} .

والمعنى : أن المؤمن الكامل إذا حدَّث صدق .

قوله : " نَشْهَدُ " .

يجري مجرى القسم كفعلِ العلم واليقين ، ولذلك تلقي بما يتلقى به القسم{[56715]} في قوله : { إِنَّكَ لَرَسُولُ الله } .

وفي قوله : [ الكامل ]

4770 - ولَقَدْ عَلِمْتُ لتَأتِيَنَّ مَنِيَّتِي***إنَّ المَنَايَا لا تَطِيشُ سِهَامُهَا{[56716]}

وقد تقدم [ الخلاف ]{[56717]} في الصدق والكذب ، واستدلالهم بهذه الآية ، والجواب عنها في أول البقرة{[56718]} .

وقال القرطبي{[56719]} هنا : معنى «نَشْهَدُ » نحلفُ ، فعبر عن الحلف بالشهادة ؛ لأن كل واحدٍ من الحلف والشهادة إثباتٌ لأمر مُغَيَّب ، ومنه قول قيس بن ذريح : [ الطويل ]

4771 - وأشْهَدُ عِنْدَ اللَّهِ أني أحِبُّهَا*** فَهَذَا لَهَا عِنْدِي ، فَمَا عِنْدهَا لِيَا ؟{[56720]}

ونظيره قول الملاعن : أشهدُ بالله .

قال الزمخشري{[56721]} : " والشهادة تجري مجرى الحلف في التوكيد . يقول الرجلُ : أشهدُ ، وأشهدُ بالله ، وأعزمُ ، وأعزمُ بالله في موضع " أقْسِمُ وأُولي " ، وبه استشهد أبو حنيفة على أن " أشهدُ " يمين " .

ويحتمل أن يكون ذلك محمولاً على ظاهره أنهم يشهدون أن محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم اعترافاً بالإيمان ونفياً للنفاق عن أنفسهم وهو الأشبه .

قوله : { والله يَعْلَمُ } .

جملة معترضة بين قوله : { نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ الله } وبين قوله : { والله يَشْهَدُ } [ لفائدة .

قال الزمخشري{[56722]} : «ولو قال : " قالوا : نشهد إنك لرسول الله ، واللَّهُ يشهدُ إنَّهُم لكاذبُون " لكان يُوهِمُ أن قولهم هذا كذبٌ ، فوسط بينهما قوله : " واللَّهُ يعلمُ إنَّكَ لرسُولُه " ليُميطَ هذا الإبهام » .

قال القرطبي{[56723]} : { والله يعلم إنك لرسوله } كما قالوه بألسنتهم ]{[56724]} ، { والله يَشْهَدُ إِنَّ المنافقين لَكَاذِبُونَ } بضمائرهم ، فالتكذيبُ راجع إلى الضمائر ، وهذا يدلُّ على أن الإيمان تصديقُ القلب ، وعلى أنَّ الكلام الحقيقي كلامُ القلب ، ومن قال شيئاً واعتقد خلافه فهو كاذبٌ ، وقيل : أكذبهم الله في أيمانهم ، وهو قوله : { وَيَحْلِفُونَ بالله إِنَّهُمْ لَمِنكُمْ }[ التوبة : 56 ] .

قال ابن الخطيب{[56725]} : فإن قيل : لو قالوا : نعلم إنَّك لرسولُ الله مكان قولهم : نشهد إنَّكَ لرسُولُ اللَّهِ ، تفيد ما أفاد قولهم : نشهد ؟ .

فالجواب : لا ؛ لأن قولهم :{ نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ الله } صريحٌ في الشَّهادة على إثبات الرسالة ، وقولهم : نعلم ليس بصريح في ذلك .

قوله : { اتخذوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً } .

قد تقدم الكلام أنه يجوز أن يكون جواباً للشرط .

ويجوز أن يكون مستأنفاً جيء به لبيان كذبهم وحلفهم عليه ، أي أنَّ الحامل لهُم على الأيمانِ اتقاؤهم بها عن أنفسهم{[56726]} .

والعامة : على فتح الهمزة ، جمع يمين .

والحسن{[56727]} : بكسرها مصدراً .

وتقدم مثله في «المجادلة » ، والجُنَّةُ : التُّرْس ونحوه ، وكل ما يقيك سوءاً . ومن كلام الفصحاء : [ جُبَّةُ البرد ] جُنَّةُ البردِ .

قال أعشى همدان الشاعر : [ الطويل ]

4772 - إذَا أنْتَ لَمْ تَجْعَلْ لعرضِكَ جُنَّةً***مِنَ المَالِ سَارَ الذَّمُّ كُلَّ مَسِيرِ{[56728]}

فصل

قال القرطبي{[56729]} وغيره : اتَّخذُوا أيمانهُم جُنَّةً ، أي : سُترةً ، وليس يرجع إلى قوله : { نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ الله } وإنَّما يرجعُ إلى سبب الآيةِ التي نزلت عليه حسب ما ذكره البخاري والترمذي عن أبيّ أنه حلف ما قال ، وقد قال ، وقال الضحاك : يعني : حلفهم بالله «إنهم لمنكم » .

وقيل : يعني بأيمانهم ما أخبر الرب عنهم في سورة «براءة » في قوله :{ يَحْلِفُونَ بالله مَا قَالُواْ }[ التوبة : 74 ] .

فصل في نص اليمين

قال القرطبي{[56730]} : «من قال : أقسمُ باللَّهِ ، وأشهد بالله ، أو أعزم بالله ، أو أحلف بالله ، أو أقسمت بالله ، أو شهدت ، أو عزمت ، أو حلفت ، وقال في ذلك كله : " بالله " فلا خلاف أنها يمينٌ ، وكذلك عند مالكٍ وأصحابه أن من قال : أقسمُ ، أو أشهد ، أو أعزم ، أو أحلف ، ولم يقل " بالله " إذا أراد " بالله " ، وإن لم يرد " بالله " فليس بيمين » .

وقال أبو حنيفة وأصحابه : لو قال : أشهد بالله لقد كان كذا كان يميناً ، ولو قال : أشهد لقد كان كذا - دون النية - كان يميناً لهذه الآية ؛ لأن الله تعالى ذكر منهم الشهادة ثم قال : { اتخذوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً } .

وعند الشافعي : لا يكون ذلك يميناً وإن نوى اليمينَ ؛ لأنَّ قوله تعالى : { اتخذوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً } ليس يرجعُ إلى قوله : «قالوا : نَشهدُ » ، وإنما يرجعُ إلى ما في براءة من قوله تعالى : { يَحْلِفُونَ بالله مَا قَالُواْ } .

قوله : { فَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ الله } .

أي : أعرضوا ، وهو من الصُّدود ، أو صرفوا المؤمنين عن إقامة حدود الله عليهم من القَتْل ، والسبي ، وأخذ الأموال ، فهو من الصَّدِّ ، أو منعوا الناس عن الجهاد بأن يتخلفوا أو يقتدي بهم غيرهم .

وقيل : فصدوا اليهود والمشركين عن الدُّخول في الإسلام بأن يقولوا : ها نحن كافرون بهم ، ولو كان ما جاء به محمد حقًّا لعرف هذا منا ، ولجعلنا نكالاً ، فبيَّن الله أنَّ حالهم لا يخفى عليه ، ولكن حكمه أن من أشهر [ الإيمان ]{[56731]} أجري عليه في الظَّاهر حكم الإيمان .

قوله : { إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } .

أي : سيئت أعمالهم الخبيثةُ في نفاقهم ، وأيمانهم الكاذبةِ ، وصدِّهم عن سبيل الله{[56732]} . و«ساء » يجوز أن تكون الجارية مجرى «بِئْسَ » ، وأن تكون على بابها ، والأول أظهر وقد تقدم حكم كل منهما{[56733]} .

فإن قيل : إنه تعالى ذكر أفعال الكفرة من قبل ، ولم يقل : إنَّهم ساء ما كانوا يعملون ؟ .

قال ابن الخطيب{[56734]} : والجواب أن أفعالهم مقرونة بالأيمان الكاذبة التي جعلوها جُنَّة أي : سُترة لأموالهم ودمائهم عن أن يستبيحها المسلمون .


[56707]:ينظر: الدر المصون 6/319.
[56708]:ينظر: التفسير الكبير 30/12.
[56709]:أخرجه البخاري (8/512) كتاب التفسير سورة المنافقون، باب قوله: إذا جاءك المنافقون رقم (4900) من حديث زيد بن أرقم.
[56710]:أخرجه الترمذي (5/387-388-389) كتاب التفسير، باب: سورة المنافقون حديث (3313) من حديث زيد بن أرقم أيضا وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح.
[56711]:ذكره القرطبي في "تفسيره" (18/80).
[56712]:تقدم.
[56713]:تقدم.
[56714]:ينظر القرطبي (18/80).
[56715]:ينظر: الدر المصون 6/319.
[56716]:تقدم.
[56717]:في أ: الكلام.
[56718]:آية رقم 10.
[56719]:الجامع لأحكام القرآن 18/80.
[56720]:ينظر مجنون ليلى ص 300، والقرطبي 18/80.
[56721]:ينظر: الكشاف 4/538.
[56722]:الكشاف 4/538.
[56723]:الجامع لأحكام القرآن 18/80.
[56724]:سقط في أ.
[56725]:ينظر: التفسير الكبير 30/13.
[56726]:ينظر: الدر المصون 6/319.
[56727]:ينظر: المحرر الوجيز 5/311، والبحر المحيط 8/267، والدر المصون 6/319.
[56728]:تقدم.
[56729]:الجامع لأحكام القرآن 18/80.
[56730]:السابق 18/81.
[56731]:في أ: الإسلام.
[56732]:ينظر: القرطبي 18/81.
[56733]:ينظر: الدر المصون 6/320.
[56734]:التفسير الكبير30/13.