السراج المنير في تفسير القرآن الكريم للشربيني - الشربيني  
{ٱتَّخَذُوٓاْ أَيۡمَٰنَهُمۡ جُنَّةٗ فَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِۚ إِنَّهُمۡ سَآءَ مَا كَانُواْ يَعۡمَلُونَ} (2)

{ اتخذوا أيمانهم } أي : كلها من شهادتهم وكل يمين سواها { جنة } أي : سترة عن أموالهم ودمائهم ، روى البخاري عن زيد بن أرقم قال : كنت مع عمي فسمعت عبد الله بن أبي ابن سلول يقول : لا تنفقوا على من عند رسول الله حتى ينفضوا ، وقال : لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل ، فذكرت ذلك لعمي فذكره عمي لرسول الله صلى الله عليه وسلم فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عبد الله بن أبي وأصحابه فحلفوا ما قالوا ، فصدقهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وكذبني ، فأصابني هم لم يصبني مثله فجلست في بيتي ، فأنزل الله عز وجل { إذا جاءك المنافقون } إلى قوله تعالى : { هم الذين يقولون لا تنفقوا على من عند رسول الله } وقوله { ليخرجن الأعز منها الأذل } فأرسل إلي رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال : «إن الله قد صدقك » وروى الترمذي عن زيد بن أرقم قال : «غزونا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان معنا أناس من الأعراب فكنا نبتدر الماء ، وكان الأعراب يسبقوننا فيسبق الأعرابي أصحابه فيملأ الحوض ، ويجعل حوله حجارة ويجعل النطع عليه حتى يجيء أصحابه ، قال : فأتى رجل من الأنصار أعرابياً فأرخى زمام ناقته لتشرب فأبى أن يدعه ، فانتزع حجراً ففاض الماء ، فرفع الأعرابي خشبة فضرب بها رأس الأنصاري فشجه ، فأتى عبد الله بن أبي رأس المنافقين فأخبره ، وكان من أصحابه فغضب عبد الله بن أبي ، ثم قال : لا تنفقوا على من عند رسول الله حتى ينفضوا من حوله ، يعني : الأعراب وكانوا يحضرون رسول الله صلى الله عليه وسلم عند الطعام ، فقال عبد الله : إذا انفضوا من عند محمد فائتوا محمداً بالطعام فليأكل هو ومن عنده ، ثم قال لأصحابه : لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل . قال زيد : وأنا ردف عمي فسمعت عبد الله بن أبي فأخبرت عمي فانطلق فأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فأرسل إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فحلف وجحد ، قال : فصدقه رسول الله صلى الله عليه وسلم وكذبني قال : فجاء عمي إلي فقال : ما أردت إلا أن مقتك رسول الله صلى الله عليه وسلم وكذبك المنافقون ، قال : فوقع علي من جراءتهم ما لم يقع على أحد ، قال : فبينما أنا أسير مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر قد خفقت رأسي من الهمّ ؛ إذ أتاني رسول الله صلى الله عليه وسلم فعرك أذني ، وضحك في وجهي فكان ما يسرّني أنّ لي بها الخلد في الدنيا ، ثم إنّ أبا بكر لحقني فقال : ما قال لك رسول الله صلى الله عليه وسلم قلت : ما قال لي شيئاً إلا أنه عرك أذني وضحك في وجهي ، فقال : أبشر ثم لحقني عمر فقلت له : مثل قولي لأبي بكر ، فلما أصبحنا قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم سورة المنافقين » قال الترمذي : هذا حديث حسن صحيح .

وروي «أنه صلى الله عليه وسلم حين لقي بني المصطلق على المريسيع وهو ماء لهم وهزمهم وقتل منهم ، ازدحم على الماء جهجاه بن سعيد أجير لعمر يقود فرسه ، وسنان الجهني حليف لعبد الله بن أبيّ ، واقتتلا فصرخ جهجاه : يا للمهاجرين ، وسنان يا للأنصار فأعان جهجاهاً جعال من فقراء المهاجرين ، ولطم سناناً ، فقال عبد الله لجعال : وأنت هناك وقال : ما صحبنا محمداً إلا لتلطم وجوهنا ، والله ما مثلنا ومثلهم إلا كما قال القائل : سمن كلبك يأكلك ، أما والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجنّ الأعز منها الأذل ، عنى بالأعز نفسه ، وبالأذل رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال لقومه : ماذا فعلتم بأنفسكم أحللتموهم بلادكم وقاسمتموهم أموالكم ، أما والله لو أمسكتم عن جعال وذويه فضل الطعام لم يركبوا رقابكم ، ولأوشكوا أن يتحوّلوا عنكم فلا تنفقوا عليهم حتى ينفضوا من حول محمد ، فسمع بذلك زيد بن أرقم وهو حدث ، فقال : أنت والله الذليل القليل المبغض في قومك ، ومحمد في عز من الرحمن وقوّة من المسلمين ، فقال عبد الله : اسكت فإنما كنت ألعب ، فأخبر زيد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال عمر : دعني أضرب عنق هذا المنافق يا رسول الله ، فقال : إذن ترعد أنف كثيرة بيثرب ، قال : فإن كرهت أن يقتله مهاجري فأمر به أنصارياً ، قال : فكيف إذا تحدّث الناس أنّ محمداً يقتل أصحابه ؟ وقال صلى الله عليه وسلم لعبد الله : أنت صاحب الكلام الذي بلغني ، قال : والله الذي أنزل عليك الكتاب ما قلت شيئاً من ذلك ، وإنّ زيداً لكاذب فهو قوله تعالى : { اتخذوا إيمانهم جنة } فقال الحاضرون : يا رسول الله شيخنا وكبيرنا لا تصدق عليه كلام غلام عسى أن يكون قد وهم » .

وروي أنه صلى الله عليه وسلم قال : «لعلك غضبت عليه ، قال : لا ، قال : فلعله أخطأ سمعك ، قال : لا ، قال : فلعله شبه عليك ، قال : لا ، فلما نزلت لحق صلى الله عليه وسلم زيداً من خلفه فعرك أذنه ، وقال : وعت أذنك يا غلام إنّ الله قد صدقك وكذب المنافقين » .

تنبيه : سئل حذيفة بن اليمان عن المنافق فقال : الذي يصف الإيمان ولا يعمل به .

وروى أبو هريرة أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم قال : «آية المنافق ثلاث : إذا حدث كذب ، وإذا وعد أخلف ، وإذا ائتمن خان » وروى عبد الله بن عمر أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم قال : «أربع من كنّ فيه كان منافقاً خالصاً ، ومن كان فيه خصلة منهنّ كان فيه خصلة من النفاق حتى يدعها ، إذا ائتمن خان ، وإذا حدّث كذب ، وإذا عاهد غدر ، وإذا خاصم فجر » وروي عن الحسن أنه ذكر هذا الحديث فقال : إنّ بني يعقوب حدثوا فكذبوا ، ووعدوا فأخلفوا ، وائتمنوا فخانوا ، إنما هذا القول من النبيّ صلى الله عليه وسلم على سبيل الإنذار للمسلمين ، والتحذير لهم أن يعتادوا هذه الخصال شفقة أن تفضي بهم إلى النفاق ، وليس المعنى أنّ من ندرت منه هذه الخصال من غير اختيار واعتياد أنه منافق وقال عليه الصلاة والسلام : «المؤمن إذا حدث صدق ، وإذا وعد نجز ، وإذا ائتمن وفى » والمعنى المؤمن الكامل { فصدّوا } أي : فسبب لهم اتخاذهم هذا أن أعرضوا بأنفسهم مع سوء البواطن وحرارة ما في الصدور ، وحملوا غيرهم على الإعراض { عن سبيل الله } أي : عن طريق الملك الأعظم الذي شرعه لعباده ليصلوا به إلى محل رضوانه ، ووصلوا إلى ذلك بخداعهم ومكرهم بجراءتهم على الأيمان الخائنة { إنهم ساء ما كانوا } أي : جبلة وطبعاً { يعملون } أي : يجدّدون عمله مستمرّين عليه بما هو كالجبلة من جراءتهم على الله ورسوله صلى الله عليه وسلم وخلص عباده بالأيمان الخائنة .