فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير للشوكاني - الشوكاني  
{ٱتَّخَذُوٓاْ أَيۡمَٰنَهُمۡ جُنَّةٗ فَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِۚ إِنَّهُمۡ سَآءَ مَا كَانُواْ يَعۡمَلُونَ} (2)

{ اتخذوا أيمانهم جُنَّةً } وهو بعيد { قَالُواْ نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ الله } أكدوا شهادتهم بإنّ واللام للإشعار بأنها صادرة من صميم قلوبهم مع خلوص اعتقادهم ، والمراد بالمنافقين عبد الله بن أبيّ وأصحابه ، ومعنى { نشهد } نحلف ، فهو يجري مجرى القسم ، ولذلك يتلقى بما يتلقى به القسم ، ومن هذا قول قيس بن ذَريح :

وأشهد عند الله أني أحبها *** فهذا لها عندي فما عندها ليا

ومثل نشهد نعلم ، فإنه يجري مجرى القسم كما في قول الشاعر :

ولقد علمت لتأتينّ منيتي *** إن المنايا لا تطيش سهامها

وجملة { والله يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ } معترضة مقرّرة لمضمون ما قبلها ، وهو ما أظهروه من الشهادة ، وإن كانت بواطنهم على خلاف ذلك { والله يَشْهَدُ إِنَّ المنافقين لكاذبون } أي في شهادتهم التي زعموا أنها من صميم القلب وخلوص الاعتقاد ؛ لا إلى منطوق كلامهم ، وهو الشهادة بالرسالة ، فإنه حقّ ، والمعنى : والله يشهد إنهم لكاذبون فيما تضمنه كلامهم من التأكيد الدالّ على أن شهادتهم بذلك صادرة عن خلوص اعتقاد وطمأنينة قلب وموافقة باطن لظاهر { اتخذوا أيمانهم جُنَّةً } أي جعلوا حلفهم الذي حلفوا لكم به إنهم لمنكم وإن محمداً لرسول الله وقاية تقيهم منكم وسترة يستترون بها من القتل والأسر ، والجملة مستأنفة لبيان كذبهم وحلفهم عليه ، وقد تقدّم قول من قال إنها جواب الشرط . قرأ الجمهور { أَيْمَانُهُم } بفتح الهمزة ، وقرأ الحسن بكسرها ، وقد تقدّم تفسير هذا في سورة المجادلة { فَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ الله } أي منعوا الناس عن الإيمان والجهاد وأعمال الطاعة بسبب ما يصدر منهم من التشكيك والقدح في النبوّة . هذا معنى الصدّ الذي بمعنى الصرف ، ويجوز أن يكون من الصدود : أي أعرضوا عن الدخول في سبيل الله وإقامة أحكامه { إِنَّهُمْ سَاء مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } من النفاق والصدّ ، وفي ساء معنى التعجب .