قوله تعالى : { فقطع دابر القوم الذين ظلموا } ، أي : آخرهم الذين بدبرهم ، يقال : دبر فلان القوم يدبرهم دبراً ودبوراً ، إذا كان آخرهم ، ومعناه أنهم استؤصلوا بالعذاب فلم يبق منهم باقية .
قوله تعالى : { والحمد لله رب العالمين } ، حمد الله نفسه على أن قطع دابرهم لأنه نعمة على الرسل ، فذكر الحمد لله تعليماً لهم ولمن آمن بهم ، أن يحمدوا الله على كفايته شر الظالمين ، وليحمد محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه ربهم إذ أهلك المكذبين .
ثم قال - تعالى - : { فَقُطِعَ دَابِرُ القوم الذين ظَلَمُواْ والحمد للَّهِ رَبِّ العالمين } .
الدابر : الآخر ، والمعنى : فأهلك الله - تعالى - أولئك الأقوام عن آخرهم بسبب ظلمهم وفجورهم ، والحمد لله رب العالمين الذى نصر رسله وأولياءه على أعدائهم ، وفى ختام هذه الآية بقوله { والحمد للَّهِ رَبِّ العالمين } تعليم لنا ، إذ أن زوال الظالمين نعمة تستوجب الحمد والثناء على الله - تعالى - .
( فقطع دابر القوم الذين ظلموًا ) . .
ودابر القوم هو آخر واحد منهم يدبرهم أي يجيء على أدبارهم فإذا قطع هذا فأوائلهم أولى ! . . و ( الذين ظلموا )تعني هنا الذين أشركوا . . كما هو التعبير القرآني في أغلب المواضع عن الشرك بالظلم وعن المشركين بالظالمين . .
( والحمد لله رب العالمين ) . .
تعقيب على استئصال الظالمين [ المشركين ] بعد هذا الاستدراج الإلهي والكيد المتين . . وهل يحمد الله على نعمة ، أجل من نعمة تطهير الأرض من الظالمين ، أو على رحمة أجل من رحمته لعباده بهذا التطهير ؟
لقد أخذ الله قوم نوح وقوم هود وقوم صالح وقوم لوط ، كما أخذ الفراعنة والإغريق والرومان وغيرهم بهذه السنة ؛ ووراء ازدهار حضارتهم ثم تدميرها ، ذلك السر المغيب من قدر الله ؛ وهذا القدر الظاهر من سنته ؛ وهذا التفسير الرباني لهذا الواقع التاريخي المعروف .
ولقد كان لهذه الأمم من الحضارة ؛ وكان لها من التمكين في الأرض ؛ وكان لها من الرخاء والمتاع ؛ ما لا يقل - إن لم يزد في بعض نواحيه - عما تتمتع به اليوم أمم ؛ مستغرقة في السلطان والرخاء والمتاع ؛ مخدوعة بما هي فيه ؛ خادعة لغيرها ممن لا يعرفون سنة الله في الشدة والرخاء . .
هذه الأمم لا تدرك أن هناك سنة ، ولا تشعر أن الله يستدرجها وفق هذه السنة . والذين يدورون في فلكها يبهرهم اللألاء الخاطف ، ويتعاظمهم الرخاء والسلطان ، ويخدعهم إملاء الله لهذه الأمم ، وهي لا تعبد الله أو لا تعرفه ، وهي تتمرد على سلطانه ، وهي تدعي لأنفسها خصائص ألوهيته ، وهي تعيث في الأرض فسادا ، وهي تظلم الناس بعد اعتدائها على سلطان الله . .
ولقد كنت - في أثناء وجودي في الولايات المتحدة الأمريكية - أرى رأي العين مصداق قول الله سبحانه : ( فلما نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبواب كل شيء ) . . فإن المشهد الذي ترسمه هذه الآية . . مشهد تدفق كل شيء من الخيرات والأرزاق بلا حساب ! . . لا يكاد يتمثل في الأرض كلها كما يتمثل هناك !
وكنت أرى غرور القوم بهذا الرخاء الذي هم فيه ، وشعورهم بأنه وقف على " الرجل الأبيض " وطريقة تعاملهم مع الملونين في عجرفة مرذولة ، وفي وحشية كذلك بشعة ! وفي صلف على أهل الارض كلهم لا يقاس إليه صلف النازية الذي شهر به اليهود في الأرض كلها حتى صار علما على الصلف العنصري . بينما الأمريكي الأبيض يزاوله تجاه الملونين في صورة أشد وأقسى ! وبخاصة إذا كان هؤلاء الملونون من المسلمين . .
كنت أرى هذا كله فأذكر هذه الآية ، وأتوقع سنة الله ، وأكاد أرى خطواتها وهي تدب إلى الغافلين :
( حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون . فقطع دابر القوم الذين ظلموا والحمد لله رب العالمين ) . .
وإذا كان الله قد رفع عذاب الاستئصال بعد بعثة رسول الله [ ص ] فهناك ألوان من العذاب باقية . والبشرية - وبخاصة الأمم التي فتحت عليها أبواب كل شيء - تذوق منها الكثير . على الرغم من هذا النتاج الوفير ، ومن هذا الرزق الغزير !
إن العذاب النفسي ، والشقاء الروحي ، والشذوذ الجنسي ، والانحلال الخلقي . . الذي تقاسي منه هذه الأمم اليوم ، ليكاد يغطي على الإنتاج والرخاء والمتاع ؛ وليكاد يصبغ الحياة كلها بالنكد والقلق والشقاء ! ذلك إلى جانب الطلائع التي تشير إليها القضايا الأخلاقية السياسية ، التي تباع فيها أسرار الدولة ، وتقع فيها الخيانة للأمة ، في مقابل شهوة أو شذوذ . . وهي طلائع لا تخطى ء على نهاية المطاف !
وليس هذا كله إلا بداية الطريق . . وصدق رسول الله [ ص ] قال : " إذا رأيت الله يعطي العبد من الدنيا - على معاصيه - ما يحب . فإنما هو استدراج " . . ثم تلا : ( فلما نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبواب كل شيء . حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون ) . . [ رواه ابن جرير ، وابن أبى حاتم ] .
غير أنه ينبغي ، مع ذلك ، التنبية إلى أن سنة الله في تدمير [ الباطل ] أن يقوم في الأرض [ حق ] يتمثل في [ أمة ] . . ثم يقذف الله بالحق على الباطل فيدمغة فإذاهو زاهق . . فلا يقعدن أهل الحق كسالى يرتقبون أن تجري سنة الله بلا عمل منهم ولا كد . فإنهم حينئذ لا يمثلون الحق ، ولا يكونون أهله . . وهم كسالى قاعدون . . . والحق لا يتمثل إلا في أمة تقوم لتقر حاكمية الله في الأرض ، وتدفع المغتصبين لها من الذين يدعون خصائص الألوهية . . هذا هو الحق الأول ، والحق الأصيل . . ( ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض ) . .
وقوله تعالى : { فقطع دابر القوم } الآية ، «الدابر » آخر الأمر الذي يدبره أي يأتي من خلفه ، ومنه قول الشاعر [ أمية بن أبي الصلت ] [ البسيط ]
فَأُهلِكُوا بعذابٍ حصَّ دَابِرَهُمْ . . . فما استطاعُوا لَهُ دَفْعاً ولا انْتَصَرُوا{[4920]}
وَقَدْ زَعَمتْ علْيا بَغِيضٍ وَلَفُّها . . . بَأني وَحِيدٌ قَدْ تَقَطَّع دابري{[4921]}
وهذه كناية عن استئصال «شأفتهم » ومحو آثارهم كأنهم وردوا العذاب حتى ورد آخرهم الذي َََََََََدَبَرهم ، وقرأ عكرمة «فقَطَع » بفتح القاف والطاء «دابرَ » بالنصب ، وحسن الحمد عقب هذه الآية لجمال الأفعال المتقدمة في أن أرسل الرسل وتلطف في الأخذ بالبأساء والضراء ليتضرع إليه فيرحم وينعم ، وقطع في آخر الأمر دابر الظلمة ، وذلك حسن في نفسه ونعمة على المؤمنين فحسن الحمد يعقب هذه الأفعال ، وبحمد الله ينبغي أن يختم كل فعل وكل مقالة لا رب غيره .
جملة { فقطع دابر القوم } معطوفة على جملة { أخذناهم } ، أي فأخذناهم أخذ الاستئصال . فلم يُبق فيهم أحداً .
والدابر اسم فاعل من دَبَره من باب كَتَب ، إذا مشى من ورائه . والمصدر الدبور بضم الدال ، ودابر الناس آخرهم ، وذلك مشتقّ من الدُبُر ، وهو الوراء ، قال تعالى : { واتَّبِع أدبارهم } [ الحجر : 65 ] . وقطع الدابر كناية عن ذهاب الجميع لأنّ المستأصل يبدأ بما يليه ويذهب يستأصل إلى أن يبلغ آخره وهو دَابره ، وهذا ممّا جرى مجرى المثل ، وقد تكرّر في القرآن ، كقوله : { أنّ دابر هؤلاء مَقطوع مصبحين } [ الحجر : 66 ] .
والمراد بالذين ظلموا المشركون ، فإنّ الشرك أعظم الظلم ، لأنَّه اعتداء على حقّ الله تعالى على عباده في أن يعترفوا له بالربوبية وحده ، وأنّ الشرك يستتبع مظالم عدّة لأنّ أصحاب الشرك لا يؤمنون بشرع يزع الناس عن الظلم .
وجملة : { والحمد لله ربّ العالمين } يجوز أن تكون معطوفة على جملة : { ولقد أرسلنا إلى أمم من قبلك } بما اتَّصل بها . عطف غرض على غرض . ويجوز أن تكون اعتراضاً تذييلياً فتكون الواو اعتراضية . وأيَّاً ما كان موقعها ففي المراد منها اعتبارات ثلاثة :
أحدها : أن تكون تلقيناً للرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنين أن يحمدوا الله على نصره رسلَه وأولياءهم وإهلاك الظالمين ، لأنّ ذلك النصر نعمة بإزالة فساد كان في الأرض ، ولأنّ في تذكير الله الناس به إيماء إلى ترقّب الإسوة بما حصل لمن قبلهم أن يترقَّبوا نصر الله كما نصر المؤمنين من قبلهم ؛ فيكون { الحمد لله } مصدراً بدلاً من فعله ، عُدل عن نصبه وتنكيره إلى رفعه وتعريفه للدلالة على معنى الدوام والثبات ، كما تقدّم في قوله تعالى : { الحمد لله } في سورة [ الفاتحة : 2 ] .
{ ثانيها } : أن يكون { الحمد لله } كناية عن كون ما ذكر قبله نعمة من نعم الله تعالى لأنّ من لوازم الحمد أن يكون على نعمة ، فكأنّه قيل : فقطع دابر القوم الذين ظلموا . وتلك نعمة من نعم الله تقتضي حمده .
ثالثها : أن يكون إنشاءَ حمد لله تعالى من قِبَل جلاله مستعملاً في التعجيب من معاملة الله تعالى إيّاهم وتدريجهم في درجات الإمهال إلى أن حقّ عليهم العذاب .
ويجوز أن يكون إنشاءَ الله تعالى ثناء على نفسه ، تعريضاً بالامتنان على الرسول والمسلمين .
واللام في { الحمد } للجنس ، أي وجنس الحمد كلّه الذي منه الحمد على نعمة إهلاك الظالمين .
وفي ذلك كلّه تنبيه على أنَّه يحقّ الحمد لله عند هلاك الظلمة ، لأنّ هلاكهم صلاح للناس ، والصلاح أعظم النعم ، وشكر النعمة واجب . وهذا الحمد شكر لأنّه مقابل نعمة . وإنّما كان هلاكهم صلاحاً لأنّ الظلم تغيير للحقوق وإبطال للعمل بالشريعة ، فإذا تغير الحقّ والصلاح جاء الدمار والفوضى وافتتن الناس في حياتهم فإذا هلك الظالمون عاد العدل ، وهو ميزان قوام العالم .
أخرج أحمد بن حنبل عن عقبة بن عامر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : إذا رأيت الله يعطي العبد من الدنيا على معاصيه ما يحبّ فإنّما هو استدراح ثم تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم { فلمّا نسُوا ما ذكّروا به فتحنا عليهم أبواب كلّ شيء حتّى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون فقطع دابر القوم الذين ظلموا والحمد لله ربّ العالمين } .