في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب  
{فَقُطِعَ دَابِرُ ٱلۡقَوۡمِ ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْۚ وَٱلۡحَمۡدُ لِلَّهِ رَبِّ ٱلۡعَٰلَمِينَ} (45)

40

( فقطع دابر القوم الذين ظلموًا ) . .

ودابر القوم هو آخر واحد منهم يدبرهم أي يجيء على أدبارهم فإذا قطع هذا فأوائلهم أولى ! . . و ( الذين ظلموا )تعني هنا الذين أشركوا . . كما هو التعبير القرآني في أغلب المواضع عن الشرك بالظلم وعن المشركين بالظالمين . .

( والحمد لله رب العالمين ) . .

تعقيب على استئصال الظالمين [ المشركين ] بعد هذا الاستدراج الإلهي والكيد المتين . . وهل يحمد الله على نعمة ، أجل من نعمة تطهير الأرض من الظالمين ، أو على رحمة أجل من رحمته لعباده بهذا التطهير ؟

لقد أخذ الله قوم نوح وقوم هود وقوم صالح وقوم لوط ، كما أخذ الفراعنة والإغريق والرومان وغيرهم بهذه السنة ؛ ووراء ازدهار حضارتهم ثم تدميرها ، ذلك السر المغيب من قدر الله ؛ وهذا القدر الظاهر من سنته ؛ وهذا التفسير الرباني لهذا الواقع التاريخي المعروف .

ولقد كان لهذه الأمم من الحضارة ؛ وكان لها من التمكين في الأرض ؛ وكان لها من الرخاء والمتاع ؛ ما لا يقل - إن لم يزد في بعض نواحيه - عما تتمتع به اليوم أمم ؛ مستغرقة في السلطان والرخاء والمتاع ؛ مخدوعة بما هي فيه ؛ خادعة لغيرها ممن لا يعرفون سنة الله في الشدة والرخاء . .

هذه الأمم لا تدرك أن هناك سنة ، ولا تشعر أن الله يستدرجها وفق هذه السنة . والذين يدورون في فلكها يبهرهم اللألاء الخاطف ، ويتعاظمهم الرخاء والسلطان ، ويخدعهم إملاء الله لهذه الأمم ، وهي لا تعبد الله أو لا تعرفه ، وهي تتمرد على سلطانه ، وهي تدعي لأنفسها خصائص ألوهيته ، وهي تعيث في الأرض فسادا ، وهي تظلم الناس بعد اعتدائها على سلطان الله . .

ولقد كنت - في أثناء وجودي في الولايات المتحدة الأمريكية - أرى رأي العين مصداق قول الله سبحانه : ( فلما نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبواب كل شيء ) . . فإن المشهد الذي ترسمه هذه الآية . . مشهد تدفق كل شيء من الخيرات والأرزاق بلا حساب ! . . لا يكاد يتمثل في الأرض كلها كما يتمثل هناك !

وكنت أرى غرور القوم بهذا الرخاء الذي هم فيه ، وشعورهم بأنه وقف على " الرجل الأبيض " وطريقة تعاملهم مع الملونين في عجرفة مرذولة ، وفي وحشية كذلك بشعة ! وفي صلف على أهل الارض كلهم لا يقاس إليه صلف النازية الذي شهر به اليهود في الأرض كلها حتى صار علما على الصلف العنصري . بينما الأمريكي الأبيض يزاوله تجاه الملونين في صورة أشد وأقسى ! وبخاصة إذا كان هؤلاء الملونون من المسلمين . .

كنت أرى هذا كله فأذكر هذه الآية ، وأتوقع سنة الله ، وأكاد أرى خطواتها وهي تدب إلى الغافلين :

( حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون . فقطع دابر القوم الذين ظلموا والحمد لله رب العالمين ) . .

وإذا كان الله قد رفع عذاب الاستئصال بعد بعثة رسول الله [ ص ] فهناك ألوان من العذاب باقية . والبشرية - وبخاصة الأمم التي فتحت عليها أبواب كل شيء - تذوق منها الكثير . على الرغم من هذا النتاج الوفير ، ومن هذا الرزق الغزير !

إن العذاب النفسي ، والشقاء الروحي ، والشذوذ الجنسي ، والانحلال الخلقي . . الذي تقاسي منه هذه الأمم اليوم ، ليكاد يغطي على الإنتاج والرخاء والمتاع ؛ وليكاد يصبغ الحياة كلها بالنكد والقلق والشقاء ! ذلك إلى جانب الطلائع التي تشير إليها القضايا الأخلاقية السياسية ، التي تباع فيها أسرار الدولة ، وتقع فيها الخيانة للأمة ، في مقابل شهوة أو شذوذ . . وهي طلائع لا تخطى ء على نهاية المطاف !

وليس هذا كله إلا بداية الطريق . . وصدق رسول الله [ ص ] قال : " إذا رأيت الله يعطي العبد من الدنيا - على معاصيه - ما يحب . فإنما هو استدراج " . . ثم تلا : ( فلما نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبواب كل شيء . حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون ) . . [ رواه ابن جرير ، وابن أبى حاتم ] .

غير أنه ينبغي ، مع ذلك ، التنبية إلى أن سنة الله في تدمير [ الباطل ] أن يقوم في الأرض [ حق ] يتمثل في [ أمة ] . . ثم يقذف الله بالحق على الباطل فيدمغة فإذاهو زاهق . . فلا يقعدن أهل الحق كسالى يرتقبون أن تجري سنة الله بلا عمل منهم ولا كد . فإنهم حينئذ لا يمثلون الحق ، ولا يكونون أهله . . وهم كسالى قاعدون . . . والحق لا يتمثل إلا في أمة تقوم لتقر حاكمية الله في الأرض ، وتدفع المغتصبين لها من الذين يدعون خصائص الألوهية . . هذا هو الحق الأول ، والحق الأصيل . . ( ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض ) . .