قوله تعالى : { قال } أبوه مجيباً له : { أراغب أنت عن آلهتي يا إبراهيم لئن لم تنته } ، لئن لم تسكت وترجع عن عيبك آلهتنا وشتمك إياها ، { لأرجمنك } ، قال الكلبي ، ومقاتل ، والضحاك : لأشتمنك ، ولأبعدنك عني بالقول القبيح . قال ابن عباس لأضربنك . وقال عكرمة : لأقتلنك بالحجارة . { واهجرني ملياً } ، قال الكلبي : اجنبني طويلاً . وقال مجاهد وعكرمة : حيناً . وقال سعيد بن جبير : دهراً وأصل الحين : المكث ، ومنه يقال : فمكثت حيناً ، والملوان : الليل والنهار . وقال قتادة وعطاء : سالماً . وقال ابن عباس : اعتزلني سالماً لا تصيبك مني معرة ، يقال : فلان ملي بأمر كذا : إذا كان كافياً .
{ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ ْ } فتبجح بآلهته [ التي هي ]{[505]} من الحجر والأصنام ، ولام إبراهيم عن رغبته عنها ، وهذا من الجهل المفرط ، والكفر الوخيم ، يتمدح بعبادة الأوثان ، ويدعو إليها .
{ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ ْ } أي : عن شتم آلهتي ، ودعوتي إلى عبادة الله { لَأَرْجُمَنَّكَ ْ } أي : قتلا بالحجارة { وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا ْ } أي : لا تكلمني زمانا طويلا .
ولكن هذه النصيحة الحكيمة الغالية من إبراهيم لأبيه ، لم تصادف أذناً واعية ولم تحظ من أبيه بالقبول بل قوبلت بالاستنكار والتهديد فقد قال الأب لكافر لابنه المؤمن : { أَرَاغِبٌ أَنتَ عَنْ آلِهَتِي ياإبراهيم لَئِن لَّمْ تَنتَهِ لأَرْجُمَنَّكَ واهجرني مَلِيّاً } .
والاستفهام فى قوله { أَرَاغِبٌ } للإنكار والتهديد والرغبة عن الشىء : تركه عمداً زهدا فيه لعدم الحاجة إليه .
ولفظ { أَرَاغِبٌ } مبتدأ ، { أَنتَ } فاعل سد مسد الخبر ، و { مَلِيّاً } أى : زمنا طويلا ، مأخوذ من الملاوة ، وهى الفترة الطويلة من الزمان ، ويقال الليل والنهار : الملوان .
والمعنى : قال والد إبراهيم له على سبيل التهديد والوعيد ، أتارك أنت يا إبراهيم عبادة آلهتى ، وكاره لتقرب الناس إليها ، ومنفرهم منها لئن لم تنته عن هذا المسلك ، { لأَرْجُمَنَّكَ } بالحجارة وبالكلام القبيح { واهجرني مَلِيّاً } بأن تغرب عن وجهى زمنا طويلا لا أحب أن أراك فيه .
وهكذا قابل الأب الكافر أدب ابنه المؤمن ، بالفظاظة والغلظة والتهديد والعناد والجهالة . . . شأن القلب الذى أفسده الكفر .
ولكن إبراهيم - عليه السلام - لم يقابل فظاظة أبيه وتهديده بالغضب والضيق ، بل قابل ذلك بسعة الصدر .
ولكن هذه الدعوة اللطيفة بأحب الألفاظ وأرقها لا تصل إلى القلب المشرك الجاسي ، فإذا أبو إبراهيم يقابله بالاستنكار والتهديد والوعيد :
( قال : أراغب أنت عن آلهتي يا إبراهيم ? لئن لم تنته لأرجمنك . واهجرني مليا ) .
أراغب أنت عن آلهتي يا إبراهيم ، وكاره لعبادتها ومعرض عنها ? أو بلغ بك الأمر إلى هذا الحد من الجراءة ? ! فهذا إنذار لك بالموت الفظيع إن أنت أصررت على هذا الموقف الشنيع : ( لئن لم تنته لأرجمنك ) ! فاغرب عن وجهي وابعد عني طويلا . استبقاء لحياتك إن كنت تريد النجاة : ( واهجرني مليا ) . .
بهذه الجهالة تلقى الرجل الدعوة إلى الهدى . وبهذه القسوة قابل القول المؤدب المهذب . وذلك شأن الإيمان مع الكفر ؛ وشأن القلب الذي هذبه الإيمان والقلب الذي أفسده الكفر .
يقول تعالى مخبرًا عن جواب أبي إبراهيم [ لولده إبراهيم ]{[18860]} فيما دعاه إليه أنه قال : { أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ } يعني : [ إن كنت لا ]{[18861]} تريد عبادتها ولا ترضاها ، فانته عن سبها وشتمها وعيبها ، فإنك إن لم تنته عن ذلك اقتصصتُ منك وشتمتك وسببتك ، وهو{[18862]} قوله : { لأرْجُمَنَّكَ } ، قاله ابن عباس ، والسدي ، وابن جريج ، والضحاك ، وغيرهم .
وقوله : { وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا } : قال مجاهد ، وعكرمة ، وسعيد بن جبير ، ومحمد بن إسحاق : يعني دهرًا .
وقال الحسن البصري : زمانًا طويلا . وقال السدي : { وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا } قال : أبدًا .
وقال علي بن أبي طلحة ، والعوفي ، عن ابن عباس : { وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا } قال : سويًّا سالمًا ، قبل أن تصيبك مني عقوبة . وكذا قال الضحاك ، وقتادة وعطية الجَدَلي و[ أبو ]{[18863]} مالك ، وغيرهم ، واختاره ابن جرير .
{ قال أراغب أنت عن آلهتي يا إبراهيم } قابل استعطافه ولطفه في الإرشاد بالفظاظة وغلظه العناد فناداه باسمه ولم يقابل { يا أبتي } بيا بني ، وأخره وقدم الخبر على المبتدأ وصدره بالهمزة لإنكار نفس الرغبة على ضرب من التعجب ، كأنها مما لا يرغب عنها عاقل ثم هدده فقال : { لئن لم تنته } عن مقالك فيها أو الرغبة عنها . { لأرجمنك } بلساني يعني الشتم والذم أو بالحجارة حتى تموت ، أو تبعد مني . { واهجرني } عطف على ما دل عليه { لأرجمنك } أي فاحذرني . واهجرني { مليا } زمانا طويلا من الملاوة أو مليا بالذهاب عني .
قال آزر وهو تارخ { أراغب أنت عن آلهتي } ، والرغبة ميل النفس ، فقد تكون الرغبة في الشيء وقد تكون عنه ، وقوله { أراغب } رفع بالابتداء و { أنت } فاعل به يسد مسد الخبر وحسن ذلك وقربه اعتماد «راغب » على ألف الاستفهام ، ويجوز أن يكون «راغب » خبراً مقدماً و { أنت } ابتداء والأول أصوب وهو مذهب سيبويه{[7970]} .
وقوله { عن آلهتي } ، يريد الأصنام وكان فيما روي ينحتها وينجرها بيده ويبيعها ويحض عليها فقرر ابنه إبراهيم على رغبته عنها على جهة الإنكار عليه ثم أخذ يتوعده ، وقوله { لأرجمنك } اختلف فيه المتأولون ، فقال السدي وابن جريج والضحاك : معناه بالقول ، أي لأشتمنك { واهجرني } أنت إذا شئت مدة من الدهر ، أو سالماً حسب الخلاف الذي سنذكره . وقال الحسن بن أبي الحسن : معناه { لأرجمنك } بالحجارة ، وقالت فرقة : معناه لأقتلنك ، وهذان القولان بمعنى واحد ، وقوله { واهجرني } على هذا التأويل إنما يترتب بأنه أمر على حياله كأنه قال : إن لم تنته لأقتلنك بالرجم ، ثم قال له { واهجرني } أي مع انتهائك كأنه جزم له الأمر بالهجرة وإلا فمع الرجم لا تترتب الهجرة و { ملياً } معناه دهراً طويلاً مأخوذ من الملوين وهما الليل والنهار وهذا قول الجمهور والحسن ومجاهد وغيرهما فهو ظرف{[7971]} ، وقال ابن عباس وغيره { ملياً } معناه سليماً منا سوياً فهو حال من { إبراهيم } عليه السلام{[7972]} ، وتلخيص هذا أن يكون بمعنى قوله مستبداً بحالك غنياً عني ملياً بالاكتفاء{[7973]} .