53 - 56 ْ } { وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ * وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ مَا فِي الْأَرْضِ لَافْتَدَتْ بِهِ وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ * أَلَا إِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَلَا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ * هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ْ }
يقول تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم : { وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ ْ } أي : يستخبرك المكذبون على وجه التعنت والعناد ، لا على وجه التبين والرشاد{[402]}
{ أَحَقٌّ هُوَ ْ } أى : أصحيح حشر العباد ، وبعثهم بعد موتهم ليوم المعاد ، وجزاء العباد بأعمالهم ، إن خيرًا فخير ، وإن شرًا فشر ؟
{ قُلْ ْ } لهم مقسمًا على صحته ، مستدلا عليه بالدليل الواضح والبرهان : { إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ ْ } لا مرية فيه ولا شبهة تعتريه .
{ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ ْ } لله أن يبعثكم ، فكما ابتدأ خلقكم ولم تكونوا شيئًا ، كذلك يعيدكم مرة أخرى ليجازيكم بأعمالكم .
ثم قال - سبحانه - { وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ } النبأ : كما يقول الراغب . خبر ذو فائدة عظيمة ، يحصل به علم أو غلبة ظن .
والاستنباء : طلب الأخبار الهامة .
أى : إن هؤلاء الضالين يطلبون منك - أيها الرسول الكريم - على سبيل التهكم والاستهزاء ، أن تخبرهم عن هذا العذاب الذي توعدتهم به ، أهو واقع بهم على سبيل الحقيقة ، أم هو غير واقع ولكنك تحدثهم عنه على سبيل الإِرهاب والتهديد ؟
وقوله : { قُلْ إِي وربي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَمَآ أَنتُمْ بِمُعْجِزِينَ } إرشاد من الله - تعالى - لنبيه - صلى الله عليه وسلم - إلى الجواب الذي يرد به عليهم .
ولفظ { أي } بكسر الهمزة وسكون الياء - حرف جواب وتصديق بمعنى نعم ، إلا أنه لا يستعمل إلا مع القسم .
أى : قل لهم يا محمد : نعم وحق ربي إن العذاب الذي أخبرتكم به لا محيص لكم عنه وما أنتم بمعجزي الله - تعالى - إذا أراد أن ينزله بكم في أي وقت يريده ، بل أنتم في قبضته وتحت سلطانه وملكه ، فاتقوا الله ، بأن تخلصوا به العبادة ، وتتبعوا رسوله - صلى الله عليه وسلم - فيما جاءكم به من عنده - سبحانه - .
وقد أكد سبحانه - الجواب عليهم بأتم وجوه التأكيد ، لأنهم كانوا قوما ينكرون أشد الإِنكار أن يكون هناك عذاب وحساب وبعث وجنة ونار .
قال ابن كثير : " وهذه الآية ليس لها نظير في القرآن إلا آيتان أخريان ، يأمر الله - تعالى - رسوله فيهما أن يقسم به على من أنكر المعاد ، أما الآية الأولى فهي قوله - تعالى - :
{ وَقَالَ الذين كَفَرُواْ لاَ تَأْتِينَا الساعة قُلْ بلى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ . . } وأما الآية الثانية فهي قوله - تعالى - : { زَعَمَ الذين كفروا أَن لَّن يُبْعَثُواْ قُلْ بلى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ . . } وجملة { وَمَآ أَنتُمْ بِمُعْجِزِينَ } إما معطوفة على جواب القسم ، أو مستأنفة سبقت لبيان عجزهم عن الخلاص ، وتأكيد وقوع العذاب عليهم .
وختام هذه الجولة ، هو استنباء القوم للرسول : إن كان هذا الوعيد حقاً . فهم مزلزلون من الداخل تجاهه يريدون أن يستوثقوا وليس بهم من يقين . والجواب بالإيجاب حاسم مؤكد بيمين :
( ويستنبئونك : أحق هو ? قل : إي وربي إنه لحق وما أنتم بمعجزين ) . .
الذي أعرف قيمة ربوبيته فلا أقسم به حانثاً ، ولا أقسم به إلا في جد وفي يقين . .
( إنه لحق وما أنتم بمعجزين ) . .
ما أنتم بمعجزين أن يأتي بكم ، وما أنتم بمعجزين أن يحاسبكم ، وأن يجازيكم .
يقول تعالى : ويستخبرونك { أَحَقٌّ هُوَ } أي : المعاد والقيامة من الأجداث بعد صيرورة الأجسام ترابا . { قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ } أي : ليس صيرورتكم ترابا بمعجز الله عن إعادتكم كما بدأكم من العدم : { إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ } [ يس : 82 ] . {[14265]}
وهذه الآية ليس لها نظير في القرآن إلا آيتان أخريان ، يأمر الله تعالى رسوله أن يقسم به على من أنكر المعاد في سورة سبأ : { وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ } [ سبأ : 3 ] . وفي التغابن : { زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ } [ التغابن : 7 ] .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبّيَ إِنّهُ لَحَقّ وَمَآ أَنتُمْ بِمُعْجِزِينَ } .
يقول تعالى ذكره : ويستخبرك هؤلاء المشركون من قومك يا محمد فيقولون لك : أحقّ ما تقول وما تعدنا به من عذاب الله في الدار الاَخرة جزاء على ما كنا نكسب من معاصي الله في الدنيا ؟ قل لهم يا محمد إي وربي إنه لحقّ لا شكّ فيه ، وما أنتم بمعجزي الله إذا أراد ذلك بكم بهرب أو امتناع ، بل أنتم في قبضته وسلطانه وملكه ، إذ أراد فعل ذلك بكم ، فاتقوا الله في أنفسكم .
هذا حكاية فن من أفانين تكذيبهم ، فمرة يتظاهرون باستبطاء الوعد استخفافاً به ، ومرة يُقبلون على الرسول في صورة المستفهم الطالب فيسألونه : أهذا العذاب الخالد ، أي عذاب الآخرة ، حق .
فالجملة معطوفة على جملة { ويقولون متى هذا الوعد } [ يونس : 48 ] ، وضمير الجمع عائد إليهم فهم المستنبئون لا غيرهم ، وضمير ( هو ) عائد إلى { عذاب الخلد } [ يونس : 52 ] .
والحق : الثابت الواقع ، فهو بمعنى حاقّ ، أي ثابت ، أي أن وقوعه ثابت ، فأسند الثبوت لذات العذاب بتقدير مضاف يدل عليه السياق إذ لا توصف الذات بثبوت .
وجملة : { أحق هو } استفهامية معلقة فعل { يستنبئونك } عن العمل في المفعول الثاني ، والجملة بيان لجملة { يستنبئونك } لأن مضمونها هو الاستثناء .
والضمير يجوز كونه مبتدأ ، و { أحقّ } خبر مقدم .
واستعملوا الاستفهام تَبالُها ، ولذلك اشتمل الجواب المأمور به على مراعاة الحالتين فاعتبر أولاً ظاهر حال سؤالهم فأجيبوا على طريقة الأسلوب الحكيم بحمل كلامهم على خلاف مرادهم تنبيهاً على أن الأولى بهم سؤال الاسترشاد تغليطاً لهم واغتناماً لفرصة الإرشاد بناء على ظاهر حال سؤالهم ، ولذلك أكد الجواب بالتوكيد اللفظي إذْ جمع بين حرف { إي } وهو حرف جواب يحقق به المسؤول عنه ، وبين الجملة الدالة على ما دل عليه حرف الجواب ، وبالقسم ، وإنّ ، ولام الابتداء ، وكلها مؤكدات .
والاعتبار الثاني اعتبار قصدهم من استفهامهم فأجيبوا بقوله : { وما أنتم بمعجزين } . فجملة : { وما أنتم بمعجزين } معطوفة على جملة جواب القسم فمضمونها من المقْسم عليه . ولما كان المقسم عليه جواباً عن استفهامهم كان مضمون { ما أنتم بمعجزين } جواباً عن الاستفهام أيضاً باعتبار ما أضمروه من التكذيب ، أي هو واقع وأنتم مصابون به غير مفلتين منه . وليس فعل { يستنبئونك } مستعملاً في الظاهر بمعنى الفعل كما استعمل قوله : { يحذر المنافقون أن تنزل عليهم سورة } [ التوبة : 64 ] ، كما تقدم في براءة لأن حقيقة الاستنباء واقعة هنا إذ قد صرحوا بصورة الاستفهام .
و { إي } بكسر الهمزة : حرف جواب لتحْقيق ما تضمنه سؤال سائل ، فهو مرادف ( نَعم ) ، ولكن من خصائص هذا الحرف أنه لا يقع إلا وبعده القسم .
والمعجزون : الغالبون ، أي وما أنتم بغالبين الذي طلبكم ، أي بمفلتين . وقد تقدم عند قوله تعالى : { إن ما توعدون لآت وما أنتم بمعجزين } في سورة [ الأنعام : 134 ] .