اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{۞وَيَسۡتَنۢبِـُٔونَكَ أَحَقٌّ هُوَۖ قُلۡ إِي وَرَبِّيٓ إِنَّهُۥ لَحَقّٞۖ وَمَآ أَنتُم بِمُعۡجِزِينَ} (53)

قوله تعالى : { وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ } الآية .

لمَّا أخبر - تعالى - عن الكفَّار ، بأنهم يقولون : { متى هذا الوعد إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ } وأجاب عنه بما تقدَّم ، حكى عنهم : أنهم رجعُوا إلى الرَّسُول مرَّة أخرى في هذه الواقعة ، وسألوه عن ذلك السُّؤال مرَّة أخرى ، وقالوا : أحقٌّ هو ؟ واعلم : أنهم سألوا أولاً عن زمانِ وقوعه ، وههنا سألوا عن تحقُّقه في نفسه ، ولهذا اختلف جوابهما .

فأجاب عن الأول ، وهو السؤال عن الزمان ، بقوله { لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ } [ يونس : 49 ] .

وأجاب عن الثاني : بتحققه بالقسم ، بقوله { إِي وربي إِنَّهُ لَحَقٌّ } وفائدته أن يستميلهم ويتكلم معهم بالكلام المعتاد ؛ لأنَّ الظاهر أنَّ من أخبر عن شيء ، وأكَّده بالقسم ، فقد أخرجه عن الهَزل إلى الجدِّ ، وأيضاً : فإنَّ النَّاس طبقات : فمنهم من لا يُقِرّ بشيءٍ إلاَّ بالبرهان الحقيقيِّ ، ومنهم من ينتفع بالأشياء الإقناعيَّة ، نحو القسم .

قوله : " أحَقٌّ هُوَ " يجوز أن يكون " حَقٌّ " مبتدأ ، و " هو " مرفوعاً بالفاعليَّة سدَّ مسدَّ الخبر ، و " حَقَّ " وإن كان في الأصل مصدراً ليس بمعنى اسم فاعل ولا مفعول ؛ لكنَّه في قوَّة " ثابت " فلذلك رفع الظَّاهر ، ويجوز أن يكون " حقٌّ " خبراً مقدَّماً ، و " هو " مبتدأ مؤخراً ، واختلف في " يَسْتَنبئُونَك " هذه : هل هي متعدِّيةٌ إلى واحدٍ ، أو إلى اثنين ، أو إلى ثلاثة ؟ .

فقال الزمخشري : " ويَسْتنْبِئُونك " ، فيقولون : أحقٌّ هو فظاهرُ هذه العبارة أنَّها متعدية لواحدٍ ، وأن الجملة الاستفهامية في محلِّ نصب بذلك القول المضمر المعطوف على " يَسْتنبئُونَك " وكذلك فهم عنه أبو حيَّان ، أعني : تعدِّيها لواحدٍ .

وقال مكِّي{[18483]} : " أحقٌّ هو ابتداءٌ وخبرٌ في موضع المفعُولِ الثاني ، إذا جعلْتَ " يستنبئونك " بمعنى : يَسْتخْبِرُونكَ ، فإذا جعلتَ " يَسْتَنْبِئُونَك " بمعنى : يَسْتعْلِمُونك ، كان " أحقٌّ هُوَ " ابتداء وخبراً في موضع المفعولين ؛ لأنَّ " أنْبَأ " إذا كان بمعنى : أعلم ، وكان متعدِّياً إلى ثلاثةِ مفاعيل ، يجوزُ الاكتفاءُ بواحدٍ ، ولا يجوز الاكتفاء باثنين دون الثالث ، وإذا كانت " أنبأ " بمعنى : أخْبَر ، تعدَّت إلى مفعولين ، ولا يجوزُ الاكتفاءُ بواحد دون الثاني ، وأنبأ ونبَّأ في التعدِّي سواءٌ " .

وقال ابن عطيَّة{[18484]} : " معناه : يَسْتخبرونك ، وهو على هذا يتعدَّى إلى مفعولين أحدهما الكافُ ، والآخرُ في الابتداء والخبر " فعلى ما قال ، تكون " يَسْتَنْبِئُونكَ " معلَّقة بالاستفهام ، وأصل استنبأ : أن يتعدَّى إلى مقعولين أحدهما ب " عَنْ " تقول : اسْتَنْبَأتُ زيداً عن عمرو ، أي : طلبت منه أن يُنِْئَني عن عمرو ، ثمَّ قال : " والظَّاهر أنَّها تحتاج إلى ثلاثة مفاعيل أحدها الكاف ، والابتداء والخبر سدَّ مسدَّ المفعولين " .

قال أبو حيَّان{[18485]} : " وليس كما ذكر ؛ لأنَّ استعلم لا يحفظ كونها متعدِّيةٌ إلى مفاعيل ثلاثةٍ ، لا يحفظ " استعملتُ زيدا عمراً قائماً " فتكون جملةُ الاستفهام سدَّت مسدَّ المفعولين ، ولا يلزمُ من كونها بمعنى " يَسْتعْلمونك " أن تتعدَّى إلى ثلاثة ؛ لأنَّ " استعْلَم " لا يتعدَّى إلى ثلاثةٍ ، كما ذكرنا " .

وقد سبق ابن عطية إلى هذا مكِّيٌّ ، كما تقدَّم عنه والظاهرُ جوازُ ذلك ، ويكون التَّعدِّي إلى ثالثٍ قد حصل بالسِّين ؛ لأنَّهم نصُّوا على أنَّ السِّين تعدي ، فيكون الأصل : " عَلِمَ زيدٌ عمراً قائماً " ثم تقول : " اسْتعلمْتُ زيداً عمراً قائماً " إلاَّ أنَّ النحويِّين نصُّوا على أنَّه لا يتعدَّى إلى ثلاثةٍ إلاَّ " عَلِمَ " و " رأى " المنقولين بخصوصية همزةِ التعدِّي إلى ثالثٍ ، وأنْبَأ ، ونَبَّأ ، وأخبر ، وخبَّر وحدَّث ، وقرأ{[18486]} الأعمش : " آلحقُّ " بلام التعريف ، قال الزمخشري : " وهو أدخَلُ في الاستهزاء ، لتضمُّنه معنى التعريض ، فإنه باطلٌ ؛ وذلك لأنَّ اللاًَّم للجنس ، فكأنه قال : أهُو الحق لا الباطلُ ، أو : أو الذي سمَّيتُمُوه الحق " والضمير ، أعني : " هو " عائدٌ إمَّا على العذاب ، أو على الشَّرع ، أو على القرآن ، أو على الوعيد ، أو على أمر السَّاعة .

قوله : " إي وربِّي " " إي " حرف جوابٍ بمعنى " نعم " ولكنَّها تختصُّ بالقسم ، أي : لا تُستعمل إلاَّ في القسم بخلافِ " نعم " .

قال الزمخشري{[18487]} : " وإي : بمعنى نعم في القسم خاصةً ؛ كما كان " هَلْ " بمعنى " قَدْ " في الاستفهام خاصَّة ، وسمِعْتُهُم يقولون في التَّصديق " إيْوَ " فيَصِلُونَه بواو القسم ، ولا ينْطِقُون به وحده " .

قال أبو حيَّان{[18488]} : " لا حُجَّة فيما سمعه لعدمِ الحُجَّة في كلام من سمعهُ ؛ لفسادِ كلامه وكلام من قبله بأزمانٍ كثيرة " .

وقال ابن عطيَّة : " هي لفظةٌ تتقدَّم القسم بمعنى : نعم ، ويجيءُ بعدها حرفُ القسم وقد لا يجيءُ ، تقول : إي وربِّي وإي رَبِّي " .

قوله : { وَمَآ أَنتُمْ بِمُعْجِزِينَ } يجوزُ أن تكون الحجازيَّة وأن تكون التميميَّة ؛ لخفاء النَّصْبِ ، أو الرفع في الخبر .

وهذا عند غير الفارسي ، وأتباعه ، أعني : جواز زيادة الباء في خبر التميمية ، وهذه الجملة تحتمل وجهين :

أحدهما : أن تكون معطوفة على جواب القسم ؛ فيكون قد أجاب القسم بجملتين ؛ إحداهما : مثبتةٌ مؤكَّدةٌ ب " إنَّ واللاَّم ، والأخرى : منفيةٌ مؤكَّدةٌ بزيادة الباءِ .

والثاني : أنَّها مستأنفةٌ ، سيقت للإخبار بعجزهم عن التَّعجيز ، و " مُعْجَِز " من أعجز ، فهو متعدِّ لواحدٍ ، كقوله - تعالى - : { وَلَن نُّعْجِزَهُ هَرَباً } [ الجن : 12 ] فالمفعول هنا محذوفٌ ، أي : بمعجزين الله ، وقال الزجاج : " أي : أنتم ممَّن يُعْجِزُ من يُعذِّبُكم " ، ويجوز أن يكون استعمل استعمال اللازم ؛ لأنَّه قد كثر فيه حذفُ المفعول ، حتَّى قالت العرب : " أعْجَزَ فلانٌ " إذا ذهب في الأرض فلمْ يُقدر عليه ، قال بعض المُفَسِّرين : المعنى : ما أنتم بمُعْجزين ، أي : بفَائتينَ من العذاب ؛ لأنَّ من عجز عن شيءٍ ، فقد فاتهُ .


[18483]:ينظر: المشكل 2/384.
[18484]:ينظر: المحرر الوجيز 3/125.
[18485]:ينظر: البحر المحيط 5/167.
[18486]:ينظر: الكشاف 2/352، المحرر الوجيز 3/125، البحر المحيط 5/167، الدر المصون 4/42.
[18487]:ينظر: الكشاف 2/352.
[18488]:ينظر: البحر المحيط 5/167.