{ 4 }{ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ } هذا حث من الله لعباده على الجهاد في سبيله وتعليم لهم كيف يصنعون وأنه ينبغي [ لهم ] أن يصفوا في الجهاد صفا متراصا متساويا ، من غير خلل يقع{[1070]} في الصفوف ، وتكون صفوفهم على نظام وترتيب به تحصل المساواة بين المجاهدين والتعاضد وإرهاب العدو وتنشيط بعضهم بعضا ، ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا حضر القتال ، صف أصحابه ، ورتبهم في مواقفهم ، بحيث لا يحصل اتكال بعضهم على بعض ، بل تكون كل طائفة منهم مهتمة بمركزها وقائمة بوظيفتها ، وبهذه الطريقة تتم الأعمال ويحصل الكمال .
وبعد أن وبخ - سبحانه - الذين يقولون مالا يفعلون ، أتبع ذلك ببيان من يحبهم الله - تعالى - فقال : { إِنَّ الله يُحِبُّ الذين يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفّاً كَأَنَّهُم بُنْيَانٌ مَّرْصُوصٌ } .
ومبحة الله - تعالى - لشخص ، معناها : رضاه عنه ، وإكرامه له .
والصف يطلق على الأشياء التى تكون منتظمة فى مظهرها ، متناسقة فى أماكنها ، والمرصوص : هو المتلاصق الذى انضم بعضه إلى بعض . يقال : رصصت البناء ، إذا ألزقت بعضه ببعض حتى صار كالقطعة الواحدة .
والمعنى : أن الله - تعالى - يحب الذين يقاتلون فى سبيل إعلاء دينه قتالا شديدا ، حتى لكأنهم فى ثباتهم ، واجتماع كلمتهم ، وصدق يقينهم . . . بنيان قد التصق بعضه ببعض ، فلا يستطيع أحد أن ينفذ من بين صفوفه .
فالمقصود بالآية الكريمة : الثناء على المجاهدين الصادقين ، الذين يثبتون أمام الأعداء وهم يقاتلونهم ، ثباتا لا اضطراب معه ولا تزلزل .
قال الإمام الرازى : أخبر الله - تعالى - أنه يحب من يثبت فى الجهاد ، ويلزم مكانه ، كثبوت البناء المرصوص .
ويجوز أن يكون على أن يستوى أمرهم فى حرب عدوهم ، حتى يكونوا فى اجتماع الكلمة ، وموالاة بعضهم بعضا ، كالبنيان المرصوص .
والآية الثالثة تشير إلى الموضوع المباشر الذي قالوا فيه ما لم يفعلوا . . وهو الجهاد . . وتقرر ما يحبه الله فيه ويرضاه :
( إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفا كأنهم بنيان مرصوص ) . .
فليس هو مجرد القتال . ولكنه هو القتال في سبيله . والقتال في تضامن مع الجماعة المسلمة داخل الصف . والقتال في ثبات وصمود ( صفا كأنهم بنيان مرصوص ) . .
إن القرآن - كما قلنا في مناسبات متعددة في هذا الجزء - كان يبني أمة . كان يبنيها لتقوم على أمانة دينه في الأرض ، ومنهجه في الحياة ، ونظامه في الناس . ولم يكن بد أن يبني نفوسها أفرادا ويبنيها جماعة ، ويبنيها عملا واقعا . . كلها في آن واحد . . فالمسلم لا يبنى فردا إلا في جماعة . ولا يتصور الإسلام قائما إلا في محيط جماعة منظمة ذات ارتباط ، وذات نظام ، وذات هدف جماعي منوط في الوقت ذاته بكل فرد فيها . هو إقامة هذا المنهج الإلهي في الضمير وفي العمل مع إقامته في الأرض . وهو لا يقوم في الأرض إلا في مجتمع يعيش ويتحرك ويعمل وينتج في حدود ذلك المنهج الإلهي .
والإسلام على شدة ما عني بالضمير الفردي وبالتبعة الفردية - ليس دين أفراد منعزلين ، كل واحد منهم يعبد الله في صومعة . . إن هذا لا يحقق الإسلام في ضمير الفرد ذاته ، ولا يحققه بطبيعة الحال في حياته . ولم يجئ الإسلام لينعزل هذه العزلة . إنما جاء ليحكم حياة البشرية ويصرفها . ويهيمن على كل نشاط فردي وجماعي في كل اتجاه . والبشرية لا تعيش أفرادا إنما تعيش جماعات وأمما . والإسلام جاء ليحكمها وهي كذلك . وهو مبني على أساس أن البشر يعيشون هكذا . ومن ثم فإن آدابه وقواعده ونظمه كلها مصوغة على هذا الأساس . وحين يوجه اهتمامه إلى ضمير الفرد فهو يصوغ هذا الضمير على أساس أنه يعيش في جماعة . وهو والجماعة التي يعيشون فيها يتجهون إلى الله ، ويقوم - فيها - على أمانة دينه في الأرض ، ومنهجه في الحياة ، ونظامه في الناس .
ومنذ اليوم الأول للدعوة قام مجتمع إسلامي - أو جماعة مسلمة - ذات قيادة مطاعة هي قيادة رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] وذات التزامات جماعية بين أفرادها ، وذات كيان يميزها عن سائر الجماعات حولها ، وذات آداب تتعلق بضمير الإنسان مراعى فيها - في الوقت ذاته - حياة هذه الجماعة . . وذلك كله قبل أن تقوم الدولة المسلمة في المدينة . بل إن قيام تلك الجماعة كان هو وسيلة إقامة الدولة في المدينة . .
فهذا إخبار منه تعالى بمحبة عباده المؤمنين إذا اصطفوا مواجهين لأعداء الله في حومة الوغى ، يقاتلون في سبيل الله مَن كفر بالله ، لتكون كلمة الله هي العليا ، ودينه هو الظاهر العالي على سائر الأديان .
وقال الإمام أحمد : حدثنا علي بن عبد الله ، حدثنا هُشَيْم ، قال مُجالد أخبرنا عن أبي الودَّاك ، عن أبي سعيد الخدري ، رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ثلاث يضحك الله إليهم : الرجل يقوم من الليل ، والقوم إذا صفوا للصلاة ، والقوم إذا صفوا للقتال " .
ورواه ابن ماجة من حديث مجالد ، عن أبي الوَدَّاك جبر بن نوف ، به{[28775]} .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا أبو نُعَيم الفضل بن دُكَيْن ، حدثنا الأسود - يعني ابن شيبان - حدثني يزيد بن عبد الله بن الشِّخِّير قال : قال مُطرف : كان يبلغني عن أبي ذر حديث كنت أشتهي لقاءه ، فلقيته فقلت : يا أبا ذر ، كان يبلغني عنك حديث ، فكنت أشتهي لقاءك ، فقال : لله أبوك ! فقد لقيت ، فهات . فقلت : كان يبلغني عنك أنك تزعم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حدثكم أن الله يحب ثلاثة ويبغض ثلاثة ؟ قال : أجل ، فلا إخالني أكذب على خليلي صلى الله عليه وسلم . قلت : فمن هؤلاء الثلاثة الذين يحبهم الله ؟ قال : رجل غزا في سبيل الله ، خرج محتسبا مجاهدا فلقي العدو فقتل ، وأنتم تجدونه في كتاب الله المنزل ، ثم قرأ { إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ } وذكر الحديث .
هكذا أورد هذا الحديث من هذا الوجه بهذا السياق ، وبهذا اللفظ ، واختصره ، وقد أخرجه الترمذي والنسائي من حديث شعبة ، عن منصور بن المعتمر ، عن رِبْعي بن حِرَاش ، عن زيد بن ظَبْيان ، عن أبي ذَرّ بأبسط من هذا السياق وأتم{[28776]} وقد أوردناه في موضع آخر ، ولله الحمد .
وعن كعب الأحبار أنه قال : يقول الله تعالى لمحمد صلى الله عليه وسلم : " عبدي المتوكل المختار ليس بفَظّ ولا غَليظ ولا صَخَّاب في الأسواق ، ولا يجزي بالسيئة السيئة ، ولكن يعفو ويغفر مولده بمكة ، وهجرته بطابة ، وملكه بالشام ، وأمته الحمادون يحمَدُون الله على كلّ حال ، وفي كل منزلة ، لهم دَوِيٌّ كدوي النحل في جو السماء بالسحَر ، يُوَضّون أطرافهم ، ويأتزرون على أنصافهم ، صفهم في القتال مثل صفهم في الصلاة ، " ثم قرأ : { إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ } رعاة الشمس ، يصلون الصلاة حيث أدركتهم ، ولو على ظهر دابة " رواه بن أبي حاتم .
وقال سعيد بن جبير في قوله :{ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا } قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يقاتل العدو إلا أن يصافهم ، وهذا تعليم من الله للمؤمنين . قال : وقوله : { كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ } ملتصق بعضه في بعض ، من الصف في القتال . وقال مقاتل بن حيان : ملتصق بعضه إلى بعض . وقال ابن عباس : { كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ } مُثَبّت ، لا يزول ، ملصق بعضه ببعض . وقال قتادة : { كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ } ألم تر إلى صاحب البنيان ، كيف لا يحب أن يختلف بنيانه ؟ فكذلك الله عز وجل [ يحب أن ]{[28777]} لا يختلف أمره ، وإن الله صف المؤمنين في قتالهم وصفهم في صلاتهم ، فعليكم بأمر الله ، فإنه عصمة لمن أخذ به . أورد ذلك كله ابن أبي حاتم .
وقال ابن جرير : حدثني سعيد بن عَمرو السكوني ، حدثنا بَقِيَّة بن الوليد ، عن أبي بكر بن أبي مريم ، عن يحيى بن جابر الطائي ، عن أبي بحرية{[28778]} قال : كانوا يكرهون القتال على الخيل ، ويستحبون القتال على الأرض ، لقول الله عز وجل : { إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ } قال : وكان أبو بحرية{[28779]} يقول : إذا رأيتموني التفتُّ في الصف فَجَثُوا في لَحيي{[28780]} .
القول في تأويل قوله تعالى : { إِنّ اللّهَ يُحِبّ الّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفّاً كَأَنّهُم بُنْيَانٌ مّرْصُوصٌ } .
يقول تعالى ذكره للقائلين : لو علمنا أحبّ الأعمال إلى الله لعملناه حتى نموت : إنّ اللّهَ أيها القوم يُحِبّ الّذِينَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ كأنهم ، يعني في طريقه ودينه الذي دعا إليه صَفّا يعني بذلك أنهم يقاتلون أعداء الله مصطفين .
وقوله : { كأنّهُمْ بُنْيان مَرْصُوصٌ }يقول : يقاتلون في سبيل الله صفا مصطفا ، كأنهم في اصطفافهم هنالك حيطان مبنية قد رصّ ، فأحكم وأتقن ، فلا يغادر منه شيئا ، وكان بعضهم يقول : بني بالرصاص . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : { إنّ اللّهَ يُحِبّ الّذِينَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفّا كأنّهُم بُنْيانٌ مَرْصُوصٌ } ألم تر إلى صاحب البنيان كيف لا يحبّ أن يخلف بنيانه ، كذلك تبارك وتعالى لا يختلف أمره ، وإن الله وصف المؤمنين في قتالهم وصفهم في صلاتهم ، فعليكم بأمر الله فإنه عصمة لمن أخذ به .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد إنّ اللّهَ يُحِبّ الّذِينَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفّا كأنّهُم بُنْيانٌ مَرْصُوصٌ قال : والذين صدّقوا قولهم بأعمالهم هؤلاء قال : وهؤلاء لم يصدّقوا قولهم بالأعمال لما خرج النبيّ صلى الله عليه وسلم نكصوا عنه وتخلّفوا .
وكان بعض أهل العلم يقول : إنما قال الله إنّ اللّهَ يُحِبّ الّذِينَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفّا ليدلّ على أن القتال راجلا أحبّ إليه من القتال فارسا ، لأن الفرسان لا يصطفون ، وإنما تصطف الرجالة .
حدثني سعيد بن عمرو السكوني ، قال : حدثنا بقية بن الوليد ، عن أبي بكر ابن أبي مريم ، عن يحيى بن جابر الطائي ، عن أبي بحرية ، قال : كانوا يكرهون القتال على الخيل ، ويستحبون القتال على الأرض ، لقول الله : إنّ اللّهَ يُحِبّ الّذِينَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفّا كأنّهُم بُنْيانٌ مَرْصُوصٌ قال : وكان أبو بحرية يقول : إذا رأيتموني التفتّ في الصفّ ، فجئوا في لحيي .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله} يعني في طاعته {صفا كأنهم بينان مرصوص} يعني ملتصق بعضه في بعض في الصف. فأخبرهم الله بأحب الأعمال إليه بعد الإيمان فكرهوا القتال، فوعظهم الله وأدبهم، فقال: {لم تقولون ما لا تفعلون}...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره للقائلين: لو علمنا أحبّ الأعمال إلى الله لعملناه حتى نموت:"إنّ اللّهَ أيها القوم يُحِبّ الّذِينَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ "كأنهم، يعني في طريقه ودينه الذي دعا إليه "صَفّا" يعني بذلك أنهم يقاتلون أعداء الله مصطفين.
وقوله: {كأنّهُمْ بُنْيان مَرْصُوصٌ} يقول: يقاتلون في سبيل الله صفا مصطفا، كأنهم في اصطفافهم هنالك حيطان مبنية قد رصّ، فأحكم وأتقن، فلا يغادر منه شيئا، وكان بعضهم يقول: بني بالرصاص...
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفا كأنهم بنيان مرصوص} ليس فيه أن الله لا يحب المبارزة، لأن الجهاد والقتال المبارز أشد، وذلك أنه إذا كان في الصف أعانه على القتال غيره، فكان أمنه على نفسه في الصف أكثر، وأما المبارز، فإنه وحده، ليس له معين، فإن ظفر على صاحبه، وإلا هلك، والخوف عليه في ذلك أشد، فيجب أن تكون المحنة فيه أكثر. ولكنه يجوز أن يكون الله تعالى، علمهم بهذه الآية كيفية القتال ليستعين بعضهم ببعض ولتكون كلمتهم واحدة لأنهم إذا تفرقوا اختلفت آراؤهم، فيخشى عليهم الهزيمة والإدبار، وإذا كانت آراؤهم متفقة وكلمتهم واحدة وشوكتهم واحدة، وذلك في القتال زيادة نصرة الله...
{كأنهم بنيان مرصوص} قال بعضهم: ضرب هذا المثل للثبات يعني: إذا اصطفوا ثبتوا كالبنيان المرصوص الذي تكون ثابتة مستقرة، لا ينتقض بأدنى شيء. ومنهم من ضرب هذا المثل لأن تكون كلمتهم واحدة، ويعين بعضهم بعضا. ويشبه أن يكون للأمرين جميعا، لأنهم إذا ثبتوا أعان بعضهم بعضا، وكانت كلمتهم واحدة، وإذا كانت كلمتهم واحدة كان ذلك أدعى إلى الثبات وأقرب إليه فلذلك قلنا: إنه يجوز للأمرين جميعا، والله أعلم. ثم المحبة تحتمل وجهين: أحدهما: الرضا عن الخلق، والثاني: الثناء عليهم بما يفعلون.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
في قوله: {إِنَّ الله يُحِبُّ الذين يقاتلون فِي سَبِيلِهِ} عقيب ذكر مقت المخلف: دليل على أن المقت قد تعلق بقول الذين وعدوا الثبات في قتال الكفار فلم يفوا...
. {صَفّاً} صافين أنفسهم أو مصفوفين {كَأَنَّهُم} في تراصهم من غير فرجة ولا خلل {بنيان} رص بعضه إلى بعض ورصف، وقيل: يجوز أن يريد استواء نياتهم في الثبات حتى يكونوا في اجتماع الكلمة كالبنيان المرصوص...
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
ثم وكد تعالى الإخبار بمحبته للمقاتلين {صفاً}، ومحبة الله تعالى هي ما يظهر عليهم من نصره وكرامته...
أحكام القرآن لابن العربي 543 هـ :
فِي إحْكَامِ الصُّفُوفِ جَمَالٌ لِلصَّلَاةِ، وَحِكَايَةٌ لِلْمَلَائِكَةِ، وَهَيْئَةٌ لِلْقِتَالِ، وَمَنْفَعَةٌ فِي أَنْ تحْملَ الصُّفُوفُ عَلَى الْعَدُوِّ كَذَلِكَ.
والرص: انضمام الأشياء بعضها إلى بعض...
الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 671 هـ :
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
... {صفاً} أي مصطفين حتى كأنهم في اتحاد المراد على قلب واحد كما كانوا في التساوي في الاصطفاف كالبدن الواحد...
{كأنهم} أي من شدة التراص والمساواة بالصدور والمناكب والثبات في المراكز {بنيان} وزاد في التأكيد بقوله: {مرصوص} أي عظيم الاتصال شديد الاستحكام كأنما رص بالرصاص فلا فرجة فيه ولا خلل، فإن من كان هكذا كان جديراً بأن لا يخالف شيء من أفعاله شيئاً من أقواله، فالرص إشارة إلى اتحاد القلوب والنيات في موالاة الله و معاداة من عاداه المنتج لتسوية الصفوف في الصلاة التي هي محاربة الشيطان، والحرب التي هي مقارعة حزبه أولى الطغيان، والأفعال التي هي ثمرات الأبدان.
تفسير القرآن للمراغي 1371 هـ :
{إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفا كأنهم بنيان مرصوص} أي إن الله يحب الذين يصفون أنفسهم حين القتال ولا يكون بينهم فرَج فيه كأنهم بنيان متلاحم الأجزاء، كأنه قطعة واحدة قد صبت صبا، وعلى هذا الطريقة تسير الجيوش في العصر الحاضر. وسر هذا: أنهم إذا كانوا كذلك زادت قوتهم المعنوية، وتنافسوا في الطعان والنزال، والكرّ والفرّ، إلى ما في ذلك من إدخال الروع والفزع في نفوس العدو، إلى ما لحسن النظام من إمضاء العمل بالدقة والإحكام، ومن ثم أمرنا بتسوية الصفوف في الصلاة، وألا يجلس المصلي في صف خلفي إلا إذا اكتمل ما في الصف الأمامي...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
(إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفا كأنهم بنيان مرصوص).. فليس هو مجرد القتال. ولكنه هو القتال في سبيله. والقتال في تضامن مع الجماعة المسلمة داخل الصف. والقتال في ثبات وصمود (صفا كأنهم بنيان مرصوص)...
. فهو تكليف فردي في ذاته، ولكنه فردي في صورة جماعية. في جماعة ذات...
فلا بد لجنود الإسلام أن يواجهوا أعداءه صفا. صفا سويا منتظما، وصفا متينا راسخا ذلك إلى أن طبيعة هذا الدين حين يغلب ويهيمن أن يهيمن على جماعة، وأن ينشئ مجتمعا متماسكا.. متناسقا. فصورة الفرد المنعزل الذي يعبد وحده، ويجاهد وحده، ويعيش وحده، صورة بعيدة عن طبيعة هذا الدين، وعن مقتضياته في حالة الجهاد، وفي حالة الهيمنة بعد ذلك على الحياة. وهذه الصورة التي يحبها الله للمؤمنين ترسم لهم طبيعة دينهم، وتوضح لهم معالم الطريق، وتكشف لهم عن طبيعة التضامن الوثيق الذي يرسمه التعبير القرآني المبدع: (صفا كأنهم بنيان مرصوص).. بنيان تتعاون لبناته وتتضامن وتتماسك، وتؤدي كل لبنة دورها، وتسد ثغرتها، لأن البنيان كله ينهار أذا تخلت منه لبنة عن مكانها. تقدمت أو تأخرت سواء. وإذا تخلت منه لبنة عن أن تمسك بأختها تحتها أو فوقها أو على جانبيها سواء..
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
والصف: عَدد من أشياء متجانبة منتظمة الأماكن، فيطلق على صف المصلين، وصفِّ الملائكة، وصف الجيش في ميدان القتال بالجيش إذا حضر القتال كان صفّاً من رَجَّالة أو فرسان ثم يَقع تقدم بعضهم إلى بعض فرادى أو زرافات. فالصفّ هنا: كناية عن الانتظام والمقاتلة عن تدبّر. وأما حركات القتال فتعرض بحسب مصالح الحرب في اجتماع وتفرق وكرّ وفّر. وانتصب {صفاً} على الحال بتأويل: صافّين، أو مصفوفين.
أضواء البيان في تفسير القرآن بالقرآن للشنقيطي 1393 هـ :
والواقع أن المراد بالتشبيه هنا هو وجه الشبه، ولا يصح أن يكون هنا هو شكل البناء لا في تلاحمه بالرصاص، وعدم انفكاكه ولا تساويه وتراصه، لأن ذلك يتنافى وطبيعة الكر والفر في أرض المعركة، ولكل وقعة نظامها حسب موقعها. والذي يظهر والله تعالى أعلم: أن وجه الشبه المراد هنا هو عموم القوة والوحدة. وقد ذكر صاحب الجمان في تشبيهات القرآن أجزاء الجيش وتقسيماته بصفة عامة من قلب وميمنة وميسرة وأجنحة، ونحو ذلك فيكون وجه الشبه هو الارتباط المعنوي والشعور بالمسؤولية والإحساس بالواجب كما فعل الحباب بن المنذر في غزوة بدر حين نظر إلى منزل المسلمين من الموقع فلم يرقه، وسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأجابه فأبدى خطة جديدة فأخذ بها صلى الله عليه وسلم وغيَّر الموقع من مكان المعركة. قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُواْ وَاذْكُرُواْ اللَّهَ كَثِيراً لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ وَأَطِيعُواْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُواْ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} [الأنفال: 45 -46]. فذكر تعالى من عوامل النصر: الثبات عند اللقاء، وذكر الله والطاعة، والامتثال، والحفاظ عليها بعدم التنازع والصبر عند الحملة والمجالدة، فتكون حملة رجل واحد، وكلها داخلة تحت معنى البنيان المرصوص في قوته وحمايته وثباته، وقد عاب تعالى على اليهود تشتت قلوبهم عند القتال في قوله تعالى: {تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى} [الحشر: 14]، وامتدح المؤمنين في قتالهم بوحدتهم كأنهم بنيان مرصوص.
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
وإذا كان القتال في سبيل الله...
فلا بد من أن يتضافر الجميع على نجاح المعركة وسدّ كل الثغرات فيها، وتنظيم الوضع القتالي بالطريقة التي يأخذ فيها كل شخصٍ موقعه بحيث يتكامل الجميع في أدوارهم ومواقعهم ومواقفهم، فلا يتخلى أحد عن مكانه في داخل الخطة...
إنّها الصورة الحية للبناء الاجتماعي الذي يريد الإسلام إقامته في مجتمع الحرب، كما يريد إقامته في مجتمع السلم، انطلاقاً من أن تحديات السلم في تركيز الوضع الإسلامي في الداخل في التخطيط الدقيق الشامل للبناء الاجتماعي والاقتصادي والروحي والثقافي، قد تفوق تحديات الحرب، ما يفرض بناء القوة الذاتية بشكلٍ قوي.
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
تطرح الآية اللاحقة مسألة مهمّة للغاية في التشريع الإسلامي، وهي موضوع الجهاد في سبيل الله، حيث يقول تعالى: {إنّ الله يحبّ الذين يقاتلون في سبيله صفّاً كأنّهم بنيان مرصوص}. ونلاحظ هنا أنّ التأكيد ليس على القتال فحسب، بل على أن يكون «في سبيله» تعالى وحده، ويتجسّد فيه كذلك الاتّحاد والانسجام التامّ والتجانس والوحدة، كالبنيان المرصوص. «صف» في الأصل لها معنى مصدري بمعنى (جعل شيء ما في خطّ مستو) إلاّ أنّها هنا لها معنى (اسم فاعل). «مرصوص» من مادّة (رصاص) بمعنى معدن الرصاص، ولأنّ هذه المادّة توضع بعد تذويبها بين طبقات البناء من أجل استحكامه وجعله قويّاً ومتيناً للغاية، لذا أطلقت هذه الكلمة هنا على كلّ أمر قوي ومحكم. والمقصود هنا أن يكون وقوف وثبات المجاهدين أمام العدو قويّاً راسخاً تتجسّد فيه وحدة القلوب والأرواح والعزائم الحديدية والتصميم القوي، بصورة تعكس أنّهم صفّ متراصّ ليس فيه تصدّع أو تخلخل...
ـ ضرورة وحدة الصفوف: إنّ من العوامل المهمّة والمؤثّرة في تحقيق النصر عامل الانسجام ووحدة الصفوف أمام الأعداء في ميادين القتال، وهذا المبدأ لا يجدر بنا الالتزام به في الحرب العسكرية فحسب، بل علينا تجسيده في الحروب الاقتصادية والسياسية.. وإلاّ فسوف لن نحقّق شيئاً. إنّ التشبيه القرآني للعدو بأنّه سيل عارم ومدمّر لا يسيطر عليه إلاّ من خلال سدّ حديدي محكم، تشبيه في غاية الروعة والجمال، والتعبير بأن يكون المؤمنون كـ (البنيان المرصوص) أروع تعبير جاء في هذا الصدد، وممّا لا شكّ فيه أنّ لكلّ جزء في السدّ أو البناء العظيم، دورا معيّنا في مواجهة السيل، وهذا الدور مهمّ ومؤثّر على جميع الأجزاء، وفي حالة قوّته وتماسكه وعدم وجود تخلخل أو تشقّق أو ثغرات فيه، يصعب عندئذ نفوذ العدوّ منه...
وإذا كان البارئ عزّ وجلّ يعلن حبّه للمجاهدين المتراصّين الذين يشكّلون وحدة متماسكة، فإنّه سبحانه في نفس الوقت يعلن سخطه وغضبه على الجموع المسلمة إذا كانت متمزّقة ومشتّتة...
ـ الأقوال المجرّدة عن العمل: يترجم اللسان في الغالب ما يكنّه القلب وما تضمره الروح، وإذا أصبح اللسان في مسار بعيد عن تصوير خلجات القلب وإرادته. فإنّ ذلك دليل على حالة النفاق، والمنافق تبدو عليه علامات الاعتلال في الفكر والروح. إنّ من أعظم الابتلاءات التي تبتلى بها المجتمعات الإنسانية هو تزعزع الثقة بين صفوفها وعدم الاطمئنان فيما بينها، وأمارة ذلك هي الأقوال البعيدة عن الالتزام والادّعاءات الفارغة من المحتوى العملي، وأداة ذلك هم الأشخاص الذين يقولون ما لا يفعلون...