اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلَّذِينَ يُقَٰتِلُونَ فِي سَبِيلِهِۦ صَفّٗا كَأَنَّهُم بُنۡيَٰنٞ مَّرۡصُوصٞ} (4)

قوله تعالى :{ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ ( 4 ) } قرأ{[56398]} زيد بن علي : «يُقَاتَلُون » - بفتح التاء - على ما لم يسم فاعله .

وقرئ{[56399]} : «يُقَتَّلُونَ » بالتشديد .

و«صفًّا » : نصب على الحال ، أي : صافين أو مصفوفين{[56400]} .

قل القرطبي{[56401]} : «والمفعول مضمر ، أي : يصفون أنفسهم صفًّا » . وقوله : «كأنَّهُمْ » يجوز أن يكون حالاً ثانية من فاعل : «يقاتلون » ، وأن يكون حالاً من الضَّمير في «صفًّا » ، فتكون حالاً متداخلة قاله الزمخشري{[56402]} .

وأن يكون نعتاً ل «صفًّا » ، قاله الحوفي .

وعاد الضمير على «صفًّا » ، فيكون جمعاً في المعنى{[56403]} ، كقوله : { وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ المؤمنين اقتتلوا }[ الحجرات : 9 ] .

فصل :

فإن قيل : وجه تعلق هذه الآية بما قبلها ، أن قوله تعالى : { كَبُرَ مَقْتاً عِندَ الله } في ذم المخالفين في القتال ، وهم الذين وعدوا بالقتال ولم يقاتلوا ، وهذه الآية مدح [ للموافقين ]{[56404]}في القتال ، واعلم أن المحبة على وجهين{[56405]} .

أحدهما : الرضا عن الخلق .

وثانيهما : الثَّناء عليهم .

والمرصوص ، قيل : المتلائم الأجزاء المستويها .

وقيل : المعقود بالرصاص . قاله الفراء .

وقيل : هو من التضام من تراصّ الأسنان .

وقال الراعي : [ الرجز ]

4763 - مَا لَقِيَ البِيضُ من الحُرْقًوصِ*** يَفْتَحُ بَابَ المغْلَقِ المَرْصُوصِ{[56406]}

الحرقوص : دويبة تولع بالنساء الأبكار{[56407]} .

وقال القرطبي{[56408]} : والتَّراصُّ : التلاصق ، ومنه قوله : وتراصوا في الصف ، ومعنى الآية : إن الله - تعالى - يحب من يثبت في الجهاد ، وفي سبيله ، ويلزم مكانه ، كثبوت البناء .

وقال ابن عباس رضي الله عنهما : يوضع الحجر على الحجر ، ثم يرص بأحجار صغار ، ثم يوضع اللبن عليه ، فيسمونه أهل مكة المرصوصُ{[56409]} .

قال ابنُ الخطيب{[56410]} : ويجوز أن يكون المعنى على أن يكون ثباتهم في حرب عدوهم حتى يكونوا في اجتماع الكلمة ، وموالاة بعضهم بعضاً ، كالبنيان [ المرصوص ]{[56411]} . وقال سعيدُ بن جبيرٍ : هذا تعليم من الله للمؤمنين ، كيف يكونون عند قتال عدوهم .

فصل في أن قتال الراجل أفضل من الفارس :

قال القرطبي{[56412]} : استدل بهذه الآية بعضهم على أن قتال الراجل أفضل من قتال الفارس ؛ لأن الفرسان لا يصطفون على هذه الصفة .

قال المهدويُّ : وذلك غير مستقيم لما جاء في فضل الفارس من الأجر والغنيمة ، ولا يخرج الفرسان من معنى الآية ؛ لأن معناه الثبات .

فصل في الخروج من الصف :

لا يجوز الخروج من الصفِّ إلا لحاجة تعرض للإنسان ، أو في رسالة يرسلها الإمام ، أو منفعة تظهر في المقام ك «فرصة » تنتهز ولا خلاف فيها .

وفي الخروج عن الصف للمبارزة [ خلاف ]{[56413]} .

فقيل : إنه لا بأس بذلك إرهاباً للعدو ، وطلباً للشهادة ، وتحريضاً على القتال .

وقيل : لا يبرز أحد طلباً لذلك ؛ لأن فيه رياء وخروجاً إلى ما نهى الله عنه من لقاء العدو ، وإنما تكون المبارزة إذا طلبها الكافر ، كما كانت في حروب النبي صلى الله عليه وسلم يوم «بدر » ، وفي غزوة «خيبر » ، وعليه درج السلف . وقد تقدم الكلام في ذلك في سورة «البقرة » عند قوله : { وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التهلكة }[ الآية : 195 ] .


[56398]:ينظر: الكشاف 4/523، والبحر المحيط 8/259، والدر المصون 6/310.
[56399]:ينظر: السابق.
[56400]:ينظر: الدر المصون 6/310.
[56401]:الجامع لأحكام القرآن 18/53.
[56402]:ينظر: الكشاف 4/523.
[56403]:ينظر: الدر المصون 6/310.
[56404]:في أ: المقاتلين.
[56405]:ينظر: الفخر الرازي 29/271.
[56406]:ونسب البيتان لأعرابية كما في اللسان، قال: قالت أعرابية: ما لقي البيض من الحرقوص من مارد لص من اللصوص يدخل تحت الغلق المرصوص بمهر لا غال ولا رخيص ينظر اللسان (حرقص)، والبحر 8/257، والدر المصون 6/310.
[56407]:ينظر: الدر المصون6/310.
[56408]:الجامع لأحكام القرآن18/54.
[56409]:ذكره الرازي في "تفسيره" (29/270) عن ابن عباس.
[56410]:التفسير الكبير 29/271.
[56411]:سقط من أ.
[56412]:الجامع لأحكام القرآن 18/54.
[56413]:سقط من أ.