نزلت بعد سورة المؤمنون ، وتضمنت الحديث عن تنزيل الكتاب ومهمة الرسول صلى الله عليه وسلم وخلق السماوات والأرض ، وشأنه تعالى في التدبير ، وأطوار خلق الإنسان ، ومقالة منكري البعث والرد عليهم ، وحال المجرمين يوم الحساب ، وموقف المؤمنين عند التذكير بالآيات ، وبيان الجزاء للمؤمنين والفاسقين ، وإنزال التوراة على موسى عليه الصلاة والسلام ومعاملة الله تعالى لبني إسرائيل ، وتوجيه كفار مكة إلى الاعتبار بهلاك من سبقهم ، ولفت أنظارهم ، ليؤمنوا بالبعث ، وسخريتهم من يوم الفتح ، والرد عليهم .
وأهم أهداف هذه السورة : لفت الأنظار إلى الآيات الكونية ، والحديث عن البعث ، والرد على منكريه ، وتوجيه الكفار إلى الاعتبار بهلاك من سبقهم .
1- ا . ل . م : حروف صيغ منها القرآن ، كما صيغ منها كلامكم ، فإذا عجزتم عن الإتيان بمثله كان عجزكم دليلا على أنه من عند الله ، ولم يقله بشر .
1- سورة " السجدة " هي السورة الثانية والثلاثون في ترتيب المصحف ، وكان نزولها بعد سورة " المؤمنون " ، أي : أنها من أواخر السور المكية .
قال الآلوسي ما ملخصه : وتسمى –أيضاً- بسورة " المضاجع " . وهي مكية ، كما روي عن ابن عباس .
وروي عنه أنها مكية سوى ثلاث آيات ، تبدأ بقوله –تعالى- : [ أفمن كان مؤمناً كمن كان فاسقاً . . . ] وهي تسع وعشرون آية في البصري . وثلاثون آية في المصاحف الباقية . . . " ( {[1]} ) .
ومن فضائل هذه السورة ما رواه الشيخان عن أبي هريرة قال : كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يقرأ في الفجر يوم الجمعة [ الم . تنزيل . . . ] السجدة . و[ هل أتى على الإنسان . . . ] .
وروى الإمام أحمد عن جابر قال : " كان النبي –صلى الله عليه وسلم- لا ينام حتى يقرأ هذه السورة ، وسورة تبارك " ( {[2]} ) .
2- وتبدأ هذه السورة الكريمة ، بالثناء على القرآن الكريم ، وببيان أنه من عند الله –تعالى- ، وبالرد على الذين زعموا أن الرسول –صلى الله عليه وسلم- قد افتراه من عند نفسه . . .
ثم تسوق ألواناً من نعم الله –تعالى- على عباده ، ومن مظاهر قدرته ، وبديع خلقه ، وشمول إرادته ، وإحسانه لكل شيء خلقه [ ذلك عالم الغيب والشهادة العزيز الرحيم . الذي أحسن كل شيء خلقه ، وبدأ خلق الإنسان من طين ] .
3- ثم تذكر السورة الكريمة بعد ذلك جانباً من شبهات المشركين حول البعث والحساب ، وترد عليها بما يبطلها ، وتصور أحوالهم عندما يقفون أمام خالقهم للحساب تصويراً مؤثراً مرعباً قال –تعالى- : [ ولو ترى إذ المجرمون ناكسو رءوسهم عند ربهم ، ربنا أبصرنا وسمعنا ، فارجعنا نعمل صالحاً إنا موقنون ] .
4- وبعد أن تذكر السورة الكريمة ما أعده الله –تعالى- للمؤمنين من ثواب لا تعلمه نفس من الأنفس ، وما أعده للكافرين من عقاب . . بعد كل ذلك تبين أن عدالته –تعالى- قد اقتضت عدم المساواة بين الأخيار والأشرار وإنما يجازى كل إنسان على حسب عمله .
قال –تعالى- : [ أفمن كان مؤمناً كمن كان فاسقاً ، لا يستوون ] .
5- ثم تشير السورة الكريمة بعد ذلك إلى ما أعطاه الله –تعالى- لنبيه موسى –عليه السلام- من نعم ، وما منحه للصالحين من قومه من منن ، لكي يتأسى بهم المؤمنون [ ولقد آتينا موسى الكتاب فلا تكن في مرية من لقائه ، وجعلناه هدى لنبي إسرائيل . وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا ، وكانوا بآياتنا يوقنون ] .
6- ثم حضت السورة الكريمة المشركين على التدبر والتفكر في آيات الله –تعالى- ، ونهتهم عن الجحود والعناد ، وحكت جانباً من سفاهاتهم ، وأمرت النبي صلى الله عليه وسلم بأن يرد عليهم ، وأن يمضي في طريقه دون أن يعبر سفاهاتهم اهتماماً .
قال –تعالى- : [ ويقولون متى هذا الفتح إن كنتم صادقين . قل يوم الفتح لا ينفع الذين كفروا إيمانهم ولا هم ينظرون . فأعرض عنهم وانتظر إنهم منتظرون ] .
7- وبعد فهذا عرض إجمالي لسورة " السجدة " ومنه نرى أنها زاخرة بالأدلة على وحدانية الله –تعالى- وقدرته ، وعلى أن القرآن حق ، والبعث حق ، والحساب حق ، والجزاء حق . .
سورة السجدة من السور التى افتتحت ببعض حروف التهجى ، وقد سبق أن ذكرنا آراء العلماء فى لك بشئ من التفصيل عند تفسيرنا لسورة : البقرة ، وآل عمران ، والأعراف . .
وقلنا : ما ملخصه : إن أقرب الأقوال إلى الصواب ، أن هذه الحروف المقطعة ، قد وردت فى افتتاح بعض السور ، على سبيل الإِيقاظ والتنبيه إلى إعجاز القرآن .
فكأن الله - تعالى - يقول لأولئك الكافرين المعارضين فى أن القرآن من عند الله : هاكم القرآن ترونه مؤلفاً من كلام هو من جنس ما تؤلفون منه كلامكم ومنظوماً من حروف ، وهى من جنس الحروف الهجائية التى تنظمون منها حروفكم .
فإن كنتم فى شك من كونه منزلاً من عند الله فهاتوا مثله ، وادعوا من شئتم من الخلق لكى يعاونكم فى ذلك ، أو هاتوا عشر سور من مثله ، أو سورة من مثله . .
ومع كل هذا التساهل فى التحدى . فقد عجزوا وانقلبوا خاسرين ، وثبت بذلك أن القرآن من عند الله - تعالى - وحده .
سورة السجدة مكية وآياتها ثلاثون
هذه السورة المكية نموذج آخر من نماذج الخطاب القرآني للقلب البشري بالعقيدة الضخمة التي جاء القرآن ليوقظها في الفطر ، ويركزها في القلوب : عقيدة الدينونة لله الأحد الفرد الصمد ، خالق الكون والناس ، ومدبر السماوات والأرض وما بينهما وما فيهما من خلائق لا يعلمها إلا الله . والتصديق برسالة محمد [ صلى الله عليه وسلم ] الموحى إليه بهذا القرآن لهداية البشر إلى الله . والاعتقاد بالبعث والقيامة والحساب والجزاء .
هذه هي القضية التي تعالجها السورة ؛ وهي القضية التي تعالجها سائر السور المكية . كل منها تعالجها بأسلوب خاص ، ومؤثرات خاصة ؛ تلتقي كلها في أنها تخاطب القلب البشري خطاب العليم الخبير ، المطلع على أسرار هذه القلوب وخفاياها ، ومنحنياتها ودروبها ، العارف بطبيعتها وتكوينها ، وما يستكن فيها من مشاعر ، وما يعتريها من تأثرات واستجابات في جميع الأحوال والظروف .
وسورة السجدة تعالج تلك القضية بأسلوب وبطريقة غير أسلوب وطريقة سورة لقمان السابقة . فهي تعرضها في آياتها الأولى ؛ ثم تمضي بقيتها تقدم مؤثرات موقظة للقلب ، منيرة للروح ، مثيرة للتأمل والتدبر ؛ كما تقدم أدلة وبراهين على تلك القضية معروضة في صفحة الكون ومشاهده ؛ وفي نشأة الإنسان وأطواره ؛ وفي مشاهد من اليوم الآخر حافلة بالحياة والحركة ؛ وفي مصارع الغابرين وآثارهم الناطقة بالعبرة لمن يسمع لها ويتدبر منطقها !
كذلك ترسم السورة صورا للنفوس المؤمنة في خشوعها وتطلعها إلى ربها . وللنفوس الجاحدة في عنادها ولجاجها ؛ وتعرض صورا للجزاء الذي يتلقاه هؤلاء وهؤلاء ، وكأنها واقع مشهود حاضر للعيان ، يشهده كل قارئ لهذا القرآن .
وفي كل هذه المعارض والمشاهد تواجه القلب البشري بما يوقظه ويحركه ويقوده إلى التأمل والتدبر مرة ، وإلى الخوف والخشية مرة ، وإلى التطلع والرجاء مرة . وتطالعه تارة بالتحذير والتهديد ، وتارة بالإطماع ، وتارة بالإقناع . . ثم تدعه في النهاية تحت هذه المؤثرات وأمام تلك البراهين . تدعه لنفسه يختار طريقه ، وينتظر مصيره على علم وعلى هدى وعلى نور .
ويمضي سياق السورة في عرض تلك القضية في أربعة مقاطع أو خمسة متلاحقة متصلة : يبدأ بالأحرف المقطعة ( ألف . لام . ميم )منبها بها إلى تنزيل الكتاب من جنس هذه الأحرف . ونفي الريب عن تنزيله والوحي به : ( من رب العالمين ) . . ويسأل سؤال استنكار عما إذا كانوا يقولون : افتراه . ويؤكد أنه الحق من ربه لينذر قومه ( لعلهم يهتدون ) . .
وهذه هي القضية الأولى من قضايا العقيدة : قضية الوحي وصدق الرسول [ صلى الله عليه وسلم ] في التبليغ عن رب العالمين .
ثم يعرض قضية الألوهية وصفتها في صفحة الوجود : في خلق السماوات والأرض وما بينهما ، وفي الهيمنة على الكون وتدبير الأمر في السماوات والأرض ، ورفع الأمر إليه في اليوم الآخر . . ثم في نشأة الإنسان وأطواره وما وهبه الله من السمع والبصر والإدراك . والناس بعد ذلك قليلا ما يشكرون .
وهذه هي القضية الثانية : قضية الألوهية وصفتها : صفة الخلق ، وصفة التدبير ، وصفة الإحسان ، وصفة الإنعام ، وصفة العلم . وصفة الرحمة . وكلها مذكورة في سياق آيات الخلق والتكوين .
ثم يعرض قضية البعث ، وشكهم فيه بعد تفرق ذراتهم في التراب : وقالوا : أئذا ضللنا في الأرض أئنا لفي خلق جديد ? ويرد على هذا الشك بصيغة الجزم واليقين .
وهذه هي القضية الثالثة : قضية البعث والمصير .
ومن ثم يعرض مشهدا من مشاهد القيامة : إذ المجرمون ناكسوا رؤوسهم عند ربهم يعلنون يقينهم بالآخرة ويقينهم بالحق الذي جاءتهم به الدعوة . ويقولون الكلمة التي لو قالوها في الدنيا لفتحت لهم أبواب الجنة ؛ ولكنها في موقفهم ذاك لا تجدي شيئا ولا تفيد . لعل هذا المشهد أن يوقظهم - قبل فوات الأوان - لقول الكلمة التي سيقولونها في الموقف العصيب . فيقولوها الآن في وقتها المطلوب .
وإلى جوار هذا المشهد البائس المكروب يعرض مشهد المؤمنين في هذه الأرض : إذا ذكروا بآيات ربهم . . ( خروا سجدا وسبحوا بحمد ربهم وهم لا يستكبرون . تتجافى جنوبهم عن المضاجع يدعون ربهم خوفا وطمعا ومما رزقناهم ينفقون ) . . وهي صورة موحية شفيفة ترف حولها القلوب . يعرض إلى جوارها ما أعده الله لهذه النفوس الخاشعة الخائفة الطامعة من نعيم يعلو على تصور البشر الفانين : ( فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين جزاء بما كانوا يعملون ) . . ويعقب عليه بمشهد سريع لمصائر المؤمنين والفاسقين في جنة المأوى وفي نار الجحيم وبتهديد المجرمين بالانتقام منهم في الأرض أيضا قبل أن يلاقوا مصيرهم الأليم .
ثم ترد إشارة إلى موسى - عليه السلام - ووحدة رسالته ورسالة محمد [ صلى الله عليه وسلم ] والمهتدين من قومه ، وصبرهم على الدعوة ، وجزائهم على هذا الصبر بأن جعلهم الله أئمة . وفي هذه الإشارة إيحاء بالصبر على ما يلقاه الدعاة إلى الإسلام من كيد ومن تكذيب .
وتعقب هذه الإشارة جولة في مصارع الغابرين من القرون ، وهم يمشون في مساكنهم غافلين . . ثم جولة في الأرض الميتة ينزل عليها الماء بالحياة والنماء ؛ فيتقابل مشهد البلى ومشهد الحياة في سطور .
وتختم السورة بحكاية قولهم : ( متى هذا الفتح ? )وهم يتساءلون في شك عن يوم الفتح الذي يتحقق فيه الوعيد . والجواب بالتخويف من هذا اليوم والتهديد . وتوجيه الرسول [ صلى الله عليه وسلم ] ليعرض عنهم ويدعهم لمصيرهم المحتوم .
ألم . تنزيل الكتاب لا ريب فيه من رب العالمين . أم يقولون : افتراه ? بل هو الحق من ربك لتنذر قوما ما أتاهم من نذير من قبلك لعلهم يهتدون . .
ألف . لام . ميم . . هذه الأحرف التي يعرفها العرب المخاطبون بهذا الكتاب ؛ ويعرفون ما يملكون أن يصوغوا منها ومن نظائرها من كلام ، ويدركون الفارق الهائل بين ما يملكون أن يصوغوه منها وبين هذا القرآن ؛ وهو فارق يدركه كل خبير بالقول ، وكل من يمارس التعبير باللفظ عن المعاني والأفكار . كما يدرك أن في النصوص القرآنية قوة خفية ، وعنصرا مستكنا ، يجعل لها سلطانا وإيقاعا في القلب والحس ليسا لسائر القول المؤلف من أحرف اللغة ، مما يقوله البشر في جميع الأعصار . وهي ظاهرة ملحوظة لا سبيل إلى الجدال فيها ، لأن السامع يدركها ، ويميزها ، ويهتز لها ، من بين سائر القول ، ولو لم يعلم سلفا أن هذا قرآن ! والتجارب الكثيرة تؤكد هذه الظاهرة في شتى أوساط الناس .
والفارق بين القرآن وما يصوغه البشر من هذه الحروف من كلام ، هو كالفارق بين صنعة الله وصنعة البشر في سائر الأشياء . صنعة الله واضحة مميزة ، لا تبلغ إليها صنعة البشر في أصغر الأشياء . وإن توزيع الألوان في زهرة واحدة ليبدو معجزة لأمهر الرسامين في جميع العصور . . وكذلك صنع الله في القرآن وصنع البشر فيما يصوغون من هذه الحروف من كلام !
ألف . لام . ميم ، تنزيل الكتاب - لا ريب فيه - من رب العالمين . . قضية مقطوع بها ، لا سبيل إلى الشك فيها . قضية تنزيل الكتاب من رب العالمين . . ويعجل السياق بنفي الريب في منتصف الآية ، بين المبتدأ فيها والخبر ، لأن هذا هو صلب القضية ، والنقطة المقصودة في النص . والتمهيد لها بذكر هذه الأحرف المقطعة يضع المرتابين الشاكين وجها لوجه أمام واقع الأمر ، الذي لا سبيل إلى الجدل فيه . فهذا الكتاب مصوغ من جنس هذه الأحرف التي يعرفون ؛ ونمطه هو هذا النمط المعجز الذي لا يمارون في إعجازه ، أمام التجربة الواقعة ، وأمام موازين القول التي يقر بها الجميع .
إن كل آية وكل سورة تنبض بالعنصر المستكن العجيب المعجز في هذا القرآن ؛ وتشي بالقوة الخفية المودعة في هذا الكلام . وإن الكيان الإنساني ليهتز ويرتجف ويتزايل ولا يملك التماسك أمام هذا القرآن ، كلما تفتح القلب ، وصفا الحس ، وارتفع الإدراك ، وارتفعت حساسية التلقي والاستجابة . وإن هذه الظاهرة لتزداد وضوحا كلما اتسعت ثقافة الإنسان ، ومعرفته بهذا الكون وما فيه ومن فيه . فليست هي مجرد وهلة تأثيرية وجدانية غامضة . فهي متحققة حين يخاطب القرآن الفطرة خطابا مباشرا . وهي متحققة كذلك حين يخاطب القلب المجرب ، والعقل المثقف ، والذهن الحافل بالعلم والمعلومات . وإن نصوصه ليتسع مدى مدلولاتها ومفهوماتها وإيقاعاتها على السواء كلما ارتفعت درجة العلم والثقافة والمعرفة ، ما دامت الفطرة مستقيمة لم تنحرف ولم تطمس عليها الأهواء مما يجزم بأن هذا القرآن صنعة غير بشرية على وجه اليقين ، وأنه تنزيل الكتاب لا ريب فيه من رب العالمين .
القول في تأويل قوله تعالى : { الَمَ * تَنزِيلُ الْكِتَابِ لاَ رَيْبَ فِيهِ مِن رّبّ الْعَالَمِينَ * أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ الْحَقّ مِن رّبّكَ لِتُنذِرَ قَوْماً مّآ أَتَاهُم مّن نّذِيرٍ مّن قَبْلِكَ لَعَلّهُمْ يَهْتَدُونَ } .
قال أبو حعفر : قد مضى البيان عن تأويل قوله الم بما فيه الكفاية . وقوله : تَنزِيلُ الكِتابِ لا رَيْبَ فِيهِ يقول تعالى ذكره : تنزيل الكتاب الذي نزّل على محمد صلى الله عليه وسلم ، لا شكّ فيه من ربّ العالمين : يقول : من ربّ الثقلين : الجنّ ، والإنس . كما :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : الم تَنْزِيلُ الكِتابِ لا رَيْبَ فِيهِ لا شكّ فيه . وإنما معنى الكلام : أن هذا القرآن الذي أُنزل على محمد لا شكّ فيه أنه من عند الله ، وليس بشعر ولا سجع كاهن ، ولا هو مما تخرّصه محمد صلى الله عليه وسلم ، وإنما كذّب جلّ ثناؤه بذلك قول الذين قالُوا أساطِيرُ الأوّلِينَ اكْتَتَبَها فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وأصِيلاً وقول الذين قالوا : إنْ هَذَا إلاّ إفْكٌ افْتَرَاهُ وأعانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ .
أشهر أسماء هذه السورة هو{ سورة السجدة } ، وهو أخصر أسمائها ، وهو المكتوب في السطر المجعول لاسم السورة من المصاحف المتداولة . وبهذا الاسم ترجم لها الترمذي في جامعه وذلك بإضافة كلمة { سورة } إلى كلمة { السجدة } . ولا بد من تقدير كلمة { ألم } محذوفة للاختصار إذ لا يكفي مجرد إضافة سورة إلى السجدة في تعريف هذه السورة ، فإنه لا تكون سجدة من سجود القرآن إلا في سورة من السور .
وتسمى أيضا { ألم تنزيل } ؛ روى الترمذي عن جابر بن عبد الله إن النبي صلى الله عليه وسلم كان لا ينام حتى يقرأ { ألم تنزيل } و{ تبارك الذي بيده الملك } .
وتسمى { ألم تنزيل السجدة } . وفي صحيح البخاري عن أبي هريرة كان النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ يوم الجمعة في صلاة الفجر { ألم تنزيل السجدة } و{ هل أتى على الإنسان } . قال شارحو صحيح البخاري ضبط اللام من كلمة { تنزيل } بضمة على الحكاية ، وأما لفظ { السجدة } في هذا الحديث فقال ابن حجر هو بالنصب : وقال العيني والقسطلاني بالنصب على أنه عطف بيان يعني أنه بيان للفظ { ألم تنزيل } ، وهذا بعيد لأن لفظ السجدة ليس اسما لهذه السورة إلا بإضافة { سورة } إلى { السجدة } ، فالوجه أن يكون لفظ { السجدة } في كلام أبي هريرة مجرورا بإضافة مجموع { ألم تنزيل } إلى لفظ { السجدة } ، وسأبين كيفية هذه الإضافة .
وعنونها البخاري في صحيحه { سورة تنزيل السجدة } . ويجب أن يكون { تنزيل } مضمونا على حكاية لفظ القرآن ، فتميزت هذه السورة بوقوع سجدة تلاوة فيها من بين السور المفتتحة ب{ ألم } ، فلذلك فمن سماها { سورة السجدة } عنى تقدير مضاف أي سورة { ألم السجدة } .
ومن سماها { تنزيل السجدة } فهو على تقدير { ألم تنزيل السجدة } بجعل { ألم تنزيل } اسما مركبا ثم أضافته إلى السجدة ، أي ذات السجدة ، لزيادة التمييز والإيضاح ، وإلا فإن ذكر كلمة { تنزيل } كاف في تمييزها عما عداها من ذوات { ألم } ثم اختصر بحذف { ألم } وإبقاء { تنزيل } ، واضيف { تنزيل } إلى { السجدة } على ما سيأتي في توجيه تسميتها { ألم تنزيل السجدة } .
ومن سماها { إلم السجدة } فهو على إضافة { ألم } إلى { السجدة } إضافة على معنى اللام وجعل { ألم } اسما للسورة .
ومن سموها { ألم تنزيل السجدة } لم يتعرضوا لضبطها في شروح صحيح البخاري ولا في النسخ الصحيحة من الجامع الصحيح ، ويتعين أن يكون { ألم } مضافا إلى { تنزيل } على أن مجموع المضاف والمضاف إليه اسم لهذه السورة محكي لفظه ؛ فتكون كلمة { تنزيل } مضمونه على حكاية لفظها القرآني ، وأن يعتبر هذا المركب الإضافي اعتبار العلم مثل : عبد الله ، ويعتبر مجموع ذلك المركب الإضافي مضافا إلى السجدة إضافة المفردات ، وهو استعمال موجود ، ومنه قول تأبط شرا :
إني لمهد من ثنـائي فـقـاصـد *** به لبن عم الصدق شمس بن مالك
إذ أضاف مجموع ابن عم إلى الصدق ، ولم يرد إضافة عم إلى الصدق . وكذلك قول أحد الطائيين في ديوان الحماسة :
داو ابن السوء بالنأي والغنـى *** كفى بالغنى والنأي عنه مداويا
فإنه ما أراد وصف عمه بالسوء ولكنه أراد وصف ابن عمه بالسوء . فأضاف مجموع ابن عم إلى السوء ، ومثله قول رجل من كلب في ديوان الحماسة :
هنيئا لابن عم السوء أني *** مجاورة بني ثعل لبوني
وقال عيينة بن مرداس في الحماسة :
فلما عرفت اليأس منه وقد بدت *** أيادي سبا الحاجات للمتذكـر
فأضاف مجموع أيادي سبا وهو كالمفرد لأنه جرى مجرى المثل إلى الحاجات .
أنا ابن عم الليل وابن خاله *** إذا دجى دخلت في سرباله
فأضاف ( ابن عم ) إلى لفظ ( الليل ) ، وأضاف ( ابن خال ) إلى ضمير ( الليل ) على معنى أنا مخالط الليل ، ولا يريد إضافة عم ولا خال إلى الليل .
ومن هذا اسم عبد الله بن قيس الرقيات ، فالمضاف إلى الرقيات هو مجموع المركب إما عبد الله ، أو ابن قيس لا أحد مفرداته .
وهذه الإضافة قريبة من إضافة العدد المركب إلى من يضاف إليه مع بقاء اسم العدد على بنائه كما تقول : أعطه خمسة عشره .
وتسمى هذه السورة أيضا { سورة المضاجع } لوقوع لفظ { المضاجع } في قوله تعالى : { تتجافى جنوبهم عن المضاجع } .
وفي تفسير القرطبي عن مسند الدرامي أن خالد بن معدان{[1]} سماها { المنجية } . قال : بلغني أن رجلا يقرؤها ما يقرأ شيئا غيرها ، وكان كثير الخطايا فنشرت جناحها وقالت : رب اغفر له فإنه كان يكثر من قراءتي فشفعها الرب فيه وقال : اكتبوا له بكل خطيئة حسنة وارفعوا له درجة اهـ .
وقال الطبرسي : تسمى { سورة سجدة لقمان } لوقوعها بعد سورة لقمان لئلا تلتبس بسورة { حم السجدة } ، أي كما سموا سورة { حم السجدة } وهي سورة فصلت { سورة سجدة المؤمن } لوقوعها بعد { سورة المؤمنين } .
وهي مكية في إطلاق أكثر المفسرين وإحدى روايتين عن ابن عباس ، وفي رواية أخرى عنه استثناء ثلاث آيات مدنية وهي { أفمن كان مؤمنا كمن كان فاسقا } إلى { لعلهم يرجعون } . قيل نزلت يوم بدر في علي بن أبي طالب والوليد ابن عقبة وسيأتي إبطاله . وزاد بعضهم آيتين { تتجافى جنوبهم عن المضاجع } إلى { بما كانوا يعملون } لما روي في سبب نزولها وهو ضعيف .
والذي نعول عليه أن السورة كلها مكية وأن ما خالف ذلك إن هو إلا تأويل أو إلحاق خاص بعام كما أصلنا في المقدمة الخامسة .
نزلت بعد سورة النحل وقبل سورة نوح ، وقد عدت الثالثة والسبعين في النزول .
وعدت آياتها عند جمهور العادين ثلاثين ، وعدها البصريون سبعا وعشرين .
أولها التنويه بالقرآن أنه منزل من عند الله ، وتوبيخ المشركين على ادعائهم أنه مفترى بأنهم لم يسبق لهم التشرف بنزول كتاب .
والاستدلال على إبطال إلهية أصنامهم بإثبات انفراد الله بأنه خالق السماوات والأرض ومدبر أمورهما .
وذكر البعث والاستدلال على كيفية بدء خلق الإنسان ونسله ، وتنظيره بإحياء الأرض ، وأدمج في ذلك أن إحياء الأرض نعمة عليهم كفروا بمسديها .
والإنحاء على الذين أنكروه ووعيدهم .
والثناء على المصدقين بآيات الله ووعدهم ، ومقابلة إيمانهم بكفر المشركين ، ثم إثبات رسالة رسول عظيم قبل محمد صلى الله عليه وسلم هدى به أمة عظيمة .
والتذمير بما حل بالمكذبين السابقين ليكون ذلك عظة للحاضرين ، وتهديدهم بالنصر الحاصل للمؤمنين .
وأمر الرسول صلى الله عليه وسلم بالإعراض عنه تحقيرا لهم ، ووعده بانتظار نصره عليهم .
ومن مزايا هذه السورة وفضائلها ما رواه الترمذي والنسائي وأحمد والدرامي عن جابر بن عبد الله قال كان النبي لا ينام حتى يقرأ { ألم تنزيل السجدة } و{ تبارك الذي بيده الملك } .