وقوله : { لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ } أي : له ملك السماوات والأرض ، وبيده مفاتيح الرحمة والأرزاق ، والنعم الظاهرة والباطنة . فكل الخلق مفتقرون إلى اللّه ، في جلب مصالحهم ، ودفع المضار عنهم ، في كل الأحوال ، ليس بيد أحد من الأمر شيء .
واللّه تعالى هو المعطي المانع ، الضار النافع ، الذي ما بالعباد من نعمة إلا منه ، ولا يدفع الشر إلا هو ، و { مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ }
ولهذا قال هنا : { يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ } أي : يوسعه ويعطيه من أصناف الرزق ما شاء ، { وَيَقْدِرُ } أي : يضيق على من يشاء ، حتى يكون بقدر حاجته ، لا يزيد عنها ، وكل هذا تابع لعلمه وحكمته ، فلهذا قال : { إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } فيعلم أحوال عباده ، فيعطي كلا ما يليق بحكمته وتقتضيه مشيئته .
{ لَهُ مَقَالِيدُ السماوات والأرض } أى : له وحده مفاتيح خزائنهما ، وله وحده - أيضا - ملك هذه الخزائن ، لأن ملك مفاتيحها يستلزم ملكها .
والمقاليد : جمع مقلاد أو أقليد وهو المفتاح .
{ يَبْسُطُ الرزق لِمَن يَشَآءُ وَيَقْدِرُ } أى : هو - سبحانه - الذى يوسع الرزق لمن شاء أن يوسعه له ، ويضيقه على من يشاء أن يضيقه عليه .
{ إِنَّهُ } - تعالى - : { بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } لا يخفى عليه شئ فى الأرض ولا فى السماء .
وبذلك نرى هذه الآيات الكريمة قد أقامت أوضح الأدلة وأقواها ، على وحدانية الله - تعالى - وكمال قدرته .
ثم إنه إذ يجعل حكمه فيما يختلفون فيه من شيء هو الحكم الواحد الفصل . يقيم هذا على حقيقة أن مقاليد السماوات والأرض كلها إليه بعد ما فطرها أول مرة ، وشرع لها ناموسها الذي يدبرها : ( له مقاليد السماوات والأرض ) . . وهم بعض ما في السماوات والأرض ، فمقاليدهم إليه .
ثم إنه هو الذي يتولى أمر رزقهم قبضاً وبسطاً - فيما يتولى من مقاليد السماوات والأرض - : ( يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر ) . . فهو رازقهم وكافلهم ومطعمهم وساقيهم . فلمن غيره يتجهون إذن ليحكم بينهم فيما يختلفون فيه ? وإنما يتجه الناس إلى الرازق الكافل المتصرف في الأرزاق . الذي يدبر هذا كله بعلم وتقدير : ( إنه بكل شيء عليم ) . . والذي يعلم كل شيء هو الذي يحكم وحكمه العدل ، وحكمه الفصل . .
وهكذا تتساوق المعاني وتتناسق بهذه الدقة الخفية اللطيفة العجيبة ؛ لتوقع على القلب البشري دقة بعد دقة ، حتى يتكامل فيها لحن متناسق عميق .
لَهُ مَقَالِيدُ السّمَاوَاتِ وَالأرْضِ يَبْسُطُ الرّزْقَ لِمَن يَشَآءُ وَيَقْدِرُ إِنّهُ بِكُلّ شَيْءٍ عَلِيمٌ
يعني تعالى ذكره بقوله : لَهُ مَقالِيدُ السّمَوَاتِ والأرْضِ : له مفاتيح خزائن السموات والأرض وبيده مغاليق الخير والشرّ ومفاتيحها ، فما يفتح من رحمة فلا ممسك لها ، وما يمسك فلا مرسل له من بعده . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، وحدثني الحرث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء جميعاً ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد لَهُ مَقالِيدُ السّمَوَاتِ والأرْضِ قال : مفاتيح بالفارسية .
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة لَهُ مَقالِيدُ السّمَوَاتِ والأرْض قال : مفاتيح السموات والأرض . وعن الحسن بمثل ذلك .
حدثنا محمد ، قال : حدثنا أحمد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ لَهُ مَقاليدُ السّمَوَاتِ والأرْضِ قال : خزائن السموات والأرض .
وقوله : يَبْسُطُ الرّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ يقول : يوسع رزقه وفضله على من يشاء من خلقه ، ويبسط له ، ويكثر ماله ويغنيه . ويقدر : يقول : ويقتر على من يشاء منهم فيضيقه ويفقره إنّهُ بِكُلّ شَيْءٍ عَلِيمٌ يقول : إن الله تبارك وتعالى بكل ما يفعل من توسيعه على من يوسع ، وتقتيره على من يقتر ، ومن الذي يصلحه البسط عليه في الرزق ، ويفسده من خلقه ، والذي يُصلحه التقتير عليه ويفسده ، وغير ذلك من الأمور ، ذو علم لا يخفى عليه موضع البسط والتقتير وغيره ، من صلاح تدبير خلقه . يقول تعالى ذكره : فإلى من له مقاليد السموات والأرض الذي صفته ما وصفت لكم في هذه الاَيات أيها الناس فارغبوا ، وإياه فاعبدوا مخلصين له الدين لا الأوثان والاَلهة والأصنام ، التي لا تملك لكم ضرّاً ولا نفعاً .
خبر رابع أو خامسٌ عن الضمير في قوله : { وهو على كل شيء قدير } [ الشورى : 9 ] وموقع هذه الجملة كموقع التي قبلها تتنزّل منزلة النتيجة لِما تقدمها ، لأنّه إذا ثبت أن الله هو الوليّ وما تضمنته الجُمل بعدها إلى قوله : { يذرؤكم فيه } [ الشورى : 11 ] من انفراده بالخلق ، ثبت أنه المنفرد بالرِّزق .
والمقاليد : جمع إقليد على غير قياس ، أو جمع مِقْلاد ، وهو المفتاح ، وتقدم عند قوله تعالى : { له مقاليد السموات والأرض } في سورة الزمر ( 63 ) . وتقديم المجرور لإفادة الاختصاص ، أي هي ملكه لا ملك غيره .
والمقاليد هنا استعارة بالكناية لخيرات السماوات والأرض ، شبهت الخيرات بالكنوز ، وأُثبت لها ما هو من مرادفات المشبَّه به وهو المفاتيح ، والمعنى : أنه وحده المتصرف بما ينفع النّاس من الخيرات . وأما ما يتراءى من تصرف بعض الناس في الخيرات الأرضية بالإعطاء والحرمان والتقتير والتبذير فلا اعتداد به لقلة جدواه بالنسبة لتصرف الله تعالى .
وجملة { يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر } مبينة لمضمون جملة { له مقاليد السموات والأرض } . وبسط الرزق : توْسِعَته ، وقدره : كناية عن قلّته ، وتقدم عند قوله : { الله يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر في سورة الرعد ( 26 ) .
وجملة { إنه بكل شيء عليم } استئناف بياني هو كالعلة لقوله : { لمن يشاء } ، أي أنّ مشيئته جارية على حسب علمه بما يناسب أحوال المرزوقين من بَسط أو قَدْر .
وبيان هذا في قوله الآتي : { ولو بسط الله الرزق لعباده لَبَغَوْا في الأرض } [ الشورى : 27 ] .