52- قل لهم - أيها الرسول - ليس لكم أن تتوقعوا شيئاً ينالنا إلا إحدى العاقبتين الحميدتين ، إما النصر والغنيمة في الدنيا ، وإما الاستشهاد في سبيل الله والجنة في الآخرة ، ونحن ننتظر لكم أن يوقع الله بكم عذاباً من عنده يهلككم به ، أو يعذبكم بالذلة على أيدينا ، فانتظروا أمر الله ، ونحن معكم منتظرون أمره .
قوله تعالى : { قل هل تربصون بنا } . تنتظرون بنا أيها المنافقون ، { إلا إحدى الحسنيين } ، إما النصر والغنيمة أو الشهادة والمغفرة . وروينا عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " تكفل الله لمن جاهد في سبيله لا يخرجه من بيته إلا الجهاد في سبيله ، وتصديق كلمته : أن يدخله الجنة ، أو يرجعه إلى مسكنه الذي خرج منه مع ما نال من أجر أو غنيمة " . قوله عز وجل { ونحن نتربص بكم } ، إحدى السوأتين إما : { أن يصيبكم الله بعذاب من عنده } ، فيهلككم كما أهلك الأمم الخالية ، { أو بأيدينا } أي : بأيدي المؤمنين إن أظهرتم ما في قلوبكم ، { فتربصوا إنا معكم متربصون } ، قال الحسن : فتربصوا مواعيد الشيطان إنا متربصون مواعيد الله من إظهار دينه واستئصال من خالفه .
{ 52 } { قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ }
أي : قل للمنافقين الذين يتربصون بكم الدوائر : أي شيء تربصون بنا ؟ فإنكم لا تربصون بنا إلا أمرا فيه غاية نفعنا ، وهو إحدى الحسنيين ، إما الظفر بالأعداء والنصر عليهم ونيل الثواب الأخروي والدنيوي . وإما الشهادة التي هي من أعلى درجات الخلق ، وأرفع المنازل عند اللّه .
وأما تربصنا بكم -يا معشر المنافقين- فنحن نتربص بكم ، أن يصيبكم اللّه بعذاب من عنده ، لا سبب لنا فيه ، أو بأيدينا ، بأن يسلطنا عليكم فنقتلكم . { فَتَرَبَّصُوا } بنا الخير { إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ } بكم الشر .
وقوله : { قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَآ إِلاَّ إِحْدَى الحسنيين . . } إرشاد آخر للرسول - صلى الله عليه وسلم - إلى الجواب الذي يخرس ألسنة هؤلاء المنافقين ويزيل فرحتهم .
وقوله : { تَرَبَّصُونَ } التربص بمعنى الانتظار في تمهل . يقال : فلان يتربص بفلان الدوائر ، إذا كان ينتظر ووقع مكروه به .
والحسنيان : مثنى الحسنى . والمراد بهما : النصر أو الشهادة .
أى : قل يا محمد لهؤلاء المنافقين - أيضا - إنكم ما تنتظرون بنا إلا إحدى العاقبتين اللتين كل وحدة منهما أحسن من جميع العواقب ، وهما إما النصر على الأعداء ، وفى ذلك الأجر والمغنم والسلامة ، وإما أن نقتل بأيدهم وفى ذلك الشهادة والفوز بالجنة والنجاة من النار .
قال الآلوسى : والحاصل أن ما تنتظرونه بنا - أيها المنافقون - لا يخلوا من أحد هذين الأمرين ، كل منهما عاقبته حسنى لا كما تزعمون من أن ما يصيبنا من القتل في الغزوة سوء ، ولذلك سررتم به .
وصح من حديث أبى هريرة عن النبى - صلى الله عليه وسلم - قال : " تكفل الله - تعالى - لمن جاهد في سبيله لا يخرجه من بيته إلا الجهاد في سبيله ، وتصديق كلمته أن يدخله الجنة . أو يرجعه إلى مسكنه الذي خرج منه مع ما نال من أجر وغنيمة " .
وقوله : { وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَن يُصِيبَكُمُ الله بِعَذَابٍ مِّنْ عِندِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا } بيان لما ينتظر المؤمنون وقوعه بالمنافقين .
أى : ونحن معشر المؤمنين نتربص بكم أيها المنافقون إحدى السوءتين من العواقب : إما " أن يصيبكم الله بعذاب " كائن " من عند " فيهلككم كما أهلك الذين من قبلكم ، وإما أن يصبكم بعذاب كائن " بأيدينا " بأن يأذن لنا في قتالكم وقتلكم .
والفاء في قوله : { فتربصوا إِنَّا مَعَكُمْ مُّتَرَبِّصُونَ } للإِفصاح .
أى إذا كان الأمر كذلك فتربصوا بنا ما هو عاقبتنا ، فإنا معكم متربصون ما هو عاقبتكم ، وسترون أن عاقبتنا على كل حال هو الخير ، وأن عاقبتكم هي الشر .
وبذلك ترى أن هذه الآيات الكريمة ، قد حكت طرفا من رذائل المنافقين ومن مسالكهم الخبيثة لكيد الدعوة الإِسلامية ، وردت عليهم بما يكبتهم ، ويفضحهم على رءوس الأشهاد .
( وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة . . . ) وما يتكل على اللّه حق الاتكال من لا ينفذ أمر اللّه ، ومن لا يأخذ بالأسباب ، ومن لايدرك سنة اللّه الجارية التي لا تحابي أحداً ، ولا تراعي خاطر إنسان !
على أن المؤمن أمره كله خير . سواء نال النصر أو نال الشهادة . والكافر أمره كله شر سواء أصابه عذاب اللّه المباشر أو على أيدي المؤمنين :
( قل : هل تربصون بنا إلا إحدى الحسنيين ، ونحن نتربص بكم أن يصيبكم اللّه بعذاب من عنده أو بأيدينا . فتربصوا إنا معكم متربصون ) . .
فماذا يتربص المنافقون بالمؤمنين ? إنها الحسنى على كل حال . النصر الذي تعلو به كلمة اللّه ، فهو جزاؤهم في هذه الأرض . أو الشهادة في سبيل الحق عليا الدرجات عند اللّه . وماذا يتربص المؤمنون بالمنافقين ? إنه عذاب اللّه يأخذهم كما أخذ من قبلهم من المكذبين ؛ أو ببطش المؤمنين بهم كما وقع من قبل للمشركين . . ( فتربصوا إنا معكم متربصون )والعاقبة معروفة . والعاقبة معروفة للمؤمنين .
القول في تأويل قوله تعالى : { قُلْ هَلْ تَرَبّصُونَ بِنَآ إِلاّ إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبّصُ بِكُمْ أَن يُصِيبَكُمُ اللّهُ بِعَذَابٍ مّنْ عِندِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا فَتَرَبّصُوَاْ إِنّا مَعَكُمْ مّتَرَبّصُونَ } .
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : قل يا محمد لهؤلاء المنافقين الذين وصفت لك صفتهم وبيّنت لك أمرهم : هل تنتظرون بنا إلا إحدى الخلتين اللتين هما أحسن من غيرهما ، إما ظفرا بالعدوّ وفتحا لنا بغلبتناهم ، ففيها الأجر والغنيمة والسلامة ، وإما قتلاً من عدوّنا لنا ، ففيه الشهادة والفوز بالجنة والنجاة من النار ، وكلتاهما مما يحبّ ، ولا يكره ، ونحن نتربص بكم أن يصيبكم الله بعذاب من عنده . يقول : ونحن ننتظر بكم أن يصيبكم الله بعقوبة من عنده عاجلة تهلككم أو بأيدينا فنقتلكم . فَتَرَبّصُوا إنّا مَعَكُمْ مُتَرَبّصُونَ يقول : فانتظروا إنا معكم منتظرون ما الله فاعل بنا ، وما إليه صائر أمر كلّ فريق منا ومنكم .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : هَلْ تَرَبّصُونَ بِنا إلاّ إحْدَى الحُسْنَيَيْنِ يقول : فتح أو شهادة . وقال مرّة أخرى : يقول القتل ، فهي الشهادة والحياة والرزق . وإما يخزيكم بأيدينا .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قوله : هَلْ تَرَبّصُونَ بِنا إلاّ إحْدَى الحُسْنَيَيْنِ يقول : قتل فيه الحياة والرزق ، وإما أن يغلب فيؤتيه الله أجرا عظيما وهو مثل قوله : وَمَنْ يُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللّهِ . . . إلى : فَيُقْتَلْ أوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤتِيهِ أجْرا عَظِيما .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا ابن نمير ، عن ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : إلاّ إحْدَى الحُسْنَيَيْنِ قال : القتل في سبيل الله والظهور على أعدائه .
قال : حدثنا بن بكر ، عن ابن جريج ، قال : بلغني عن مجاهد ، قال : القتل في سبيل الله ، والظهور .
حدثنا محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : إحْدَى الحُسْنَيَيْنِ القتل في سبيل الله والظهور على أعداء الله .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، بنحوه .
قال ابن جريج : قال ابن عباس : بعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ بالموت أو بأيدينا ، قال القتل .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : هَلْ تَرَبّصُونَ بِنا إلاّ إحْدَى الحُسْنَيَيْنِ إلا فتحا أو قتلاً في سبيل الله . ونَحْنُ نَترَبّصُ بِكُمْ أنْ يُصِيبَكُمُ اللّهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ أوْ بأيْدِينا : أي قتل .
{ قل هل تربّصون بنا } تنتظرون بنا . { إلا إحدى الحُسنيَيْن } إلا إحدى العاقبتين اللتين كل منهما حسنى العواقب : النصرة والشهادة . { ونحن نتربص بكم } أيضا إحدى السوأيين { إن يصيبكم الله بعذاب من عنده } بقارعة من السماء . { أو بأيدينا } أو بعذاب بأيدينا وهو القتل على الكفر . { فتربّصوا } ما هو عاقبتنا { إنا معكم متربّصون } ما هو عاقبتكم .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{قل هل تربصون بنا إلا إحدى الحسنين}، إما الفتح والغنيمة في الدنيا، وإما شهادة فيها الجنة في الآخرة والرزق، {ونحن نتربص بكم} العذاب والقتل، {أن يصيبكم الله بعذاب من عنده أو} عذاب {بأيدينا} فنقتلكم {فتربصوا} بنا الشر، {إنا معكم متربصون} بكم العذاب...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: قل يا محمد لهؤلاء المنافقين الذين وصفت لك صفتهم وبيّنت لك أمرهم: هل تنتظرون بنا إلا إحدى الخلتين اللتين هما أحسن من غيرهما، إما ظفرا بالعدوّ وفتحا لنا بغلبتناهم، ففيها الأجر والغنيمة والسلامة، وإما قتلاً من عدوّنا لنا، ففيه الشهادة والفوز بالجنة والنجاة من النار، وكلتاهما مما يحبّ ولا يكره. ونحن نتربص بكم أن يصيبكم الله "بعذاب من عنده "يقول: ونحن ننتظر بكم أن يصيبكم الله بعقوبة من عنده عاجلة تهلككم "أو بأيدينا" فنقتلكم. "فَتَرَبّصُوا إنّا مَعَكُمْ مُتَرَبّصُونَ" يقول: فانتظروا إنا معكم منتظرون ما الله فاعل بنا، وما إليه صائر أمر كلّ فريق منا ومنكم...
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
... هم كانوا لا يتربصون بنا إلا الدوائر والهلاك، وهو ما ذكر في آية أخرى حيث قال: (وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوَائِرَ) هم كانوا لا يتربصون بنا الحسنى، ولكن ما ذكرنا من الدوائر، لكن ذلك وإن كان عند أُولَئِكَ المنافقين هلاك ودائرة، فهو للمؤمنين الحسنى في الآخرة...
النكت و العيون للماوردي 450 هـ :
قوله عز وجل: {قُلْ هَلْ تَربَّصُونَ بِنَا إِلاَّ إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ} يعني النصر أو الشهادة وكلاهما حسنة لأن في النصر ظهور الدين، وفي الشهادة الجنة. {وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَن يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ منْ عِندِهِ} يحتمل وجهين:
أحدهما: عذاب الاستئصال في الدنيا.
والثاني: عقاب العصيان في الآخرة.
{أَوْ بِأَيْدِينَا} يعني بقتل الكافر عند الظفر والمنافق مع الإذن فيه...
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
بَيَّنَ اللهُ في هذه الآية الفَرْقَ بين المؤمنين وبين الكفار، فقال قُلْ للذين ينتظرون: أيها الكفار إن كان من شأن المؤمنين وقوعُ الدائرة عليهم في القتال، أَو أنَّ القَتْلَ ينالهُم فأيُّ واحدٍ من الأمْرَيْن ينالهم فهو لهم من الله نعمة؛ لأنَّا إنْ ظَفِرْنا بكم فَنَصْرٌ وغنيمة، وعِزٌّ للدِّين ورفعة، وإنْ قُتلْنَا فشهادةٌ ورحمة، ورضوانٌ من الله وزُلْفَى. وإنْ كان الذي يصيبنا في الدنيا هزيمة ونكبةٌ، فذلك مُوجِبٌ للأجْرِ والمثوبة، فإذاً لن يستقبِلَنا إلا ما هو حُسْنَى ونعمة. وأمَّا أنتم، فإنْ ظَفِرْنَا بكم فتعجيلُ لذُلِّكم ومحنة، وإن قُتِلتُم فعقوبةٌ من اللهِ وسخطه، وإن كانت اليد لكم في الحال فخذلانٌ من اللهِ، وسببُ عذابٍ وزيادةُ نقمة.
ويقال: {هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلاَّ إِحْدَى الحُسْنَيَيْنِ} إمَّا قيامُ بحقّ الله في الحال فنكون بوصف الرضاء وهو -في التحقيق- الجنَّةُ الكبرى، وإمَّا وصولٌ إلى الله تعالى في المآل بوصف الشهادة، ووجدان الزلفى في العقبى وهو الكرامة العظمى...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{إِلا إِحْدَى الحسنيين} إلاّ إحدى العاقبتين اللتين كل واحدة منهما هي حسن العواقب، وهما النصرة والشهادة. {وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ} إحدى السوأتين من العواقب، إمّا {أَن يُصِيبَكُمُ الله بِعَذَابٍ مّنْ عِندِهِ} وهو قارعة من السماء كما نزلت على عاد وثمود {أَوْ} بعذاب {بِأَيْدِينَا} وهو القتل على الكفر. {فَتَرَبَّصُواْ} بنا ما ذكرنا من عواقبنا {إِنَّا مَعَكُمْ مُّتَرَبّصُونَ} ما هو عاقبتكم، فلا بدّ أن يلقى كلنا ما يتربصه لا يتجاوزه.
اعلم أن هذا هو الجواب الثاني عن فرح المنافقين بمصائب المؤمنين؛ وذلك لأن المسلم إذا ذهب إلى الغزو، فإن صار مغلوبا مقتولا فاز بالاسم الحسن في الدنيا والثواب العظيم الذي أعده الله للشهداء في الآخرة، وإن صار غالبا فاز في الدنيا بالمال الحلال والاسم الجميل، وهي الرجولية والشوكة والقوة، وفي الآخرة بالثواب العظيم. وأما المنافق إذا قعد في بيته فهو في الحال في بيته مذموما منسوبا إلى الجبن والفشل وضعف القلب والقناعة بالأمور الخسيسة من الدنيا على وجه يشاركه فيه النسوان والصبيان والعاجزون من النساء، ثم يكونون أبدا خائفين على أنفسهم وأولادهم وأموالهم، وفي الآخرة إن ماتوا فقد انتقلوا إلى العذاب الدائم في القيامة، وإن أذن الله في قتلهم وقعوا في القتل والأسر والنهب، وانتقلوا من الدنيا إلى عذاب النار، فالمنافق لا يتربص بالمؤمن إلا إحدى الحالتين المذكورتين، وكل واحدة منهما في غاية الجلالة والرفعة والشرف، والمسلم يتربص بالمنافق إحدى الحالتين المذكورتين، أعني البقاء في الدنيا مع الخزي والذل والهوان، ثم الانتقال إلى عذاب القيامة والوقوع في القتل والنهب مع الخزي والذل، وكل واحدة من هاتين الحالتين في غاية الخساسة والدناءة.
ثم قال تعالى للمنافقين: {فتربصوا} بنا إحدى الحالتين الشريفتين {إنا معكم متربصون} وقوعكم في إحدى الحالتين الخسيستين النازلتين. قال الواحدي: يقال فلان يتربص بفلان الدوائر إذا كان ينتظر وقوع مكروه به، وهذا قد سبق الكلام فيه. وقال أهل المعاني: التربص: التمسك بما ينتظر به مجيء حينه، ولذلك قيل: فلان يتربص بالطعام إذا تمسك به إلى حين زيادة سعره، والحسنى: تأنيث الأحسن. واختلفوا في تفسير قوله: {بعذاب من عنده أو بأيدينا} قيل: من عند الله. أي بعذاب ينزله الله عليهم في الدنيا، أو بأيدينا بأن يأذن لنا في قتلكم. وقيل: بعذاب من عند الله، يتناول عذاب الدنيا والآخرة، أو بأيدينا القتل. فإن قيل: إذا كانوا منافقين لا يحل قتلهم مع إظهارهم الإيمان، فكيف يقول تعالى ذلك؟ قلنا قال الحسن: المراد بأيدينا إن ظهر نفاقكم، لأن نفاقهم إذا ظهر كانوا كسائر المشركين في كونهم حربا للمؤمنين، وقوله: {فتربصوا} وإن كان بصيغة الأمر، إلا أن المراد منه التهديد، كما في قوله: {ذق إنك أنت العزيز الكريم} والله أعلم.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما تضمن ذلك أن سراءهم وضراءهم لهم خير من حيث أن الرضى بمر القضاء موجب لإقبال القاضي على المقضي عليه بالرأفة والرحمة، صرح بذلك في قوله: {قل هل تربصون} أي تنتظرون انتظاراً عظيماً {بنا إلا إحدى الحسنيين} أي وهي أن نصيب أعداءنا فنظفر ونغنم ونؤجر أو يصيبونا بقتل أو غيره فنؤجر، وكلا الأمرين حسن: أما السراء التي توافقوننا على حسنها فأمرها واضح، وأما الضراء فموجبة لرضى الله عنا ومثوبته لنا بالصبر عليها ورضانا بها إجلالاً له وتسليماً لأمره فهي حسنى كما نعلم لا سوأى كما تتوهمون {ونحن نتربص بكم} أي ننتظر إحدى السوأيين وهي {أن يصيبكم الله} أي الذي له جميع القدرة ونحن من حزبه {بعذاب من عنده} أي لا تسبب لنا فيه كما أهلك القرون الأولى بصائر للناس {أو بأيدينا} أي بسببنا من قتل أو نهب وأسر وضرب وغير ذلك لأن حذركم لا يمنعكم من الله، وكل ذلك مكروه عندكم. ولما تسبب عن هذا البيان أن السوء خاصة بحزب الشيطان، حسن أن يؤمروا تهكماً بهم بما أداهم إلى ذلك تخسيساً لشأنهم فقال: {فتربصوا} أي أنتم {إنا} أي نحن {معكم متربصون*} أي بكم، نفعل كما تفعلون، والقصد مختلف...
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
{قل هل تربصون بنا إلا إحدى الحسنيين}: التربص: التمهل في انتظار ما يرجى أو يتمنى وقوعه، ومضمون هذا بدل مما قبله أو بيان له، والحسنيان مثنى الحسنى وهي اسم التفضيل للمؤنث، والاستفهام للتقرير والتحقيق، والجملة تفيد الحصر، أي قل لهم أيضا: هل تتربصون بنا أيها الجاهلون إلا إحدى العاقبتين اللتين كل واحدة منهما حسنى العواقب وفضلاها، وهما النصرة والشهادة، النصرة المضمونة للجماعة، والشهادة المكتوبة لبعض الأفراد؟ أي لا شيء ينتظر لنا غير هاتين العاقبتين مما كتب لنا ربنا وأنتم تجهلون ما تتربصون بنا. {ونحن نتربص بكم} في مقابلة ذلك إحدى السوءتين: {أن يصيبكم الله بعذاب من عنده أو بأيدينا} الأولى أن يهلككم بقارعة سماوية لا كسب لنا فيها، كما أهلك من قبلكم من الكافرين الذي كذبوا الرسل، والثانية أن يأذن لنا بقتلكم، إن أغراكم الشيطان بإظهار كفركم، بهذا الاستدراج في الاستمرار على إجرامكم، كما قال في سياق غزوة الأحزاب {لئن لم ينته المنافقون والذين في قلوبهم مرض والمرجفون في المدينة لنغرينك بهم} [الأحزاب: 60] الآيات، وحكم الشرع أنهم لا يقتلون ما داموا يظهرون الإسلام بإقامة الشعائر وأداء الأركان، ولا سيما الصلاة والزكاة. ولم تذكر هاتان العاقبتان لهم بصيغة الحصر كعاقبتي المؤمنين لجواز أن يتوبوا عن نفاقهم ويصح إيمانهم، وقد تاب بعضهم، واعترفوا بما كانوا عليه بعد ظهور أمرهم، كالذين أخبرهم النبي بما ائتمروا به من اغتياله صلى الله عليه وسلم. ومن المعقول أن يكون أكثر الباقين تابوا بعد أن أنجز الله لرسوله جميع ما وعده به، ووقع ما كانوا يحذرونه من تنزيل سورة تنبئهم بما في قلوبهم، ومنها فضيحته تعالى لزعيمهم الذي مات على كفره. ولو ذكر ذلك في التنزيل بصيغة الحصر لكان خبراً بخلاف ما سيقع وهو هلاكهم بكفرهم بدون الشرط الذين بيناه.
{فتربصوا إنا معكم متربصون} أي وإذ كان الأمر كذلك فتربصوا بنا إنا معكم متربصون ما ذكر من عاقبتنا وعاقبتكم، إن أصررتم على كفركم وظهر أمركم، مما نحن فيه على بينة من ربنا ولا بينة لكم، ويا الله ما أبلغ الإيجاز في حذف مفعولي تربصهما وفي التعبير عن تربص المؤمنين بالصفة الدالة على تمكن الثقة من متعلقه!...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
تتنزّل هذه الجملة منزلة البيان لِما تضمّنته جملة {قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا} [التوبة: 51] الآية، ولذلك لم تعطف عليها، والمبيّن هو إجمالُ {ما كتب الله لنا هو مولانا} [التوبة: 51] كما تقدّم.
والمعنى لا تنتظرون من حالنا إلاّ حسنة عاجلة أو حسنة آجلة فأمّا نحن فننتظر من حالكم أن يعذبكم الله في الآخرة بعذاب النار، أو في الدنيا بعذاب على غير أيدينا من عذاب الله في الدنيا: كالجوع والخوف، أو بعذابٍ بأيدينا، وهو عذاب القتل، إذا أذن الله بحربكم، كما في قوله: {لئن لم ينته المنافقون والذين في قلوبهم مرض والمرجفون في المدينة لنغرينك بهم} [الأحزاب: 60] الآية.
والاستفهام مستعمل في النفي بقرينة الاستثناء. ومعنى الكلام توبيخ لهم وتخطئة لتربّصهم لأنّهم يتربّصون بالمسلمين أن يقتلوا، ويغفلون عن احتمال أن ينصروا فكان المعنى: لا تتربّصون بنا إلا أن نقتل أو نغلِب وذلك إحدى الحسنين.
والتربص: انتظار حصول شيء مرغوب حصوله، وأكثر استعماله أن يكون انتظارَ حصول شيء لغير المنتظِر (بكسر الظاء) ولذلك كثرت تعدية فعل التربّص بالباء لأن المتربّص ينتظر شيئاً مصاحباً لآخرِ هو الذي لأجله الانتظار. وأمّا قوله: {والمطلقات يتربّصن بأنفسهن ثلاثة قروء} [البقرة: 228] فقد نزلت {أنفسهن} منزلة المغاير للمبالغة في وجوب التربّص...
وجملة {ونحن نتربص بكم} معطوفة على جملة الاستفهام عَطف الخبر على الإنشاء: بل على خبر في صورة الإنشاء، فهي من مقول القول وليس فيها معنى الاستفهام. والمعنى: وجود البون بين الفريقين في عاقبة الحرب في حالي الغلبة والهزيمة.
وجعلت جملة {ونحن نتربص} اسميةً فلم يقل ونتربّص بكم بخلاف الجملة المعطوف عليها: لإفادة تقوية التربّص، وكناية عن تقوية حصول المتربَّص لأن تقوية التربّص تفيد قوة الرجاء في حصول المتربَّص فتفيد قوّة حصوله وهو المكنّى عنه.
وتفرّع على جملة {هل تربصون بنا} جملة {فتربصوا إنا معكم متربصون} لأنّه إذا كان تربّص كلّ من الفريقين مسفراً عن إحدى الحالتين المذكورتين كان فريق المؤمنين أرضى الفريقين بالمتَّربِّصين لأنّ فيهما نفعه وضرّ عدوّه.
والأمر في قوله: {تربّصوا} للتحْضيض المجازي المفيد قلّة الإكتراث بتربّصهم...
وجملة {إنا معكم متربصون} تهديد للمخاطبين والمعية هنا: معية في التّربص، أو في زمانه، وفصلت هذه الجملة عن التي قبلها لأنّها كالعلّة للحضّ.
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
قلنا إن المنافقين لا يندمجون في جماعة يعيشون فيها، بل يكونون في جانب، ومن معهم في جانب آخر، كما يفعل اليهود الذين مردوا على النفاق وأجادوه. وكذلك كان اليهود بالمدينة الذين كانوا رأس النفاق فيها، فهم يعيشون مع المؤمنين وليست قلوبهم معهم، بل هواهم مع غيرهم أيا كان ذلك الذي يغاير جماعة المؤمنين كتابيا كان أو مشركا، فهم لا يعيشون مع جماعتهم إلا وجانبهم لغيرهم؛ لأنهم لم يذوقوا طعم الاندماج مع الناس والإخلاص لهم، ولذا يعيشون مع المؤمنين ويتربصون بهم الدوائر. ويقول الله تعالى آمرا نبيه: {قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلاَّ إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ} يأمر الله تعالى نبيه أن يقول لهم هذا القول ولم يسنده تعالى إلى نفسه؛ لأنه فوق الجميع، إنما جعل الرسول يسنده إلى نفسه؛ لأنه من أحد الفريقين المتربصين وإن كان الله تعالى مع المؤمنين، والتربص: الانتظار، والاستفهام للإنكار بمعنى إنكار الوقوع بدليل الاستثناء. والمعنى لا تنتظرون لنا إلا إحدى الحسنيين، والحسنيان هما: الاستشهاد، وذلك حسن في ذاته وعند المؤمنين؛ لأنه ينتهي بهم إلى الجنة، ونعم الانتهاء. أو النصر، وهو غاية حسنة عظيمة. وإن نتيجة التربص لا يهواها المنافقون، فهم يتربصون الشر والفساد والخبال والاضطراب في جيش المؤمنين رغبة فيما يريدون، فيبين الله تعالى أن النتيجة تجيء عكس ما يبغون. ويقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم بأمر من ربه، وباللفظ النازل على النبي من الله رب العالمين: {وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَن يُصِيبَكُمُ اللّهُ بِعَذَابٍ مِّنْ عِندِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا}. أي نحن معشر المؤمنين ننتظر لكم أحد أمرين أيضا، وهما أن يصيبكم الله تعالى بعذاب ينزله سبحانه وتعالى بكم كصاعقة من السماء تحرقكم، أو ريح تقلبكم من الأرض، أو تموتوا في داركم جاثمين، وهذا عذاب من عند الله، وإضافته سبحانه وتعالى إليه، ينزله من عنده مظهرا لغضبه عليهم الذي يبوؤون به، كما باء من قبل إخوان لهم في النفاق: اليهود ومن يواليهم، والأمر الثاني عذاب من المؤمنين ينزلونه بتمكين الله تعالى منكم. و هنا بعض إشارات بيانية. منها: قوله تعالى: {نَتَرَبَّصُ بِكُمْ} فعبر ب (كم) للإشارة إلى أن ما ينزل بهم عقاب، في مقابل ما حكى عنهم في قوله تعالى: {تربصون}. ومنها قوله تعالى: {أو بأيدينا} للإشارة إلى القتال الذي يكون بالأيدي التي تبطش، وذلك إشارة إلى قوة المؤمنين المؤيدة بنصر الله تعالى العزيز الحكيم. ويقول تعالى: {فَتَرَبَّصُواْ إِنَّا مَعَكُم مُّتَرَبِّصُونَ} الفاء فاء الإفصاح المنبهة عن شرط مقدر، أي إذا كان هذا امرنا وأمركم في التربص فتربصوا. وهذه الجملة السامية فيها تهديد لهم بسوء العاقبة بالنسبة لهم، وبيان حسن العاقبة بالمؤمنين، والله تعالى بعزته ناصر جنده، وخاذل عدوه.
سبحانه وتعالى بهذه الآية إنما يرد على من يحزن إن أصابت الحسنة المؤمنين، ويفرح إن أصابتهم مصيبة، فيأتي قول الحق سبحانه ليوضح: إن كل ما يصيب المؤمنين هو صالحهم. ولذلك قال: {لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا} فلم يكتب سبحانه الأمور علينا، بل لنا، و "لنا "تفيد الملكية؛ إما تأديبا وإما تكفيرا عن ذنوب، وإما اتجاها إلى الحق بعد زيغ الباطل، وكل ذلك لصالحنا. وجاء سبحانه بعد ذلك بالقول {فتربصوا} أي: تمهلوا وانتظروا وترقبوا نهايتكم. أما نهايتكم فاستدامة عذاب في الدنيا وفي الآخرة. وأسباب العذاب مجتمعة لكم في الدنيا، وأسباب الخير ممتنعة عنكم في الآخرة، ونتيجة تربصنا لكم أن نرى السوء يصيبكم، وتربصكم لنا يجعلكم ترون الخير وهو يسعى إلينا، إذن فنتيجة المقارنة ستكون في صالحنا نحن. وبعد أن بين الله ذلك يطرأ على خاطر المؤمن من سؤال: ألا يصدر من هؤلاء الأقوام فعل خير؟ وألا يأتي إليهم أدنى خير؟ ونحن نعلم أن الحق سبحانه يجزي دائما على أدنى خير. ونقول: إن الحق شاء أن يبين لنا بحسم مسألة الخيانة العظمى وهي الكفر والعياذ بالله، وبين أن كل كافر بالله لا يقبل منه أي عمل طيب؛ لأن الكفر يحبط أي عمل، وإن كان لعلمهم خير يفيد الناس، فالحق يجازيهم ماديا في الدنيا، ولكن ليس لهم في الآخرة إلا النار، ويقول: {قل أنفقوا طوعا أو كرها لن يتقبل منكم إنكم كنتم قوما فاسقين}...
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
{تَرَبَّصُونَ}: التربص: الانتظار بالشيء. التربص بإحدى الحسنيين {قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَآ إِلاَ إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ} النصر أو الشهادة، فماذا تنتظرون منا عندما نخوض الحرب، فليست هناك سيئةٌ تفرحون بها، أو حسنةٌ تتألّمون منها، لتواجهوا الموقف من موقع النتائج السلبيّة أو الإيجابية من خلال مشاعركم الذاتيّة، بل القضية بالنسبة إلينا، تمثِّل الخير كله والحسنة كلها، لأن النصر إذا حصل، كان التجسيد الحيّ للنتائج الإيجابيّة على مستوى الحياة الدنيا، أمَّا إذا كانت النتيجة هي الشهادة، فإنها تمثل الفرح الروحي الذي يؤدّي بنا إلى الحصول على لطف الله وثوابه في الآخرة، فليست هناك مشكلةٌ بالنسبة إلينا، بل هي الحسنة على كل حالٍ. تلك هي القضية بالنسبة إلينا، فلا موقع للشماتة في ما تواجهون به نتائج الفشل عندنا، لأننا نتطلع إلى القضية من جانبها المشرق، إذا كنتم تتطلعون إليها من جانبها المظلم. أمّا أنتم، فماذا تنتظرون، وماذا ننتظر بكم؟ إنَّكم اليائسون من روح الله، المتمرّدون على أوامره ونواهيه، المتحركون في الحياة على أساس الأسباب الماديّة المحدودة التي لا تحمل أيّ أفقٍ ممدود خارج نطاق المألوف في آفاقها. إنّكم اللاعبون بالحياة وبالمسؤولية وبالإيمان، فماذا ننتظر بكم جزاءً لأعمالكم وأوضاعكم؟ {وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ} وننتظر بكم {أَن يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِّنْ عِندِهِ} في الآخرة عقاباً على معاصيكم في الدنيا {أَوْ بِأَيْدِينَا} في ما نواجهكم به من عقوبات تستحقونها، بعد افتضاح أمركم وانطلاقة المواجهة الحاسمة بيننا وبينكم، {فَتَرَبَّصُواْ إِنَّا مَعَكُمْ مُّتَرَبِّصُونَ} لنعلم من خلال ذلك الانتظار المتبادل لمن الحق ولمن الأمر، ولمن العاقبة الطيّبة والنتيجة الجيّدة...
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
ثانياً: (قُلْ هل تربصون بنا إلاّ إِحدى الحسنيين)؟!
فإمّا أن نُبير الأعداء في ساحة الحرب ونُبيدهم ونعود منتصرين، أو نُقتل فننهل ورد الشهادة العذب، فكلاهما محبّب لنا ومصدر افتخارنا.
وهكذا يختلف حالنا عن حالكم، فنحن نتوقع لكم مساءتين: إمّا أن تصيبكم سهام البلايا والمصائب والعقوبات الإِلهية سواء في الدنيا أو الآخرة، أو يكون هلاككم على أيدينا: (ونحن نتربص بكم أن يصيبكم الله بعذاب من عنده أو بأيدينا فتربصوا إنا معكم متربصون) تربصوا غبطتنا وسعادتنا ونحن نتربص شقاءكم وسوء عاقبتكم.
ممّا لا شك فيه أن مآلنا وعاقبة أمرنا ـ بأيدينا ـ ما دام الأمر يدور في دائرة سعينا وجدّنا، والقرآن الكريم يصرّح بهذا الشأن أيضاً، كقوله تعالى: (وأن ليس للإنسان إِلاّ ما سعى)، وكقوله تعالى: (كل نفس بما كسبت رهينة) وفي آيات أخر. بالرغم من أنّ الجد والسعي هما من السنن الإِلهيّة وبأمره تعالى أيضاً.
إِلاّ أنّه عند خروج الأمر عن دائرة سعينا وجدّنا، فإنّ يد القدر هي التي تتحكم بمآلنا وعاقبة أمرنا، وما هو جار بمقتضى قانون العليّة الذي ينتهي إِلى مشيئة الله وعلمه وحكمته وهو مقدّر علينا، فهو ما سيكون ويقع حينئذ. غاية ما في الأمر أن المؤمنين بالله وعلمه وحكمته ولطفه ورحمته، يفسّرون هذه المقادير بأنّها جارية وفقاً «للنظام الأحسن» وما فيه مصلحة العباد، وكلُّ يُبتلى بمقادير تناسبه حسب جدارته التي اكتسبها.
فالجماعة إذا كانوا من المنافقين الجبناء والكسالى والمتفرقين فهي محكومة بالفناء حتماً. إلاّ أنّ الجماعة المؤمنة الواعية المتّحدة المصمّمة، ليس لها إلاّ النصرُ والتوفيق مآلا.
فبناءً على ذلك يتّضح أنّ الآيات آنفة الذكر لا تنافي أصل الحرية [حرية الإِرادة والاختيار] وليست دليلا على العاقبة الجبرية للإِنسان أو أن سعي الإِنسان لا أثر له.
ـ لا وجود للهزيمة في قاموس المؤمنين
نواجه في آخر آية ـ من الآيات محل البحث ـ منطقاً مُحكماً متيناً يستبطن السّر الأساس لانتصارات المسلمين الأوائل جميعاً، ولو لم يكن للنّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) من تعليم ودستور إِلاّ ما نجده في هذه الآية لكان كافياً لانتصار أتباعه ومقتفي منهاجه، وهو أنّه لا مفهوم للهزيمة في صفحات أرواحهم فقد أثبتت الحوادث أنّهم منتصرون على كل حال، منتصرون إِن استشهدتم!... منتصرون إِن قتلتم أعداءكم!
وإنّ للمؤمنين مسلكين لا ثالث لهما، في أيّ منهما ساروا وسلكوا وصلوا إِلى هدفهم وغايتهم.
أحدها هو طريق الشهادة التي تمثل أوج الفخر للمؤمنين، وأعظم موهبة يمكن أن تُتصور للإِنسان أن يبيعَ اللهَ نفسه، ويشتري الحياة الأبدية الخالدة وجوار الله، والتنعم بما لا يمكن وصفه من النعم.
والآخر هو الانتصار على العدوّ وتدمير قواه الشيطانية، وتطهير البيئة والمحيط الإِنساني من لوث الظالمين والمنحرفين الضالين، وهذا بنفسه فيض ولطف كبير وفخر مسلّم به.
فالجندي الذي يدخل ساحة المعركة بهذه الروحية والمعنوية لا يفكر بالفرار والإِدبار أبداً، ولا يخاف من أي أحد ولا من أي شيء، فالخوف والاستيحاش والاضطراب والتردد ليس لها طريق إِلى قلبه ووجوده. والجيش الذي يتألف من جنود بهذه الروحية لا يعرف الهزيمة إطلاقا.
ولا يحصل الإنسان على هذه المعنويات العالية إلاّ عن طريق اعتماد التعليمات الإسلامية، فلو أنّ هذه التعليمات تجلّت مرّة أُخرى في نفوس المسلمين بالتربية السليمة والتعليم الصحيح لأمكن جبران كل أشكال التخلف الذي أصاب المسلمين.
أُولئك الذين يطالعون ويدرسون أسباب تقدّم المسلمين الأوائل وانتصارهم، وأسباب تأخرهم في الوقت الحاضر، ويعدّون الأمر أحجية ولغزاً لا ينحلّ، من الأفضل لهم أن يأتوا ويفكروا في هذه الآية ليتّضح لهم الجواب على ما يرد في خواطرهم.
ممّا ينبغي الالتفات إِليه آنفة الذكر عندما تتحدث عن هزيمة المنافقين واندحارهم، تبيّن ذلك بتفصيل (ونحن نتربص أن يصيبكم الله بعذاب من عنده أو بأيدينا) إلاّ أنّها تمرّ على بيان انتصار المؤمنين بإجمال، فكأنّ المسألة من الوضوح بمكان حتى أنّها لا تحتاج إِلى بيان وشرح، وهذه لطيفة بلاغيّة تناولتها الآية الكريمة.
نؤكّد مرّة أُخرى على أنّه لا ينبغي أن نقرأ هذه الآيات ونعدّ موضوعها مسألة تاريخية ترتبط بما سبق، بل علينا أن نعتبرها درساً ليومنا وأمسنا وغدنا، ولجميع الناس، فليس من مجتمع يخلو من مجموعة منافقين، قلّت أو كثرت، وصفاتهم على شاكلة واحدة تقريباً.
فالمنافقون عادة أناس جهلة أنانيون متكبرون، يزعمون بأنّهم يتمتّعون بقسط وافر واف من العقل والدراية! إنّهم في عذاب وحسرة مادام الناس في راحة وسرور ويفرحون عندما تحلّ بهم كارثة!.
إنّهم يتخبطون في دوامة من الوهم والشك والحيرة، ولذلك فهم يخطون تارة نحو الأمام، وأُخرى إلى الوراء!!
وعلى خلافهم المؤمنون، فهم يشاركون الناس في السراء والضرّاء، ولا يزعمون أنّهم أولو علم ودراية، ولا يستغنون عن رحمة الله ولطفه، وقلوبهم تعشق الله ولا تخاف في سبيله من سواه!