أخذت هذه السورة في تعداد آلاء الله ونعمه ، بادئة بعد ذكر الرحمن بذكر أشرف نعمة : وهي تعليم القرآن الكريم ، ثم سارت الآيات في عرض هذه الآلاء في صورة توضح عظمة خالقها جل شأنه ، وتبرز قدرته وسلطانه على الإنس والجن في السماوات والأرض .
وقد عرضت لعذاب المجرمين المكذبين في جهنم ، وأفاضت في نعيم المتقين في الجنة .
وختمت السورة بتنزيه الله تعالى والثناء عليه .
وقد ذكرت في السورة آية " فبأي آلاء ربكما تكذبان " إحدى وثلاثين مرة على طريقة القرآن الكريم في التكرير المستحسن الذي يقتضيه المقام ، كل واحدة منها تقرع المكذبين على تكذبيهم نعم الله في الآية قبلها .
{ 1-13 } { بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الرَّحْمَنُ * عَلَّمَ الْقُرْآنَ * خَلَقَ الْإِنْسَانَ * عَلَّمَهُ الْبَيَانَ * الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ * وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ * وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ * أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ * وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلَا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ * وَالْأَرْضَ وَضَعَهَا لِلْأَنَامِ * فِيهَا فَاكِهَةٌ وَالنَّخْلُ ذَاتُ الْأَكْمَامِ * وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحَانُ * فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ }
هذه السورة الكريمة الجليلة ، افتتحها باسمه " الرَّحْمَنُ " الدال على سعة رحمته ، وعموم إحسانه ، وجزيل بره ، وواسع فضله ، ثم ذكر ما يدل على رحمته وأثرها الذي أوصله الله إلى عباده من النعم الدينية والدنيوية [ والآخروية وبعد كل جنس ونوع من نعمه ، ينبه الثقلين لشكره ، ويقول : { فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } ] .
1- سورة " الرحمن " سميت بهذا الاسم ، لافتتاحها بهذا الاسم الجليل من أسماء الله –تعالى- .
وقد وردت تسميتها بهذا الاسم في الحديث الذي أخرجه الإمام الترمذي عن جابر بن عبد الله قال : خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم على أصحابه فقرأ عليهم سورة " الرحمن " من أولها إلى آخرها ، فسكتوا ، فقال صلى الله عليه وسلم : " لقد قرأتها على الجن ، فكانوا أحسن مردودا منكم كنتم كلما أتيت على قوله –تعالى- : [ فبأي آلاء ربكما تكذبان ] قالوا : ولا بشيء من نعمك يا ربنا تكذب فلك الحمد ]( {[1]} ) .
وسميت في حديث مرفوع أخرجه البيهقي عن علي بن أبي طالب –رضي الله عنه- " عروس القرآن "
وقد ذكروا في سبب نزولها ، أن المشركين عندما قالوا : [ وما الرحمن ] نزلت هذه السورة لترد عليهم ، ولتثنى على الله –تعالى- بما هو أهله .
2- وهي مكية في قول جمهور الصحابة والتابعين ، وروى عن ابن مسعود وابن عباس أنها مدنية ، وقيل هي مكية إلا قوله –تعالى- : [ يسأله من في السموات والأرض . . . ] .
قال القرطبي : والقول الأول أصح ، لما روى عن عروة بن الزبير قال : أول من جهر بالقرآن بمكة بعد النبي صلى الله عليه وسلم عبد الله بن مسعود .
وذلك أن الصحابة قالوا : ما سمعت قريش هذا القرآن يجهر به قط ، فمن رجل يسمعهم إياه ؟
فقال ابن مسعود : أنا ، فقالوا : نخشى عليك ، إنما نريد رجلا له عشيرة يمنعونه ، فأبى ، ثم قام عند المقام فقال : بسم الله الرحمن الرحيم . [ الرحمن ، علم القرآن . . . ] ثم تمادى رافعا بها صوته وقريش في أنديتها ، فتأملوا وقالوا : ما يقول ابن أم عبد ؟
قالوا : هو يقول الذي يزعم محمد أنه أنزل عليه ، ثم ضربوه حتى أثروا في وجهه . . وفي هذا دليل على أنها مكية . . ( {[2]} ) .
والحق أن ما ذهب إليه الإمام القرطبي من كون سورة الرحمن مكية ، هو ما تطمئن إليه النفس ، لأن السورة من أولها إلى آخرها فيها سمات القرآن المكي ، الذي يغلب عليه الحديث المفصل عن الأدلة على وحدانية الله وقدرته وعظم نعمه على خلقه ، والمقارنة بين حسن عاقبة الأخيار ، وسوء عاقبة الأشرار . .
3- وعدد آياتها ثمان وسبعون آية في المصحف الحجازي ، وست وسبعون في المصحف البصري .
4- وتبدأ السورة الكريمة بالثناء على الله –تعالى- ، ثم بالثناء على القرآن الكريم ، ثم ببيان جانب من مظاهر قدرة الله –تعالى- ، ومن جميل صنعه ، وبديع فعله . . قال –تعالى- : [ الرحمن علم القرآن . خلق الإنسان . علمه البيان . الشمس والقمر بحسبان . والنجم والشجر يسجدان . والسماء رفعها ووضع الميزان . أن لا تطغوا في الميزان ] .
5- وبعد أن ساق –سبحانه- ما ساق من ألوان النعم ، أتبع ذلك ببيان أن كل من على ظهر هذه الأرض مصيره إلى الفناء ، وأن الباقي هو وجه الله –تعالى- وحده . . . وببيان أهوال القيامة ، وسوء عاقبة المكذبين وحسن عاقبة المؤمنين . .
قال –تعالى- : [ يعرف المجرمون بسيماهم فيؤخذ بالنواصي والأقدام ] .
[ ولمن خاف مقام ربه جنتان ، فبأي آلاء ربكما تكذبان . ذواتا أفنان ] .
6- ثم وصفت ما أعده الله –تعالى- للمتقين وصفا يشرح الصدور ، ويقر العيون ، فقد أعد –سبحانه- لهم بفضله وكرمه الحور العين ، والفرش التي بطائنها من إستبرق .
قال –تعالى- : [ حور مقصورات في الخيام . فبأي آلاء ربكما تكذبان . لم يطمثهن إنس ولا جان . فبأي آلاء ربكما تكذبان . متكئين على رفرف خضر وعبقري حسان . فبأي آلاء ربكما تكذبان . تبارك اسم ربك ذو الجلال والإكرام ] .
وهكذا نرى السورة الكريمة تطوف بنا في آفاق هذا الكون ، فتحكي لنا من بين ما تحكي –جانبا من مظاهر قدرة الله –تعالى- ونعمه على خلقه- وتقول في أعقاب كل نعمة [ فبأي آلاء ربكما تكذبان ] ، وتتكرر هذه الآية فيها إحدى وثلاثين مرة ، لتذكير الجن والإنس بهذه النعم كي يشكروا الله –تعالى- عليها شكرا جزيلا .
نسأل الله –تعالى- أن يجعلنا جميعا من عباده الشاكرين عند الرخاء ، الصابرين عند البلاء .
افتتحت السورة الكريمة بهذا الاسم الجليل لله - عز وجل - وهو لفظ مشتق من الرحمة ، وصيغته الدالة على المبالغة ، تنبه إلى عظم هذه الرحمة وسعتها .
سورة الرحمن مدنية وآياتها ثمان وسبعون
هذه السورة المكية ذات نسق خاص ملحوظ . إنها إعلان عام في ساحة الوجود الكبير ، وأعلام بآلاء الله الباهرة الظاهرة ، في جميل صنعه ، وإبداع خلقه ؛ وفي فيض نعمائه ؛ وفي تدبيره للوجود وما فيه ؛ وتوجه الخلائق كلها إلى وجهه الكريم . . وهي إشهاد عام للوجود كله على الثقلين : الإنس والجن المخاطبين بالسورة على السواء ، في ساحة الوجود ، على مشهد من كل موجود ، مع تحديهما إن كانا يملكان التكذيب بآلاء الله ، تحديا يتكرر عقب بيان كل نعمة من نعمه التي يعددها ويفصلها ، ويجعل الكون كله معرضا لها ، وساحة الآخرة كذلك .
ورنة الإعلان تتجلى في بناء السورة كله ، وفي إيقاع فواصلها . . تتجلى في إطلاق الصوت إلى أعلى ، وامتداد التصويت إلى بعيد ؛ كما تتجلى في المطلع الموقظ الذي يستثير الترقب والإنتظار لما يأتي بعد المطلع من أخبار . . الرحمن . . كلمة واحدة . مبتدأ مفردا . . الرحمن كلمة واحدة في معناها الرحمة ، وفي رنتها الإعلان ، والسورة بعد ذلك بيان للمسات الرحمة ومعرض لآلاء الرحمن .
ويبدأ معرض الآلاء بتعليم القرآن بوصفه المنة الكبرى على الإنسان . تسبق في الذكر خلق الإنسان ذاته وتعليمه البيان .
ثم يذكر خلق الإنسان ، ومنحه الصفة الإنسانية الكبرى . . البيان . .
ومن ثم يفتح صحائف الوجود الناطقة بآلاء الله . . الشمس والقمر والنجم والشجر والسماء المرفوعة . والميزان الموضوع . والأرض وما فيها من فاكهة ونخل وحب وريحان . والجن والإنس . والمشرقان والمغربان . والبحران بينهما برزخ لا يبغيان ، وما يخرج منهما وما يجري فيهما .
فإذا تم عرض هذه الصحائف الكبار . عرض مشهد فنائها جميعا . مشهد الفناء المطلق للخلائق ، في ظل الوجود المطلق لوجه الله الكريم الباقي . الذي إليه تتوجه الخلائق جميعا ، ليتصرف في أمرها بما يشاء .
وفي ظل الفناء المطلق والبقاء المطلق يجيء التهديد المروع والتحدي الكوني للجن والإنس : ( سنفرغ لكم أيها الثقلان . فبأي آلاء ربكما تكذبان . يا معشر الجن والإنس إن استطعتم أن تنفذوا من أقطار السماوات والأرض فانفذوا . لا تنفذون إلا بسلطان . فبأي آلاء ربكما تكذبان ، يرسل عليكما شواظ من نار ونحاس فلا تنتصران . فبأي آلاء ربكما تكذبان ? ) . .
ومن ثم يعرض مشهد النهاية . مشهد القيامة . يعرض في صورة كونية . يرتسم فيها مشهد السماء حمراء سائلة ، ومشهد العذاب للمجرمين ، والثواب للمتقين في تطويل وتفصيل .
ثم يجيء الختام المناسب لمعرض الآلاء : ( تبارك اسم ربك ذي الجلال والإكرام ) . .
إن السورة كلها إعلان عام في ساحة الوجود الكبير . إعلان ينطلق من الملأ الأعلى ، فتتجاوب به أرجاء الوجود . ويشهده كل من في الوجود وكل ما في الوجود . .
( الرحمن ) . . . . . . . . . . .
هذا المطلع المقصود بلفظه ومعناه ، وإيقاعه وموسيقاه .
( الرحمن ) . . . . . . . . . . .
بهذا الرنين الذي تتجاوب أصداؤه الطليقة المديدة المدوية في أرجاء هذا الكون ، وفي جنبات هذا الوجود .
( الرحمن ) . . . . . . . . . . .
بهذا الإيقاع الصاعد الذاهب إلى بعيد ، يجلجل في طباق الوجود ، ويخاطب كل موجود ؛ ويتلفت على رنته كل كائن ، وهو يملأ فضاء السماوات والأرض ، ويبلغ إلى كل سمع وكل قلب . .
( الرحمن ) . . . . . . . . . . .
ويسكت . وتنتهي الآية . ويصمت الوجود كله وينصت ، في ارتقاب الخبر العظيم . بعد المطلع العظيم .