اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{ٱلرَّحۡمَٰنُ} (1)

مقدمة السورة:

سورة الرحمان مكية كلها في قول الحسن ، وعروة بن الزبير ، وعكرمة ، وعطاء ، وجابر .

وقال ابن عباس : إلا آية منها{[1]} ، وهي قوله تعالى : { يسأله من في السماوات والأرض } [ الرحمان : 29 ] الآية .

وقال ابن مسعود ومقاتل : هي مدنية كلها{[2]} .

والأول أصح ، لما روى عروة بن الزبير ، قال : أول من جهر بالقرآن ب " مكة " بعد النبي صلى الله عليه وسلم ابن مسعود{[3]} ، وذلك أن الصحابة – رضي الله عنهم - قالت : ما سمعت قريش هذا القرآن يجهر به قط ، فمن رجل يسمعموه ، فقال ابن مسعود : أنا ، فقالوا : نخشى عليك ، وإنما نريد رجلا له عشيرة يمنعونه ، فأبى ثم قام عند المقام ، فقال : بسم الله الرحمان الرحيم . { الرحمان علّم القرآن } ثم تمادى بها رافعا صوته ، وقريش في أنديتها ، فتأملوا ، وقالوا : ما يقول ابن أم عبد ؟ قالوا : هو يقول : الذي يزعم محمد أنه أنزل عليه ، ثم ضربوه حتى أثروا في وجهه .

وصح أن النبي صلى الله عليه وسلم قام يصلي الصبح ب " نخلة " ، فقرأ سورة " الرحمان " ، ومر النفير من الجن فآمنوا به{[4]} .

وهي ثمان وسبعون آية ، وثلاثمائة وإحدى وخمسون كلمة ، وألف وستمائة وستة وثلاثون حرفا .

بسم الله الرحمان الرحيم

قال تعالى : «الرحمان » فيه ثلاثة أوجه{[54247]} :

أحدها : أنه خبر مبتدأ مضمر ، أي : «الله الرحمان » .

الثاني : أنه مبتدأ وخبره مضمر ، أي : «الرحمان ربنا » وهذان الوجهان عند من يرى أن «الرحمان » آية مع هذا المضمر معه ، فإنهم عدُّوا الرحمان «آية » .

ولا يتصور ذلك إلا بانضمام خبر أو مخبر عنه إليه ؛ إذ الآية لا بد أن تكون مفيدة ، وسيأتي ذلك في قوله : { مُدْهَامَّتَانِ } [ الآية : 64 ] .

الثالث : أنه ليس بآية ، وأنه مع ما بعده كلام واحد ، وهو مبتدأ ، خبره «عَلَّم القُرْآنَ » .

فصل في بيان مناسبة السورة

افتتح السورة التي قبلها بذكر معجزة تدل على القهر [ والغلبة ]{[54248]} والجبروت ، وهو انشقاق القمر ، فمن قدر عليه قدر على قطع الجبال وإهلاك الأمم ، وافتتح هذه السورة بذكر معجزة تدلّ على الرحمة ، وهي القرآن ، وأيضاً فأولها مناسب لآخر ما قبلها ؛ لأن آخر تلك أنه { مَلِيكٍ مُّقْتَدِرٍ } [ القمر : 55 ] وأول هذه أنه رحمان .

قال بعضهم{[54249]} : إن «الرحمان » اسم علم ، واحتج بقوله تعالى : { قُلِ ادعوا الله أَوِ ادعوا الرحمان أَيّاً مَّا تَدْعُواْ فَلَهُ الأسماء الحسنى } [ الإسراء : 110 ] .

وأجاز أن يقال : «يالرحمان » باللام ، كما يقال : «يا الله » وهذا ضعيف ، وهو مختص بالله تعالى ، فلا يقال لغيره{[54250]} .

قال سعيد بن جبير ، وعامر الشعبي : «الرحمان » فاتحة ثلاثة سور إذا جمعن كن اسماً من أسماء الله تعالى : «الر » و«حم » و«نون » ، فيكون مجموع هذه «الرحمان »{[54251]} .

ولله - تعالى - رحمتان :

رحمة سابقة بها خلق الخلق ، ورحمة لاحقة بها أعطاهم الرزق والمنافع ، فهو رحمان باعتبار السَّابقة ، رحيم باعتبار اللاحقة ، ولما اختص بالإيجاد لم يقل لغيره : رحمان ، ولما تخلق بعض خلقه الصالحين ببعض أخلاقه بحسب الطَّاقة البشرية ، فأطعم ونفع ، جاز أن يقال له : رحيم .


[1]:في النسختين تقدم. وندم تصحيح من الرازي. وانظر تصحيح ذلك وغيره في تفسير الإمام 28/117.
[2]:ذكره السيوطي في "الدر المنثور" (6/605) وعزاه إلى عبد بن حميد وابن أبي حاتم.
[3]:أخرجه الطبري في "تفسيره" (12/612، 613) عن ابن عباس وأبي عبد الرحمن السلمي والضحاك. وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (/605) عن أبي عبد الرحمن السلمي وزاد نسبته إلى الفريابي وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم.
[4]:أخرجه البخاري (4/301)، كتاب: فضل ليلة القدر، باب: التماس ليلة القدر في السبع الأواخر رقم (2015)، ومسلم (2/822)، كتاب: الصيام، باب: فضل ليلة القدر والحث على طلبها... رقم (205- 1165).
[54247]:ينظر: الدر المصون 2356، والرازي 29/75.
[54248]:سقط في ب.
[54249]:ينظر: الفخر الرازي 29/73.
[54250]:أما قوله الله مع الألف واللام اسم علم ففيه بعض الضعف وذلك لأنه لو كان كذلك لكانت الهمزة فيه أصلية، فلا يجوز أن تجعل وصلية، وكان يجب أن يقال خلق الله كما يقال علم أحمد وفهم إسماعيل، بل الحق فيه أحد القولين إما أن نقول إله أو لاه اسم لموجد الممكنات اسم علم، ثم استعمل مع الألف واللام كما في الفضل والعباس والحسن والخليل، وعلى هذا فمن سمى غيره إلها فهو كمن يستعمل في مولود به فيقول لابنه محمد وأحمد وإن كانا علمين لغيره قبله في أنه جائز من سمى ابنه لم يكن له من الأمر المطاع ما يمنع الغير عن التسمية به ولم يكن له الاحتجار وأخذ الاسم لنفسه أو لولده. بخلاف الملك المطاع إذا استأثر لنفسه اسما لا يستجرئ أحد ممن تحت ولايته ما دام له الملك أن يسمي ولده أو نفسه بذلك الاسم خصوصا من يكون مملوكا لا يمكنه أن يسمي نفسه باسم الملك ولا أن يسمي ولده به، والله تعالى ملك مطاع وكل من عداه تحت أمره فإذا استأثر لنفسه اسما لا يجوز للعبيد أن يتسموا بذلك الاسم، فمن يسمي فقد تعدى فالمشركون في التسمية متعدون، وفي المعنى ضالون وإما أن نقول إله أو لاه اسم لمن يعبد والألف واللام للتعريف، ولما امتنع المعنى عن غير الله امتنع الاسم، فإن قيل فلو سمى أحد ابنه به كان ينبغي أن يجوز؟ قلنا لا يجوز لأنه يوهم أنه اسم موضوع لذلك الابن لمعنى لا لكونه علما، فإن قيل تسمية الواحد بالكريم والودود جائزة قلنا كل ما يكون حمله على العلم وعلى اسم لمعنى ملحوظ في اللفظ الذكري لا يفضي إلى خلل يجوز ذلك فيه فيجوز تسمية الواحد بالكريم والودود ولا يجوز تسميته بالخالق والقديم، لأن على تقدير حمله على أنه علم غير ملحوظ فيه المعنى يجوز، وعلى تقدير حمله على أنه اسم لمعنى هو قائم به كالقدرة التي بها بقاء الخلق أو العدم فلا يجوز، لكن اسم المعبود من هذا القبيل فلا يجوز التسمية به، فأحد هذين القولين حق وقولهم مع الألف واللام علم ليس بحق. إذا عرفت البحث في الله فما يترتب وعليه، وهو أن الرحمان اسم على أضعف منه، وتجويز يا الرحمان أضعف من الكل. ينظر الرازي 29/73 -74.
[54251]:ذكره الماوردي في "تفسيره" (5/423).