التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور  
{ٱلرَّحۡمَٰنُ} (1)

مقدمة السورة:

وردت تسميتها بسورة الرحمن بأحاديث منها ما رواه الترمذي عن جابر بن عبد الله قال خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم على أصحابه فقرأ سورة الرحمن الحديث .

وفي تفسير القرطبي أن قيس بن عاصم المنقري قال للنبي صلى الله عليه وسلم اتل علي ما أنزل عليك ، فقرأ عليه سورة الرحمن ، فقال : أعدها ، فأعادها ثلاثا ، فقال : إن له لحلاوة الخ .

وكذلك سميت في كتب السنة وفي المصاحف .

وذكر في الإتقان : أنها تسمى عروس القرآن لما رواه البيهقي في شعب الإيمان عن علي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لكل شيء عروس وعروس القرآن سورة الرحمن . وهذا لا يعدوا أن يكون ثناء على هذه السورة وليس هو من التسمية في شيء كما روي أن سورة البقرة فسطاطا القرآن{[1]} .

ووجه تسميه هذه السورة بسورة الرحمن أنها ابتدئت باسمه تعالى { الرحمن } .

وقد قيل : إن سبب نزولها قول المشركين المحكي في قوله تعالى { وإذا قيل لهم أسجدوا للرحمن وقالوا وما الرحمن } في سورة الفرقان ، فتكون تسميتها باعتبار إضافة { سورة } إلى { الرحمن } على معنى إثبات وصف الرحمن .

وهي مكية في قول جمهور الصحابة والتابعين ، وروى جماعة عن ابن عباس أنها مدنية نزلت في صلح القضية عندما أبى سهيل بن عمرو أن يكتب في رسم الصلح { بسم الله الرحمن الرحيم } .

ونسب إلى ابن مسعود أيضا أنها مدنية . وعن ابن عباس : أنها مكية سوى آية منها هي قوله { يسأله من في السماوات والأرض كل هو في شأن } . والأصح أنها مكية كلها وهي في مصحف ابن مسعود أول المفصل . وإذا صح أن سبب نزولها قول المشركين { وما الرحمن } تكون نزلت بعد سورة الفرقان .

وقيل سبب نزولها قول المشركين { إنما يعلمه بشر } المحكي في سورة النحل . فرد الله عليهم بأن الرحمن هو الذي علم النبي صلى الله عليه وسلم القرآن .

وهي من أول السور نزولا فقد أخرج أحمد في مسنده بسند جيد عن أسماء بنت أبي بكر قالت : سمعت الرسول صلى الله عليه وسلم وهو يصلي نحو الركن قبل أن يصدع بما يؤمر والمشركون يسمعون يقرأ { فبأي آلاء ربكما تكذبان } . وهذا يقتضي أنها نزلت قبل سورة الحجر . وللاختلاف فيها لم تحقق رتبتها في عداد نزول سور القرآن . وعدها الجعبري ثامنة وتسعين بناء على قول بأنها مدنية وجعلها بعد سورة الرعد وقبل سورة الإنسان .

وإذ كان الأصح إنها مكية وأنها نزلت قبل سورة الحج وقبل سورة النحل وبعد سورة الفرقان ، فالوجه أن تعد ثالثة وأربعين بعد سورة الفرقان وقبل سورة فاطر .

وعد أهل المدينة ومكة آيها سبعا وسبعين ، وأهل الشام والكوفة ثمانا وسبعين لأنهم عدوا الرحمن آية ، وأهل البصرة ستا وسبعين .

أغراض هذه السورة

ابتدئت بالتنويه بالقرآن قال في الكشاف : أراد الله أن يقدم في عدد آلائه أول شيء ما هو أسبق قدما من ضروب آلائه وأصناف نعمائه وهي نعمة الدين فقدم من نعمة الدين ما هو أعلى مراتبها وأقصى مراقبها وهو إنعامه بالقرآن وتنزيله وتعليمه ، وأخر ذكر خلق الإنسان عن ذكره ثم أتبعه إياه ثم ذكر ما تميز به من سائر الحيوان من البيان اهـ .

وتبع ذلك من التنويه بالنبي صلى الله عليه وسلم بأن الله هو الذي علمه القرآن ردا على مزاعم المشركين الذين ويقولون { إنما يعلمه بشر } ، وردا على مزاعمهم أن القرآن أساطير الأولين أو أنه سحر أو كلام كاهن أو شعر .

ثم التذكير بدلائل قدرة الله تعالى في ما أتقن صنعه مدمجا في ذلك التذكير بما في ذلك كله من نعم الله على الناس .

وخلق الجن وإثبات جزائهم .

والموعظة بالفناء وتخلص من ذلك إلى التذكير بيوم الحشر والجزاء . وختمت بتعظيم الله والثناء عليه .

وتخلل ذلك إدماج التنويه بشأن العدل ، والأمر بتوفية أصحاب الحقوق حقوقهم ، وحاجة الناس إلى رحمة الله فيما خلق لهم ، ومن أهمها نعمة العلم ونعمة البيان ، وما أعد من الجزاء للمجرمين ومن الثواب والكرامة للمتقين ووصف نعيم المتقين .

ومن بديع أسلوبها افتتاحها الباهر باسمه { الرحمن } وهي السورة الوحيدة المفتتحة باسم من أسماء الله لم يتقدمه غيره .

ومنه التعداد في مقام الامتنان والتعظيم بقوله { فبأي آلاء ربكما تكذبان } إذ تكرر فيها إحدى وثلاثين مرة وذلك أسلوب عربي جليل كما سنبينه .

هذه آية واحدة عند جمهور العادِّين . ووقع في المصاحف التي برواية حفص عن عاصم علامةُ آية عقب كلمة { الرحمن } ، إذ عدّها قراء الكوفة آية فلذلك عد أهل الكوفة آي هذه السورة ثمانياً وسبعين . فإذا جعل اسم { الرحمن } آية تعين أن يكون اسم « الرحمن » : إما خبراً لمبتدأ محذوف تقديره : هو الرحمن ، أو مبتدأ خبره محذوف يقدر بما يناسب المقام .

ويجوز أن يكون واقعاً موقع الكلمات التي يراد لفظها للتنبيه على غلط المشركين إذ أنكروا هذا الاسم قال تعالى : { قالوا وما الرحمن } كما تقدم في سورة الفرقان ( 60 ) ، فيكون موقعه شبيهاً بموقع الحروف المقطَّعة التي يُتَهجّى بها في أوائل بعض السور على أظهر الوجوه في تأويلها وهو التعريض بالمخاطبين بأنهم أخطأوا في إنكارهم الحقائق .

وافتتح باسم { الرحمن } فكان فيه تشويق جميع السامعين إلى الخبر الذي يخبر به عنه إذ كان المشركون لا يألفون هذا الاسم قال تعالى : { قالوا وما الرحمن } [ الفرقان : 60 ] ، فهم إذا سمعوا هذه الفاتحة ترقبوا ما سيرد من الخبر عنه ، والمؤمنون إذا طرق أسماعهم هذا الاسم استشرفوا لما سيرد من الخبر المناسب لوصفه هذا مما هم متشوقون إليه من آثار رحمته .

على أنه قد قيل : إن هذه السورة نزلت بسبب قول المشركين في النبي صلى الله عليه وسلم { إنما يعلمه بشر } [ النحل : 103 ] ، أي يعلمه القرآن فكان الاهتمام بذكر الذي يعلم النبي صلى الله عليه وسلم القرآن أقوى من الاهتمام بالتعليم .

وأوثر استحضار الجلالة باسم { الرحمن } دون غيره من الأسماء لأن المشركين يأبون ذكره فجمع في هذه الجملة بين ردَّين عليهم مع ما للجملة الاسمية من الدلالة على ثبات الخبر ، ولأن معظم هذه السورة تعداد للنعم والآلاء فافتتاحها باسم { الرحمن } براعة استهلال .

وقد أُخبر عن هذا الاسم بأربعة أخبار متتالية غير متعاطفة رابعها هو جملة { الشمس والقمر بحسبان } [ الرحمن : 5 ] كما سيأتي لأنها جيء بها على نمط التعديد في مقام الامتنان والتوقيف على الحقائق والتبكيت للخصم في إنكارهم صريح بعضها ، وإعراضهم عن لوازم بعضها كما سيأتي ، ففصل جملتي { خلق الإنسان علمه البيان } [ الرحمن : 3 ، 4 ] عن جملة { علم القرآن } خلاف مقتضى الظاهر لنكتة التعديد للتبكيت .

وعطف عليها أربعة أُخر بحرف العطف من قوله : { والنجم والشجر يسجدان } إلى قوله : { والأرض وضعها للأنام } [ الرحمن : 6 10 ] وكلها دالة على تصرفات الله ليعلمهم أن الاسم الذي استنكروه هو اسم الله وأن المسمى واحد .

وجيء بالمسند فعلاً مؤخراً عن المسند إليه لإِفادة التخصيص ، أي هو علَّم القرآن لا بشرٌ علمه وحذف المفعول الأول لفعل { علم القرآن } لظهوره ، والتقدير : علّم محمداً صلى الله عليه وسلم لأنهم ادعوا أنه معلَّم وإنما أنكروا أن يكون معلِّمه القرآن هو الله تعالى وهذا تبكيت أول .


[1]:محمد بن علي البصري الشافعي المعتزلي المتوفى سنة 439هـ له كتاب "المعتمد في أصول الفقه".