{ وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ } قيل : إن اللّه تعالى أحياهم له { وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ } في الدنيا ، وأغناه اللّه ، وأعطاه مالا عظيما { رَحْمَةً مِنَّا } بعبدنا أيوب ، حيث صبر فأثبناه من رحمتنا ثوابا عاجلا وآجلا . { وَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ } أي : وليتذكر أولو العقول بحالة أيوب ويعتبروا ، فيعلموا أن من صبر على الضر ، أن اللّه تعالى يثيبه ثوابا عاجلا وآجلا ، ويستجيب دعاءه إذا دعاه .
ثم بين - سبحانه - أنه بفضله وكرمه لم يكتف بمنح أيوب الشفاء من مرضه ، بل أضاف إلى ذلك أن وهب له الأهل والولد فقال - تعالى - : { وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَّعَهُمْ رَحْمَةً مِّنَّا وذكرى لأُوْلِي الألباب } .
والآية الكريمة معطوفة على مقدر يفهم من السياق أى : استجاب أيوب لتوجيهنا ، فاغتسل وشرب من الماء ، فكشفنا عنه ما نزل به من بلاء ، وعاد أيوب معافى ، ولم نكتف بذلك بل وهبنا له أهله . ووهبنا له { وَمِثْلَهُمْ مَّعَهُمْ } أى : بأن رزقناه بعد الشفاء أولادا كعدد الأولاد الذين كانوا معه قبل شفائه من مرضه ، فصار عددهم مضاعفا .
وذلك كله { رَحْمَةً مِّنَّا } أى من أجل رحمتنا به { وذكرى لأُوْلِي الألباب } أى : ومن أجل أن يتذكر ذلك أصحاب العقول السليمة ، فيصبروا على الشدائد كما صبر أيوب ، ويلجأوا إلى الله - تعالى - كما لجأ ، فينالوا منا الرحمة والعطاء الجزيل .
قال الآلوسى ما ملخصه : قوله : { وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ } الجمهور على أنه - تعالى - أحيا له من مات من أهله ، وعافى المرضى ، وجمع له من تشتت منهم ، وقيل - وإليه أميل - وهبه من كان حيا منهم ، وعافاه من الأسقام ، وأرغد لهم العيش فتناسلوا حتى بلغ عددهم عدد من مضى ، ومثلهم معهم ، فكان له ضعف ما كان ، والظاهر أن هذه الهبة كانت فى الدنيا .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مّعَهُمْ رَحْمَةً مّنّا وَذِكْرَىَ لاُوْلِي الألْبَابِ } .
اختلف أهل التأويل في معنى قوله : ( وَوَهَبْنا لَهُ أهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ ) وقد ذكرنا اختلافهم في ذلك والصواب من القول عندنا فيه في سورة الأنبياء بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع . فتأويل الكلام : فاغتسل وشرب ، ففرّجنا عنه ما كان فيه من البلاء ، ووهبنا له أهله ، من زوجة وولد وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنّا له ورأفة وَذِكْرَى يقول : وتذكيرا لأولي العقول ، ليعتبروا بها فيتعظوا . وقد :
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : أخبرني نافع بن يزيد ، عن عقيل ، عن ابن شهاب ، عن أنس بن مالك ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : «إنّ نَبِيّ اللّهِ أيّوبَ لَبِثَ بِهِ بَلاؤُهُ ثَمانِيَ عَشْرَةَ سَنَةً ، فَرَفَضَهُ القَرِيبُ والبَعِيدُ ، إلاّ رَجُلانِ مِنْ إخْوَانِهِ كانا مِنْ أخَصّ إخْوَانِهِ بِهِ ، كانا يَغْدُوَانِ إلَيْهِ وَيَرُوحانِ ، فَقالَ أحَدُهُما لِصَاحِبِه : تَعْلَمُ وَاللّهِ لَقَدْ أذْنَبَ أيّوبُ ذَنْبا ما أذْنَبَهُ أحَدٌ مِنَ العالَمِينَ ، قال لَهُ صَاحِبُهُ : وَما ذَاكَ ؟ قال : من ثَمانِي عَشْرَةَ سَنَةً لَمْ يَرْحَمْهُ اللّهُ فيَكْشِفَ ما بِهِ فَلَمّا رَاحا إلَيْهِ لَمْ يَصْبِر الرّجُلُ حتى ذَكَرَ ذلكَ لَهُ ، فَقالَ أيّوبُ : لا أدْرِي ما تَقُولُ ، غَيرَ أنّ اللّهَ يَعْلَمُ أنّي كُنْتُ أمُرّ عَلى الرّجُلَيْنِ يَتَنازَعانِ فَيَذْكُرانِ اللّهَ ، فأرْجِعُ إلى بَيْتِي فَأُكَفّرُ عَنْهُما كَراهِيَةَ أنْ يُذْكَرَ اللّهُ إلاّ فِي حَقّ قال : وكانَ يَخْرُجُ إلى حاجَتِهِ ، فإذَا قَضَاها أمْسَكَتِ امْرأتُهُ بِيَدِهِ حتى يبْلُغَ فَلَما كانَ ذاتَ يَوْمٍ أبْطَأَ عَلَيْها ، وَأَوحِيَ إلى أيّوبَ فِي مَكانِهِ : أنِ ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بارِدٌ وَشَرابٌ ، فاسْتَبْطأَتْهُ ، فَتَلَقّتْهُ تَنْظُرُ ، فأقْبَلَ عَلَيْها قَدْ أذْهَبَ اللّهُ ما بِهِ مِنَ البَلاءِ ، وَهُوَ عَلى أحْسَنِ ما كانَ فَلَمّا رَأتْهُ قَالَتْ : أيّ بارَكَ اللّهُ فِيكَ ، هَلْ رأيْتَ نَبِيّ اللّهِ هَذَا المُبْتَلي ، فَوَاللّهِ على ذلكَ ما رأيْتُ أحَدا أشْبَهَ بِهِ مِنْكَ إذْ كانَ صَحِيحا ؟ قالَ : فإنّي أنا هُوَ قال : وكانَ لَهُ أنْدَرَانِ : أنْذَرٌ للْقَمْحِ ، وأنْدَرٌ للشّعِيرِ ، فَبَعَثَ اللّهُ سَحَابَتَيْنِ ، فَلَمّا كانَتْ إحْدَاهُما على أنْدَرِ القَمْحِ ، أفْرَغَتْ فِيهِ الذّهَبَ حتى فاضَ ، وأفرَغَتِ الأُخْرَى في أنْدَرِ الشّعِيرِ الوَرِق حتى فاضَ » .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة وَوَهَبْنا لَهُ أهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ قال : قال الحسن وقتادة : فأحياهم الله بأعيانهم ، وزادهم مثلهم .
حدثني محمد بن عوف ، قال : حدثنا أبو المغيرة ، قال : حدثنا صفوان ، قال : حدثنا عبد الرحمن بن جُبَير ، قال : لما ابتُلِي نبيْ الله أيوب صلى الله عليه وسلم بماله وولده وجسده ، وطُرح في مَزْبلة ، جعلت امرأته تخرج تكسب عليه ما تطعمه ، فحسده الشيطان على ذلك ، وكان يأتي أصحاب الخبز والشويّ الذين كانوا يتصدّقون عليها ، فيقول : اطردوا هذه المرأة التي تغشاكم ، فإنها تعالج صاحبها وتلمسه بيدها ، فالناس يتقذّرون طعامكم من أجل أنها تأتيكم وتغشاكم على ذلك وكان يلقاها إذا خرجت كالمحزون لمَا لقي أيوب ، فيقول : لَجّ صاحبك ، فأبى إلا ما أتى ، فوالله لو تكلم بكلمة واحدة لكشف عنه كلّ ضرّ ، ولرجع إليه ماله وولده ، فتجيء ، فتخبر أيوب ، فيقول لها : لقيك عدوّ الله فلقنك هذا الكلام ويلَك ، إنما مثلك كمثل المرأة الزانية إذا جاء صديقها بشيء قبلته وأدخلته ، وإن لم يأتها بشيء طردته ، وأغلقت بابها عنه لما أعطانا الله المال والولد آمنا به ، وإذا قبض الذي له منا نكفر به ، ونبدّل غيره إن أقامني الله من مرضي هذا لأجلدنّك مئةً ، قال : فلذلك قال الله : وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثا فاضْرِبْ بِهِ وَلا تَحْنَثْ .
وروي أن الله تعالى وهب له أهله وماله في الدنيا ، ورد من مات منهم ، وما هلك من ماشيته وحاله ثم بارك في جميع ذلك ، وولد له الأولاد حتى تضاعف الحال . وروي أن هذا كله وعد في الآخرة ، أي يفعل الله له ذلك في الآخرة ، والأول أكثر في قول المفسرين . و { رحمة } نصب على المصدر .
وقوله : { وذكرى } معناه : موعظة وتذكرة يعتبر بها أهل العقول ويتأسون بصبره في الشدائد ولا ييأسون من رحمة الله على حال . وروي أن أيوب عليه السلام كانت زوجته مدة مرضه تختلف إليه ، فيلقاها الشيطان في صورة طبيب ، ومرة في هيسة ناصح وعلى غير ذلك ، فيقول لها : لو سجد هذا المريض للصنم الفلاني لبرىء ، لو ذبح عناقاً للصنم الفلاني لبرىء ويعرض عليها وجوهاً من الكفر ، فكانت هي ربما عرضت ذلك على أيوب ، فيقول لها : ألقيت عدو الله في طريقك ؟ فلما أغضبته بهذا ونحوه ، حلف لها لئن برىء من مرضه ليضربنها مائة سوط ، فلما برىء أمره الله أن يأخذ ضغثاً فيه مائة قضيب .
اقتصار أيوب في دعائه على التعريض بإزالة النُّصْب والعذاب يشعر بأنه لم يُصب بغير الضر في بدنه . ويحتمل أن يكون قد أصابه تلف المال وهلاك العيال كما جاء في كتاب « أيوب » من كتب اليهود فيكون اقتصاره على النُّصْب والعذاب في دعائه لأن في هلاك الأهل والمال نُصْباً وعذاباً للنفس . ولم يتقدم في هذه الآية ولا في آية سورة الأنبياء أن أيوب رُزِىءَ أهله فيجوز أن يكون معنى { ووهبنا له أهله ومثلهم معهم } أن الله أبقى له أهله فلم يصب فيهم بما يكره وزاده بنين وحفدة .
ويكون فعل { وهبنا } مستعملاً في حقيقته ومجازه . ويؤيد هذا المحمل وقوع كلمة { معهم } عقب كلمة { ومثلهم } فإن ( مع ) تشعر بأن الموهوب لاحق بأهله ومزيد فيهم فليس في الآية تقدير مضاف في قوله : { ووهبنا له أهله } .
وليس في الأخبار الصحيحة ما يخالف هذا إلا أقوالاً عن المفسرين ناشئة عن أفهام مختلفة . ويحتمل أن يكون مما أصابه أنه هلَك وأولاده في مدة ضرّه كما جاء في كتاب « أيوب » من كتب اليهود وأقوال بعض السلف من المفسرين فيتعين تقدير مضاف ، أي وهبنا له عوض أهله . وألفاظ الآية تنبو عن هذا الوجه الثاني .
ومعنى { ومثلهم } مماثلهم . والمراد : مماثل عددهم ، أي ضعف عدد أهله من بنين وحفدة .
وتقدم نظير هذه الآية في قوله : { وآتيناه أهله ومثلهم معهم رحمة من عندنا وذكرى للعابدين } في سورة [ الأنبياء : 84 ] . وما بين الآيتين من تغيير يسير هو مجرد تفنّن في التعبير لا يقتضي تفاوتاً في البلاغة . وأما ما بينهما من مخالفة في قوله هنا : { وذِكرى لأُوْلِي الألباب } وقوله في سورة الأنبياء { وذكرى للعابدين ، فأما قوله هنا { وذِكرى لأُوْلِي الألباب } فإن الذكر التذكير بما خفي أو بما يخفَى وأولو الألباب هم أهل العقول ، أي تذكرة لأهل النظر والاستدلال . فإن في قصة أيوب مجملها ومفصَّلها ما إذا سمعه العقلاء المعتبِرون بالحوادث والقائسون على النظائر استدلوا على أن صبره قدوة لكل من هو في حرج أن ينتظر الفرج ، فلما كانت قصص الأنبياء في هذه السورة مسوقة للاعتبار بعواقب الصابرين وكان النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمون مأمورين بالاعتبار بها من قوله : { اصبر على ما يقولون واذكر عبدنا داود ذا الأيد } كما تقدم حُقّ أن يشار إليهم « بأولي الألباب » .
وأما الذي في سورة الأنبياء فإنه جيء به شاهداً على أن النبوءة لا تنافي البشرية وأن الأنبياء تعْتريهم من الأحداث ما يعْتري البشر مما لا ينقص منهم في نظر العقل والحكمة وأنهم إنما يقومون بأمر الله ، ابتداءً من قوله تعالى : { وما أرسلنا قبلك إلا رجالاً يوحى إليهم } [ الأنبياء : 7 ] وأنهم معرَّضون لأذَى الناس مما لا يخلّ بحرمتهم الحقيقية وأقصى ذلك الموت من قوله :
{ وما جعلنا لبشر من قبلك الخلد أفإن مت فهم الخالدون } [ الأنبياء : 34 ] .
وإذ كان المشركون يقولون : { نتربص به ريب المنون } [ الطور : 30 ] ، وحاولوا قتله غير مرة فعصمه الله ، ثم من قوله : { ولقد استهزىء برسل من قبلك فحاق بالذين سخروا منهم ما كانوا به يستهزئون } [ الأنعام : 10 ] ثم قال : { ولقد آتينا موسى وهارون الفرقان وضياء وذكراً للمتقين الذين يخشون ربهم بالغيب وهم من الساعة مشفقون } [ الأنبياء : 48 ، 49 ] ، وذُكر من الأنبياء من ابتلي من قومه فصبَر ، ومن ابتلي من غيرهم فصبَر ، وكيف كانت عاقبة صبرهم واحدة مع اختلاف الأسباب الداعية إليه . فكانت في ذلك آيات للعابدين ، أي المْمتثلين أمر الله المجتَنبين نهيَه ، فإن مما أمر به الله الصبر على ما يلحق المرء من ضرّ لا يستطيع دفعَه لكون دفعه خارجاً عن طاقته فختم بخاتمة أن في ذلك لآيات للعابدين .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{ووهبنا له أهله ومثلهم معهم} فأضعف الله عز وجل له...
{وذكرى} تفكر {لأولي الألباب}: أهل اللب والعقل.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
... "وَوَهَبْنا لَهُ أهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ"... تأويل الكلام: فاغتسل وشرب، ففرّجنا عنه ما كان فيه من البلاء، ووهبنا له أهله، من زوجة وولد، "وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنّا "له ورأفة "وَذِكْرَى" يقول: وتذكيرا لأولي العقول، ليعتبروا بها فيتعظوا.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
اختلف أهل التأويل فيه: قال بعضهم: ووهب له أهله، أي أحيى من هلك من أهله وماله، وزاد له على ذلك ضعفهم في الدنيا رحمة منه وفضلا، والحسن يقول كهذا: إنه أحياهم له بأعيانهم، وزاده مثلهم معهم.
وقال بعضهم: قيل له: يا أيوب إن أهلك في الجنة، فإن شئت آتيناك بهم، وإن شئت تركناهم لك في الجنة، وعوضناك مثلهم معهم، قال: لا بل اتركهم في الجنة، فتركوا له في الجنة، وعوض مثلهم في الدنيا، ولله أن يحيي من شاء بعد ما أماته، وله أن يؤجر على ذلك ما شاء، ألا ترى أنه قال على إثره: {رَحْمَةً مِنَّا وَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ}؟ دل قوله: {رحمة منا} على أنه كشف الضر عن أيوب، وأعطاه ما أعطاه رحمة منه وفضلا ونعمة.
{وَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ} ذكرى وعظة لمن ينتفع باللب ليعلم أن ليس التضييق لمقت منه وسخطه لمن ضيق عليه، ولا في التوسيع رضا منه ولكن محنتان، يمتحن من يشاء الشدة والبلاء ومن شاء بالسعة والرخاء...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
الهبة كانت للرحمة له ولتذكير أولى الألباب؛ لأنهم إذا سمعوا بما أنعمنا به عليه لصبره، رغبهم في الصبر على البلاء وعاقبة الصابرين وما يفعل الله بهم...
{ومثلهم معهم} الأقرب أنه تعالى متعه بصحته وبماله وقواه حتى كثر نسله وصار أهله ضعف ما كان وأضعاف ذلك...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
{ووهبنا} أي بما لنا من العظمة {له أهله} أي الذين كان الشيطان سلط عليهم بأن أحييناهم، وجمع اعتباراً بالمعنى؛ لأنه أفخم وأقرب إلى فهم المراد فقال:
{ومثلهم} وأعلم باجتماع الكل في آنٍ واحد فقال: {معهم} جددناهم له وليعلم من يسمع ذلك أنه لا عبرة بشيء من الدنيا وأنها وكل ما فيها عرض زائل لا ثبات له أصلاً إلا ما كان لنا، فإنه من الباقيات الصالحات، فلا يغير أحد بشيء منها ولا يشتغل عنا أصلاً، ويعلم من هذا من صدقه القدورة على البعث بمجرد تصديقه له، ومن توقف فيه سأل أهل الكتاب فعلم ذلك بتصديقهم له، ثم علل سبحانه فعله ذلك بقوله: {رحمة} ولما كان في مقام الحث على الصبر عظم الأمر بقوله:
{منا} فإنه أعظم من التعبير في سورة الأنبياء بعندنا، ليكون ذلك أحث على لزوم الصبر، وإذا نظرت إلى ختام الآيتين عرفت تفاوت العبارتين، ولاح لك أن مقام الصبر لا يساويه شيء؛ لأن الطريق إليه سبحانه لا ينفك شيء منه عن صبر وقهر للنفس وجبر؛ لأنها بالإجماع خلاف ما تدعو إليه الطبائع.
{وذكرى} أي إكراماً وتذكيراً عظيماً {لأولي الألباب} أي الأفهام الصافية، جعلنا ذلك لرحمته ولتذكير غيره من الموصوفين على طول الزمان؛ ليتأسى به كل مبتلى ويرجو مثل ما رجا، فإن رحمة الله واسعة، وهو عند القلوب المنكسرة، فما بينه وبين الإجابة إلا حسن الإنابة، فمن دام إقباله عليه أغناه عن غيره...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
تقول بعض الروايات: إن الله أحيا له أبناءه ووهب له مثلهم، وليس في النص ما يحتم أنه أحيا له من مات، وقد يكون معناه أنه بعودته إلى الصحة والعافية قد استرد أهله الذين كانوا بالنسبة إليه كالمفقودين. وأنه رزقه بغيرهم زيادة في الإنعام والرحمة والرعاية، مما يصلح ذكرى لذوي العقول والإدراك، والمهم في معرض القصص هنا هو تصوير رحمة الله وفضله على عباده الذين يبتليهم فيصبرون على بلائه وترضى نفوسهم بقضائه...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
لم يتقدم في هذه الآية ولا في آية سورة الأنبياء أن أيوب رُزِئ أهله، فيجوز أن يكون معنى {ووهبنا له أهله ومثلهم معهم} أن الله أبقى له أهله فلم يصب فيهم بما يكره وزاده بنين وحفدة. ويكون فعل {وهبنا} مستعملاً في حقيقته ومجازه، ويؤيد هذا المحمل وقوع كلمة {معهم} عقب كلمة {ومثلهم} فإن (مع) تشعر بأن الموهوب لاحق بأهله ومزيد فيهم، فليس في الآية تقدير مضاف في قوله: {ووهبنا له أهله}،وليس في الأخبار الصحيحة ما يخالف هذا إلا أقوالاً عن المفسرين ناشئة عن أفهام مختلفة.
{ومثلهم} مماثلهم، والمراد: مماثل عددهم، أي ضعف عدد أهله من بنين وحفدة.
قوله تعالى: {وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ..} يبدو أن بعض أهله بعدوا عنه لما أصابه المرض، فلما شفاه الله وعاد إلى حال السلامة عادوا إليه {وَمِثْلَهُمْ مَّعَهُمْ..} يعني: وهبنا له مثل أهله أي: من الذرية والأتباع {رَحْمَةً مِّنَّا وَذِكْرَىٰ لأُوْلِي الأَلْبَابِ} الذكرى هي الخاطر الذي يمرُّ بك ليصرفك إلى متعلق الذِّكْرى؛ لأنك بصدد ما يبعدك عن سبب الذكرى.
ومضمون الذكرى هنا أنه لما صبر جاءه الفرج من الله، فعاد جسمه مُعَافاً سليماً بعد أنْ برئ من المرض ومن أسبابه، ثم عاد إليه أهله بزيادة مثلهم عليهم رفقاً بعواطفه. وهذا هو المراد بالرحمة في قوله {رَحْمَةً مِّنَّا..}، فهذه عطاءات متعددة جاءت ثمرة ونتيجة لصبره عليه السلام ورضائه بما قضى الله به.
إذن الذكرى التي نذكرها في هذه القصة أن الإنسان حين ينزل به الكرب يلجأ إلى الله، ويفزع إليه في كربه.