{ وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ } أي : خاف القيام عليه ومجازاته بالعدل ، فأثر هذا الخوف في قلبه فنهى نفسه عن هواها الذي يقيدها{[1356]} عن طاعة الله ، وصار هواه تبعا لما جاء به الرسول ، وجاهد الهوى والشهوة الصادين عن الخير ،
وقوله : وأمّا مَنْ حافَ مَقامَ رَبّهِ ونَهَى النّفْسَ عَنِ الهَوَى يقول : وأما من خاف مسألة الله إياه عند وقوفه يوم القيامة بين يديه ، فاتقاه ، بأداء فرائضه ، واجتناب معاصيه ونَهَى النّفْسَ عَنِ الهَوَى يقول : ونهى نفسه عن هواها فيما يكرهه الله ، ولا يرضاه منها ، فزجرها عن ذلك ، وخالف هواها إلى ما أمره به ربه فإنّ الجَنّةَ هِيَ المَأْوَى يقول : فإن الجنة هي مأواه ومنزله يوم القيامة .
وقد ذكرنا أقوال أهل التأويل في معنى قوله : ولِمَنْ خافَ مَقامَ رَبّهِ فيما مضى ، بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع .
وقولُه : { من خاف مقام ربه } مقابل قوله : { من طغى } لأن الخوف ضد الطغيان وقوله : { نهى النفس عن الهوى } مقابل قوله : { وآثر الحياة الدنيا } .
ونهى الخائف نفسه مستعار للانكفاف عن تناول ما تحبه النفس من المعاصي والهوى ، فجعلت نفس الإِنسان بمنزلة شخص آخر يدعوه إلى السيئات وهو ينهاه عن هذه الدعوة ، وهذا يشبه ما يسمى بالتجريد ، يقولون : قالت له نفسه كذا فعصاها ، ويقال : نهى قَلْبَه ، ومن أحسن ما قيل في ذلك قول عروة بن أذيْنة :
وإذا وجَدْت لها وسَاوس سَلْوة *** شفَع الفُؤاد إلى الضمير فسلها
والمراد ب { الهوى } ما تهواه النفس فهو مصدر بمعنى المفعول مثل الخلق بمعنى المخلوق ، فهو ما ترغب فيه قوى النفس الشهوية والغضبية مما يخالف الحق والنفعَ الكامل . وشاع الهوى في المرغوب الذميم ولذلك قيل في قوله تعالى : { ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من اللَّه } [ القصص : 50 ] أن { بغير هدى } حال فمؤكدة ليست تقييداً إذ لا يكون الهوى إلا بغير هدى .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
وأما من خاف مسألة الله إياه عند وقوفه يوم القيامة بين يديه، فاتقاه، بأداء فرائضه، واجتناب معاصيه" ونَهَى النّفْسَ عَنِ الهَوَى "يقول: ونهى نفسه عن هواها فيما يكرهه الله، ولا يرضاه منها، فزجرها عن ذلك، وخالف هواها إلى ما أمره به ربه "فإنّ الجَنّةَ هِيَ المَأْوَى" يقول: فإن الجنة هي مأواه ومنزله يوم القيامة...
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
فجائز أن يكون أريد بالمقام حساب ربه أو مقامه عند ربه، فأضيف إلى الله تعالى لأن البعث مضاف إليه، فكل أحواله أضيف إليه أيضا. وجائز أن يكون الخوف راجعا إلى الحالة التي هو فيها، فيخاف أن يكون مقامه في موضع نهي الله تعالى عن المقام فيه... {ونهى النفس عن الهوى} فليس هذا نهي قول، وإنما نهيه إياها أن يكفها عن شهواتها ولذاتها، وكفها أن يشعرها عذاب الآخرة، ويخوفها آلامها وعقابها. فإذا فعل ذلك سهل عليها ترك الشهوات الحاضرة، وسهل عليها العمل للآخرة. والناس في نهي نفس عن هواها على ضربين. فمنهم من يقهرها، فلا يعطيها شهواتها؟، فهو أبدا في جهد وعناء، ومنهم من يذكّرها العواقب، ويريها ما أعد لأهل الطاعة، ويعلمها ما يحل بالظلمة، فيصير ذلك لها كالعيان، فتختار لذات الآخرة على لذات الدنيا، لأن ذلك أدوم وألذ، وسهل عليه العمل للآخرة، والهوى، هو ميل النفس إلى شهواتها ولذتها. ففيه أن الأنفس جبلت على حب الشهوات والميل إليها، ولا تنتهي عن ذلك إلا بما ذكرنا...
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
ومعناه من خاف مقام مسألة ربه عما يجب فعله أو تركه وعمل بموجب ذلك بأن فعل الطاعة وامتنع من المعصية، ونهى نفسه عن الهوى وما تدعو إليه شهواته، فالهوى: اريحية في النفس تدعو إلى ما لا يجوز في العقل، فاتباع الهوى مذموم، وليس يجوز أن يعمل شيئا لداعي الهوى...
جهود الإمام الغزالي في التفسير 505 هـ :
فالهوى لفظ يجمع جميع حظوظ النفس في الدنيا، فينبغي أن يكون الزهد فيه. (نفسه: 4/24)...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{وَنَهَى النفس} الأمارة بالسوء {عَنِ الهوى} المردي وهو اتباع الشهوات وزجرها عنه وضبطها بالصبر والتوطين على إيثار الخير.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
و {مقام ربه} هو القيامة، وإنما المراد مقامه بين يدي ربه، فأضاف المقام إلى الله عز وجل من حيث بين يديه وفي ذلك تفخيم للمقام وتعظيم لهوله وموقعه من النفوس...و {الهوى} هو شهوات النفس وما جرى مجراها، وأكثر استعماله إنما هو في غير المحمود...
{وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى فإن الجنة هي المأوى} واعلم أن هذين الوصفان مضادان للوصفين اللذين وصف الله أهل النار بهما فقوله: {وأما من خاف مقام ربه} ضد قوله: {فأما من طغى} وقوله: {ونهى النفس عن الهوى} ضد قوله: {وآثر الحياة الدنيا} واعلم أن الخوف من الله، لا بد وأن يكون مسبوقا بالعلم بالله على ما قال: {إنما يخشى الله من عباده العلماء} ولما كان الخوف من الله هو السبب المعين لدفع الهوى، لا جرم قدم العلة على المعلول، وكما دخل في ذينك الصفتين جميع القبائح دخل في هذين الوصفين جميع الطاعات والحسنات...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
{وأما من خاف} ولما كان- ذلك الخوف مما يتعلق بالشيء لأجل ذلك الشيء أعظم من ذكر الخوف من ذلك الشيء نفسه فقال: {مقام ربه} أي قيامه بين يدي المحسن إليه عند تذكر إحسانه فلم يطغ فكيف عند تذكر جلاله وانتقامه، أو المكان الذي يقوم فيه بين يديه و الزمان، وإذا خاف ذلك المقام- فما ظنك بالخوف من صاحبه، وهذا لا يفعله إلا من تحقق المعاد...
. {ونهى النفس} أي التي لها المنافسة {عن الهوى} أي كل ما تهواه فإنه لا يجر إلى خير لأن النار حفت بالشهوات، والشرع كله مبني على ما يخالف الطبع وما تهوى الأنفس، وذلك هو المحارم التي حفت بها النار فإنها بالشهوات...
روح المعاني في تفسير القرآن والسبع المثاني للآلوسي 1270 هـ :
وأصل الهوى مطلق الميل، وشاع في الميل إلى الشهوة وسمي بذلك على ما قال الراغب لأنه يهوى بصاحبه في الدنيا إلى كل واهية وفي الآخرة إلى الهاوية...
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
أي: خاف القيام عليه ومجازاته بالعدل، فأثر هذا الخوف في قلبه فنهى نفسه عن هواها الذي يقيدها عن طاعة الله، وصار هواه تبعا لما جاء به الرسول، وجاهد الهوى والشهوة الصادين عن الخير،...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
ونهي الخائف نفسه مستعار للانكفاف عن تناول ما تحبه النفس من المعاصي والهوى، فجعلت نفس الإِنسان بمنزلة شخص آخر يدعوه إلى السيئات وهو ينهاه عن هذه الدعوة، وهذا يشبه ما يسمى بالتجريد، يقولون: قالت له نفسه كذا فعصاها، ويقال: نهى قَلْبَه...
{الهوى} ما تهواه النفس فهو مصدر بمعنى المفعول مثل الخلق بمعنى المخلوق، فهو ما ترغب فيه قوى النفس الشهوية والغضبية مما يخالف الحق والنفعَ الكامل. وشاع الهوى في المرغوب الذميم...
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
فالشرط الأوّل للحصول على نعم الجنّة والاستقرار بها هو الخوف من اللّه من خلال معرفته، معرفة اللّه والخوف من التمرد والعصيان على أوامره، والشرط الثاني هو ثمرة ونتيجة الشرط الأوّل أي الخوف والمعرفة ويتمثل في السيطرة على هوى النفس وكبح جماحها، فهوى النفس من أقبح الأصنام المعبودة من دون اللّه، لأنّه المنفذ الرئيسي لدخول معترك الذنوب والمفاسد...وهوى النفس هو الطابور الخامس في قلب الإنسان، نعم... فالشيطان الخارجي لا يتمكن من النفوذ إلى داخل الإنسان ما لم يوافقه الشيطان الداخلي في منحاه، ويفتح له أبواب الدخول، كما تشير إلى ذلك الآية (42) من سورة الحجر: (إنّ عبادي ليس لك عليهم سلطان إلاّ مَنْ اتبعك من الغاوين)...