قوله تعالى : { عسى ربكم } يا بني إسرائيل ، { أن يرحمكم } ، بعد انتقامه منكم ، فيرد الدولة إليكم ، { وإن عدتم عدنا } أي : إن عدتم إلى المعصية عدنا إلى العقوبة . قال قتادة : فعادوا فبعث الله عليهم محمداً صلى الله عليه وسلم فهم يعطون الجزية عن يد وهم صاغرون . { وجعلنا جهنم للكافرين حصيراً } ، سجناً ومحبساً من الحصر وهو الحبس . قال الحسن : حصيراً أي : فراشاً . وذهب إلى الحصير الذي يبسط ويفرش .
{ عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ } فيديل لكم الكرة عليهم ، فرحمهم وجعل لهم الدولة . وتوعدهم على المعاصي فقال : { وَإِنْ عُدْتُمْ } إلى الإفساد في الأرض { عُدْنَا } إلى عقوبتكم ، فعادوا لذلك فسلط الله عليهم رسوله محمدا صلى الله عليه وسلم
فانتقم الله به منهم ، فهذا جزاء الدنيا وما عند الله من النكال أعظم وأشنع ، ولهذا قال : { وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا } يصلونها ويلازمونها لا يخرجون منها أبدا . وفي هذه الآيات التحذير لهذه الأمة من العمل بالمعاصي لئلا يصيبهم ما أصاب بني إسرائيل ، فسنة الله واحدة لا تبدل ولا تغير .
ومن نظر إلى تسليط الكفرة على المسلمين والظلمة ، عرف أن ذلك من أجل ذنوبهم عقوبة لهم وأنهم إذا أقاموا كتاب الله وسنة رسوله ، مكن لهم في الأرض ونصرهم على أعدائهم .
ثم ختم - سبحانه - الآيات الكريمة ببيان أن هذا الدمار الذى حل ببنى إسرائيل بسبب إفسادهم فى الأرض مرتين ، قد يكون طريقا لرحمتهم ، وسببا فى توبتهم وإنابتهم ، إن فتحوا قلوبهم للحق ، واعتبروا بالأحداث الماضية ، وفهموا عن الله - تعالى - سنته التى لا تتخلف ، وهى أن الإِحسان يؤدى إلى الفلاح والظفر ، والإِفساد يؤدى إلى الخسران والهلاك .
وقد عبر القرآن الكريم عن هذه المعانى أبلغ تعبير وأحكمه . فقال - تعالى - : { عسى رَبُّكُمْ أَن يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدتُّمْ عُدْنَا وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيراً } .
أى : عسى ربكم أن يرحمكم : ويعفو عنكم يا بنى إسرائيل متى أخلصتم له العبادة والطاعة ، وأصلحتم أقوالكم وأعمالكم ، فقد علمتم أنه - سبحانه - لا ينزل بلاء إلا بذنب ، ولا يرفعه إلا بتوبة .
قال : أبو حيان : وهذه الترجية ليست لرجوع دولة ، وإنما هى من باب ترحم المطيع منهم ، وكان من الطاعة أن يتبعوا عيسى ومحمدا - عليهما السلام - ولكنهم لم يفعلوا .
وقوله - سبحانه - : { وَإِنْ عُدتُّمْ عُدْنَا } إنذار لهم بإنزال العقوبات عليهم ، إن عادوا إلى فسادهم وإفسادهم .
أى : وإن عدتم إلى المعاصى ومخالفة أمرى ، وانتهاك حرماتى ، بعد أن تداركتكم رحمتى ، عدنا عليكم بالقتل والتعذيب وخراب الديار .
ولقد عادوا إلى الكفر والفسوق والعصيان ، حيث أعرضوا عن دعوة الحق التى جاءهم بها الرسول صلى الله عليه وسلم ، ولم يكتفوا بهذا الإِعراض بل هموا بقتله صلى الله عليه وسلم وأيدوا كل متربص بالإِسلام والمسلمين ، فكانت نتيجة ذلك أن عاقبهم النبى صلى الله عليه وسلم وأصحابه بما يستحقون من إجلاء وتشريد وقتل . .
قال ابن عباس - رضى الله عنهما - : " عادوا فسلط الله عليهم المؤمنين " .
ثم بين - سبحانه - عقوبتهم فى الآخرة فقال : { وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيراً } أى : إن عدتم إلى معصيتنا فى الدنيا عدنا عليكم بالعقوبة الرادعة ، أما فى الآخرة فقد جعلنا جهنم للكافرين منكم ومن غيركم { حصيرا } أى : سجنا : حاصرا لكم لا تستطيعون الهروب منه ، أو الفكاك عنه ، أو فراشا تفترشونه ، كما قال - تعالى - : { لَهُمْ مِّن جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِن فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ وكذلك نَجْزِي الظالمين } قال بعض العلماء : " قوله { حصيرا } فيه وجهان : الأول : أن الحصير المحبس والسجن . من الحصر وهو الحبس : يقال حصره يحصره حصرا ، إذا ضيق عليه وأحاط به .
والثانى أن الحصير : البساط والفراش ، من الحصير الذى يفرش ، لأن العرب تسمى البساط الصغير حصيرا . . " .
وبذلك نرى الآيات الكريمة ، قد حكت لنا قضاء الله - تعالى - فى بنى إسرائيل ، وساقت لنا لكى نعتبر ونتعظ ألوانا من سنن الله - تعالى - التى لا تتخلف ، والتى من أبرزها أن الإيمان والصلاح عاقبتهما الفلاح ، وأن الكفر والفساد عاقبتهما الشقاء ، ولعذاب الآخرة أشد وأبقى .
هذا ، والذى يراجع ما قاله المفسرون فى بيان العباد الذين سلطهم الله - تعالى - على بنى إسرائيل بعد إفسادهم الأول والثانى فى الأرض ، يرى أقوالا متعددة يبدو على كثير منها الاضطراب والضعف .
ومن ذلك ما أخرجه ابن جرير عن ابن عباس وابن مسعود - رضى الله عنهما - أن الله - تعالى - عهد إلى بنى إسرائيل فى التوراة { لَتُفْسِدُنَّ فِي الأرض مَرَّتَيْنِ } فكان أول الفسادين قتل زكريا ، فبعث الله عليهم ملك النبط ، وكان يدعى " صحابين " فبعث الجنود ، وكانوا من أهل فارس . . فتحصنت بنو إسرائيل . . ودخل فيهم " بختنصر " - أحد جنود صحابين - وسمع أقوالهم . . الخ .
وهذا الأثر من وجوه ضعفه ، أن غزو النبط ومعهم بختنصر لبنى إسرائيل سابق على زمان زكريا - عليه السلام - بحوالى ستة قرون .
لأن الثابت تاريخيا أن بختنصر غزا بنى إسرائيل وانتصر عليهم ثلاث مرات : الأولى فى سنة 606 ق . م والثانية فى سنة 599 ق . م ، والثالة فى سنة 588 ق . م .
وفى هذه المرة الثالثة أكثر القتل فيهم ، وساق الأحياء منهم أسارى إلى أرض بابل .
أما زكريا - عليه السلام - فمن المعروف أنه كان معاصرا لعيسى - عليه السلام - أو مقاربا لعصره : فقد أخبرنا القرآن الكريم أن زكريا هو الذى تولى كفالة مريم أم عيسى .
وإذاً فالقول بأن إفسادهم الأول كان لقتلهم زكريا ، وأن المسلط عليهم ملك النبط ومع " بختنصر " يتنافى مع الحقائق التاريخية .
وفضلا عن ذلك ، فإن هذا الأثر اضطرابه ظاهر ، لأن " صحابين " ملك النبط ، هو الذى يسميه المؤرخون " سنحاريب " وكان ملكا للأشوريين ، وهو الذى غزا مملكة يهوذا سنة 713 ق . م أى قبل غزو بختنصر لها بأكثر من مائة سنة ، أى : أن بختنصر لم يكن معاصرا له .
والرأى الذى نختاره : هو أن العباد الذين سلطهم الله على بنى إسرائيل بعد إفسادهم الأول ، هم جالوت وجنوده . ونستند فى اختيارنا لهذا الرأى إلى أمور من أهمها ما يلي :
1- ذكر القرآن الكريم فى سورة البقرة ، عند عرضه لقصة القتال الذى دار بين طالوت قائد بنى إسرائيل ، وبين " جالوت " قائد أعدائهم ، ما يدل على أن بنى اسرائيل كانوا قبل ذلك مقهورين مهزومين من أعدائهم .
ويتجلى هذا المعنى فى قوله - تعالى - : { أَلَمْ تَرَ إِلَى الملإ مِن بني إِسْرَائِيلَ مِن بَعْدِ موسى إِذْ قَالُواْ لِنَبِيٍّ لَّهُمُ ابعث لَنَا مَلِكاً نُّقَاتِلْ فِي سَبِيلِ الله قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِن كُتِبَ عَلَيْكُمُ القتال أَلاَّ تُقَاتِلُواْ قَالُواْ وَمَا لَنَآ أَلاَّ نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ الله وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِن دِيَارِنَا وَأَبْنَآئِنَا . . } فقولهم - كما حكى القرآن عنهم - { وَمَا لَنَآ أَلاَّ نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ الله وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِن دِيَارِنَا وَأَبْنَآئِنَا .
. } يدل دلالة قوية ، على أنهم كانوا قبل قتالهم لجالوت مهزومين هزيمة اضطرتهم إلى الخروج عن ديارهم ، وإلى مفارقة أبنائهم .
2- قوله - تعالى - : { ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الكرة عَلَيْهِمْ } صريح فى أن الله - تعالى - نصر بنى إسرائيل - بعد أن تابوا وأنابوا - على أعدائهم .
وهذا المعنى ينطبق على ماقصه القرآن علينا ، من أن بنى إسرائيل بقيادة طالوت قد انتصروا على جالوت وجنوده .
قال - تعالى - : { وَلَمَّا بَرَزُواْ لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُواْ رَبَّنَآ أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْراً وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وانصرنا عَلَى القوم الكافرين فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ الله وَقَتَلَ دَاوُدُ جَالُوتَ وَآتَاهُ الله الملك والحكمة وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَآءُ . . } ولقد كان هذا النصر نعمة كبرى لبنى إسرائيل ، فقد جاءهم بعد أن أخرجوا من ديارهم وأبنائهم ، وبعد أن اعترضوا على اختيار طالوت ملكا عليهم ، وبعد أن قاتل مع طالوت عدد قليل منهم . ولاشك أن النصر فى هذه الحالة ، أدعى لطاعة الله - تعالى - وشكره على آلائه .
3- قوله - تعالى - : { وَأَمْدَدْنَاكُم بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيراً } أكثر ما يكون انطباقا على عهد حكم طالوت ، وداود ، وسليمان لهم .
ففى هذا العهد الذى دام زهاء ثمانين سنة ، ازدهرت مملكتهم ، وعز سلطانهم وأمدهم الله خلاله بالأموال الوفيرة ، وبالبنين الكثيرة ، وجعلهم أكثر من أعدائهم عددا وقوة .
أما بعد هذا العهد ، بل وقبل هذا العهد ، فقد كانت حياتهم سلسلة من المآسى والنكبات .
فبعد موت سليمان - عليه السلام - سنة 975 ق . م تقريبا ، انقسمت مملكتهم إلى قسمين : مملكة يهوذا فى الجنوب ، ومملكة إسرائيل فى الشمال ، واستمرتا فى صراع ونزاع حتى قضى الأشوريون سنة 721 ق . م على مملكة إسرائيل ، وقضى " بختنصر " على مملكة يهوذا سنة 588 ق . م .
4- ذكر بعض المفسرين أن العباد الذين سلطهم الله عليهم بعد إفسادهم الأول هم جالوت وجنوده .
أخرج ابن جرير وابن أبى حاتم عن ابن عباس فى قوله : { فَإِذَا جَآءَ وَعْدُ أُولاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَاداً لَّنَآ أُوْلِي بَأْسٍ شَدِيدٍ } قال : بعث الله عليهم فى الأولى جالوت ، فجاس خلال ديارهم ، فسألوا الله - تعالى - أن يبعث لهم ملكا ، فبعث لهم طالوت ، فقاتلوا جالوت ، وانتصروا عليه ، وقتل داود جالوت ، ورجع إلى بنى اسرائيل ملكهم . فلما أفسدوا بعث الله عليهم فى المرة الآخرة " بختنصر " فخرب المساجد ، وتبر ما علوا تتبيرا . . .
هذه بعض الأدلة التى تجعلنا نرجح أن المراد بالعباد الذين سلطهم الله - تعالى - على بنى إسرائيل بعد إفسادهم الأول فى الأرض ، هم جالوت وجنوده .
أما العباد الذين سلطهم الله عليهم بعد إفسادهم الثانى ، فيرى كثير من المفسرين أنهم " بختنصر " وجنوده .
وهذا الرأى ليس ببعيد عن الصواب ، لما ذكرنا قبل ذلك من تنكيله بهم ، وسوقهم أسارى إلى بابل سنة 588 ق . م .
إلا أننا نؤثر على هذا الرأى ، أن يكون المسلط عليهم بعد إفسادهم الثانى ، هم الرومان بقيادة زعيمهم ، تيطس سنة 70 م . لأمور من أهمها : .
1- أن الذى يتتبع التاريخ يرى أن رذائل بنى إسرائيل فى الفترة التى سبقت تنكيل " تيطس " بهم ، أشد وأكبر من الرذائل التى سبقت إذلال " بختنصر " لهم . فهم - على سبيل المثال - قبيل بطش الرومان بهم ، كانوا قد قتلوا من أنبياء الله زكريا ويحيى - عليهما السلام - ، وكانوا قد حاولوا قتل عيسى - عليه السلام - ولكن الله - تعالى - نجاه من شرورهم .
2- ضربات الرومان - فى ذاتها - كانت أشد وأقسى على بنى اسرائيل . من ضربات " بختنصر " لهم .
فمثلا عدد القتلى من اليهود على يد الرومان بقيادة " تيطس " بلغ مليون قتيل ، وبلغ عدد الأسرى نحو مائة ألف أسير .
بينما عدد القتلى والأسرى منهم على يد " بختنصر " كان أقل من هذا العدد بكثير .
ولقد وصف المؤرخون النكبة التى أوقعها الرومان بهم ، بأوصاف تفوق بكثير ما أوقعه البابليون بقيادة بختنصر بهم .
يقول أحد الكتاب واصفا ما حل باليهود على يد " تيطس " الرومانى : كان " تيطس " فى الثلاثين من عمره ، حين وقف سنة 70 م أمام أسوار أورشليم على رأس جيشه ، بعد أن بدأت المدينة تعانى من أهوال الحصار .
وبعد أن اقتحم " تيطس " وجنوده المدينة ، أصدر أمره إليهم : أن احرقوا وانهبوا واقتلوا ، فأموال اليهود وأعراضهم حلال لكم ، وقد أحرق الرومان معبد اليهود ودمروه ، وتحققت نبوءة المسيح - عليه السلام - حين قال : ستلقى هذه الأرض بؤسا وعنتا ، وسيحل الغضب على أهلها ، وسيسقطون صرعى على حد السيف ، ويسيرون عبيدا إلى كل مصر ، وستطأ أورشليم الأقدام .
3- النكبة التى أنزلها الرومان بهم - من حيث آثارها - أشنع بكثير من النكبة التى أنزلها بختنصر بهم . لأنهم بعد تنكيل بختنصر بهم وأخذهم أسرى إلى بلاده وبقائهم فى الأسر زهاء خمسين سنة عادوا إلى ديارهم مرة أخرى ، بمساعدة " قورش " ملك الفرس ، الذى انتصر على " بختنصر " سنة 538 ق . م تقريبا ، وبدأوا يتكاثرون من جديد .
أما بعد تنكيل " تيطس " بهم فلم تقم لهم قائمة ، ومزقوا فى الأرض شر ممزق ، وانقطع دابرهم كأمة .
وقد صرح بهذا المعنى صاحب تاريخ الإِسرائيليين فقال بعد وصفه لما أوقعه " تيطس " بهم من ضربات : إلى هنا ينتهى تاريخ الإِسرائيليين كأمة ، فإنهم بعد خراب أورشليم على يد " تيطس " تفرقوا فى جميع بلاد الله ، وتاريخهم بعد ذلك ملحق بتاريخ الممالك التى توطنوها أو نزلوا فيها .
القول في تأويل قوله تعالى : { عَسَىَ رَبّكُمْ أَن يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدتّمْ عُدْنَا وَجَعَلْنَا جَهَنّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيراً } .
يقول تعالى ذكره : لعلّ ربكم يا بني إسرائيل أن يرحمكم بعد انتقامه منكم بالقوم الذين يبعثهم الله عليكم ليسوء مبعثه عليكم وجوهكم ، وليدخلوا المسجد كما دخلوه أوّل مرّة ، فيستنقذكم من أيديهم ، وينتشلكم من الذلّ الذي يحله بكم ، ويرفعكم من الخمولة التي تصيرون إليها ، فيعزّكم بعد ذلك . و«عسى » من الله : واجب . وفعل الله ذلك بهم ، فكثر عددهم بعد ذلك ، ورفع خَساستهم ، وجعل منهم الملوك والأنبياء ، فقال جلّ ثناؤه لهم : وإن عدتم يا معشر بني إسرائيل لمعصيتي وخلاف أمري ، وقتل رسلي ، عدنا عليكم بالقتل والسّباء ، وإحلال الذلّ والصّغار بكم ، فعادوا ، فعاد الله عليهم بعقابه وإحلال سخطه بهم . وبنحو الذي قلنا في ذلك ، قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا ابن عطية ، عن عمر بن ثابت ، عن أبيه ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، في قوله : عَسَى رَبّكُمْ أنْ يَرْحَمكُمْ وَإنْ عُدْتُمْ عَدْنا قال : عادوا فعاد ، ثم عادوا فعاد ، ثم عادوا فعاد . قال : فسلّط الله عليهم ثلاثة ملوك من ملوك فارس : سندبادان وشهربادان وآخر .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قال : قال الله تبارك وتعالى بعد الأولى والاَخرة : عَسَى رَبّكُمْ أنْ يَرْحَمَكُمْ وَإنْ عُدْتُمْ عُدْنا قال : فعادوا فسلّط الله عليهم المؤمنين .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قال عَسَى رَبّكُمْ أنْ يَرْحَمَكُمْ فعاد الله عليهم بعائدته ورحمته وَإنْ عُدْتُمْ عُدْنا قال : عاد القوم بشرّ ما يحضرهم ، فبعث الله عليهم ما شاء أن يبعث من نقمته وعقوبته . ثم كان ختام ذلك أن بعث الله عليهم هذا الحيّ من العرب ، فهم في عذاب منهم إلى يوم القيامة قال الله عزّ وجلّ في آية أخرى وَإذْ تَأذّنَ رَبّكَ لَيَبْعَثنّ عَلَيْهِمْ إلى يَوْمِ القِيامَةِ . . . الاَية ، فبعث الله عليهم هذا الحيّ من العرب .
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ، قال عَسَى رَبّكُمْ أنْ يَرْحَمَكُمْ وَإنْ عُدْتُمْ عُدْنا فعادوا ، فبعث الله عليهم محمدا صلى الله عليه وسلم ، فهم يعطون الجزية عن يد وهم صاغرون .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قول الله تعالى : عَسَى رَبّكُمْ أنْ يَرْحَمَكُمْ قال بعد هذا وَإنْ عُدْتُمْ لما صنعتم لمثل هذا من قتل يحيى وغيره من الأنبياء عُدْنا إليكم بمثل هذا .
وقوله : وَجَعَلْنا جَهَنّمَ للكافِرِينَ حَصِيرا اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك ، فقال بعضهم : وجعلنا جهنم للكافرين سجنا يسجنون فيها . ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن مَسْعدة ، قال : حدثنا جعفر بن سليمان ، عن أبي عمران وجَعَلْنا جَهَنّمَ للكافِرِين حَصِيرا قال : سجنا .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : وَجَعَلْنا جَهَنّمَ للكافِرِينَ حَصِيرا يقول : جعل الله مأواهم فيها .
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة وَجَعَلْنا جَهَنّمَ للكافِرِينَ حَصِيرا قال : مَحْبِسا حَصُورا .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة وَجَعَلْنا جَهَنّمَ للْكافِرِينَ حَصِيرا يقول : سجنا .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قول الله تعالى : حَصِيرا قال : يحصرون فيها .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد وَجَعَلْنا جَهَنّمَ للْكافِرِينَ حَصِيرا قال : يُحصرون فيها .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : وَجَعَلْنا جَهَنّمَ للكافِرِينَ حَصِيرا سجنا يسجنون فيها حصروا فيها .
حدثنا عليّ بن داود ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله وَجَعَلْنا جَهَنّمَ للكافِرِينَ حَصِيرا يقول : سجنا .
وقال آخرون : معناه : وجعلنا جهنم للكافرين فراشا ومهادا . ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، قال : قال الحسن : الحصير : فِراش ومِهاد .
وذهب الحسن بقوله هذا إلى أن الحصير في هذا الموضع عني به الحصير الذي يُبْسط ويفترش ، وذلك أن العرب تسمى البساط الصغير حصيرا ، فوجّه الحسن معنى الكلام إلى أن الله تعالى جعل جهنم للكافرين به بساطا ومهادا ، كما قال : لَهُمْ مِنْ جَهَنّمَ مِهادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ وهو وجه حسن وتأويل صحيح . وأما الاَخرون ، فوجهوه إلى أنه فعيل من الحصر الذي هو الحبس . وقد بيّنت ذلك بشواهده في سورة البقرة ، وقد تسمي العرب الملك حصيرا بمعنى أنه محصور : أي محجوب عن الناس ، كما قال لبيد :
وَمَقامَةٍ غُلْبِ الرّقابِ كأنّهُمْ *** جِنّ لَدَى بابِ الحَصِيرِ قِيامُ
يعني بالحصير : الملك ، ويقال للبخيل : حصور وحصر : لمنعه ما لديه من المال عن أهل الحاجة ، وحبسه إياه عن النفقة ، كما قال الأخطل :
وَشارِبٍ مُرْبحٍ بالكأْسِ نادَمَنِي *** لا بالحَصُورِ وَلا فِيها بِسَوّارِ
ويروى : بسآر . ومنه الحصر في المنطق لامتناع ذلك عليه ، واحتباسه إذا أراده . ومنه أيضا الحصور عن النساء لتعذّر ذلك عليه ، وامتناعه من الجماع ، وكذلك الحصر في الغائط : احتباسه عن الخروج ، وأصل ذلك كله واحد وإن اختلفت ألفاظه . فأما الحصيران : فالجنبان ، كماقال الطرّماح :
قَلِيلاً تَتَلّى حاجَةً ثُمّ عُولِيَتْ *** عَلى كُلّ مَفْرُوشِ الحَصِيرَيْنِ بادِنِ
والصواب من القول في ذلك عندي أي يقال : معنى ذلك : وَجَعَلْنا جَهَنَمٍ للْكافرِينَ حَصِيرا فراشا ومهادا لا يزايله من الحصير الذي بمعنى البساط ، لأن ذلك إذا كان كذلك كان جامعا معنى الحبس والامتهاد ، مع أن الحصير بمعنى البساط في كلام العرب أشهر منه بمعنى الحبس ، وأنها إذا أرادت أن تصف شيئا بمعنى حبس شيء ، فإنما تقول : هو له حاصر أو محصر فأما الحصير فغير موجود في كلامهم ، إلا إذا وصفته بأنه مفعول به ، فيكون في لفظ فعيل ، ومعناه مفعول به ألا ترى بيت لبيد : لدى باب الحصير ؟ فقل : لدى باب الحصير ، لأنه أراد : لدى باب المحصور ، فصرف مفعولاً إلى فعيل . فأما فعيل في الحصر بمعنى وصفه بأنه الحاصر . فذلك ما لا نجده في كلام العرب ، فلذلك قلت : قول الحسن أولى بالصواب في ذلك . وقد زعم بعض أهل العربية من أهل البصرة أن ذلك جائز ، ولا أعلم لما قال وجها يصحّ إلا بعيدا وهو أن يقال : جاء حصير بمعنى حاصر ، كما قيل : عليم بمعنى عالم ، وشهيد بمعنى شاهد ، ولم يسمع ذلك مستعملاً في الحاصر كما سمعنا في عالم وشاهد .
{ عسى ربكم أن يرحمكم } بعد المرة الآخرة . { وإن عدتم } نوبة أخرى . { عُدنا } مرة ثالثة إلى عقوبتكم وقد عادوا بتكذيب محمد صلى الله عليه وسلم ، وقصد قتله فعاد الله تعالى بتسليطه عليهم فقتل قريظة وأجلى بني النضير ، وضرب الجزية على الباقين هذا لهم في الدنيا . { وجعلنا جهنم للكافرين حصيرا } محبسا لا يقدرون على الخروج منها أبد الآباد . وقيل بساطا كما يبسط الحصير .
يقول الله عز وجل لبقية بني إسرائيل { عسى ربكم } إن أطعتم في أنفسكم واستقمتم { أن يرحمكم } ، و { عسى } ترجّ في حقهم وهذه العدة ليست برجوع دولة وإنما هي بأن يرحم المطيع منهم ، وكان من الطاعة اتباعهم لعيسى ومحمد فلم يفعلوا وعادوا إلى الكفر والمعصية ، فعاد عقاب الله فضرب عليهم الذل وقتلهم وأذلهم بيد كل أمة ، وهنا قال ابن عباس سلط عليهم ثلاثة ملوك ، و «الحصير » فعيل من الحصر فهو بمعنى السجن أي يحصرهم ، وبنحو هذا فسر مجاهد ، وقتادة وغيرهما ، ويقال «الحصير » أيضاً من الحصر للملك ومنه قول لبيد : [ الكامل ]
ومقامة غلب الرقاب كأنهم . . . جن لدى باب الحصير قيام{[7481]}
ويقال لجنى الإنسان الحصيران لأنهما يحصرانه ومنه قول الطرماح : [ الطويل ]
قليلاً تتلى حاجة ثم غولبت . . . على كل معروش الحصيرين بادن{[7482]}
وقال الحسن البصري في الآية : أراد ما يفترش ويبسط كالحصير المعروف عن الناس{[7483]} .
قال القاضي أبو محمد : وذلك الحصير أيضاً هو مأخوذ ، من الحصر ،
قوله : { وإن عدتم عدنا } يجوز أن تكون الواو عاطفة على جملة { عسى ربكم أن يرحمكم } عطفَ الترهيب على الترغيب .
ويجوز أن تكون معترضة والواو اعتراضية . والمعنى : بعد أن يرحمكم ربكم ويؤمنكم في البلاد التي تلْجأون إليها ، إن عدتم إلى الإفساد عدنا إلى عقابكم ، أي عدنا لمثل ما تقدم من عقاب الدنيا .
وجملة { وجعلنا جهنم للكافرين حصيراً } عطف على جملة { عسى ربكم أن يرحمكم } لإفادة أن ما ذكر قبله من عقاب إنما هو عقاب دنيوي وأن وراءه عقاب الآخرة .
وفيه معنى التذييل لأن التعريف في { للكافرين } يعم المخاطبين وغيرهم . ويومىء هذا إلى أن عقابهم في الدنيا ليس مقصوراً على ذنوب الكفر بل هو منوط بالإفساد في الأرض وتعدي حدود الشريعة . وأما الكفر بتكذيب الرسل فقد حصل في المرة الآخرة فإنهم كذبوا عيسى ، وأما في المرة الأولى فلم تأتهم رسل ولكنهم قتلوا الأنبياء مثل أشعياء ، وأرمياء ، وقتل الأنبياء كفر .
والحصير : المكان الذي يحصر فيه فلا يستطاع الخروج منه ، فهو إما فعيل بمعنى فاعل ، وإما بمعنى مفعول على تقدير متعلق ، أي محصور فيه .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: لعلّ ربكم يا بني إسرائيل أن يرحمكم بعد انتقامه منكم بالقوم الذين يبعثهم الله عليكم ليسوء مبعثه عليكم وجوهكم، وليدخلوا المسجد كما دخلوه أوّل مرّة، فيستنقذكم من أيديهم، وينتشلكم من الذلّ الذي يحله بكم، ويرفعكم من الخمولة التي تصيرون إليها، فيعزّكم بعد ذلك. و«عسى» من الله: واجب. وفعل الله ذلك بهم، فكثر عددهم بعد ذلك، ورفع خَساستهم، وجعل منهم الملوك والأنبياء، فقال جلّ ثناؤه لهم: وإن عدتم يا معشر بني إسرائيل لمعصيتي وخلاف أمري، وقتل رسلي، عدنا عليكم بالقتل والسّباء، وإحلال الذلّ والصّغار بكم، فعادوا، فعاد الله عليهم بعقابه وإحلال سخطه بهم... عن ابن عباس، قال: قال الله تبارك وتعالى بعد الأولى والآخرة:"عَسَى رَبّكُمْ أنْ يَرْحَمَكُمْ وَإنْ عُدْتُمْ عُدْنا" قال: فعادوا فسلّط الله عليهم المؤمنين...
عن قتادة، قال "عَسَى رَبّكُمْ أنْ يَرْحَمَكُمْ "فعاد الله عليهم بعائدته ورحمته "وَإنْ عُدْتُمْ عُدْنا" قال: عاد القوم بشرّ ما يحضرهم، فبعث الله عليهم ما شاء أن يبعث من نقمته وعقوبته، ثم كان ختام ذلك أن بعث الله عليهم هذا الحيّ من العرب...
"وَجَعَلْنا جَهَنّمَ للكافِرِينَ حَصِيرا" اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك، فقال بعضهم: وجعلنا جهنم للكافرين سجنا يسجنون فيها...
وقال آخرون: معناه: وجعلنا جهنم للكافرين فراشا ومهادا...
والصواب من القول في ذلك عندي أي يقال: معنى ذلك: "وَجَعَلْنا جَهَنَمٍ للْكافرِينَ حَصِيرا" فراشا ومهادا لا يزايله، من الحصير الذي بمعنى البساط، لأن ذلك إذا كان كذلك كان جامعا معنى الحبس والامتهاد، مع أن الحصير بمعنى البساط في كلام العرب أشهر منه بمعنى الحبس، وأنها إذا أرادت أن تصف شيئا بمعنى حبس شيء، فإنما تقول: هو له حاصر أو محصر فأما الحصير فغير موجود في كلامهم، إلا إذا وصفته بأنه مفعول به، فيكون في لفظ فعيل، ومعناه مفعول به...
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{عسى ربكم أن يرحمكم} يحتمل أن يكون ذلك لأولئك الذين تقدم ذكرهم، وفيهم نزل ما نزل: يرحمهم إن تابوا. ويشبه أن يكون على الابتداء {عسى ربكم أن يرحمكم} بمحمد.
{وإن عدتم عدنا} أي {وإن عدتم} إلى التكذيب والعصيان {عدنا} إلى العقوبة والقتال إلى يوم القيامة.
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
إنْ أحسنتُم فثوابِكم كسبتم، وإنْ أسأتم فعداءَكم جَلَبْتُم -والحقُّ أعزُّ مِنْ أَنْ يعودَ إليه من أفعال عبادِه زَيْنٌ أو يلحقه شَيْنٌ...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{عسى رَبُّكُمْ أَن يَرْحَمَكُمْ} بعد المرة الثانية إن تبتم توبة أخرى وانزجرتم عن المعاصي
{وَإِنْ عُدتُّمْ} مرة ثالثة {عُدْنَا} إلى عقوبتكم وقد عادوا، فأعاد الله إليهم النقمة بتسليط الأكاسرة وضرب الأتاوة عليهم وعن الحسن: عادوا فبعث الله محمداً، فهم يعطون الجزية عن يد وهم صاغرون...
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
يقول الله عز وجل لبقية بني إسرائيل {عسى ربكم} إن أطعتم في أنفسكم واستقمتم {أن يرحمكم}، و {عسى} ترجّ في حقهم وهذه العدة ليست برجوع دولة وإنما هي بأن يرحم المطيع منهم، وكان من الطاعة اتباعهم لعيسى ومحمد فلم يفعلوا وعادوا إلى الكفر والمعصية، فعاد عقاب الله فضرب عليهم الذل وقتلهم وأذلهم بيد كل أمة...
{عسى ربكم أن يرحمكم} والمعنى: لعل ربكم أن يرحمكم ويعفو عنكم بعد انتقامه منكم يا بني إسرائيل. ثم قال: {وإن عدتم عدنا} يعني: أن بعثنا عليكم من بعثنا، ففعلوا بكم ما فعلوا عقوبة لكم وعظة لتنتفعوا به وتنزجروا به عن ارتكاب المعاصي، ثم رحمكم فأزال هذا العذاب عنكم، فإن عدتم مرة أخرى إلى المعصية عدنا إلى صب البلاء عليكم في الدنيا مرة أخرى. قال القفال: وإنما حملنا هذه الآية على عذاب الدنيا لقوله تعالى في سورة الأعراف خبرا عن بني إسرائيل: {وإذ تأذن ربك ليبعثن عليهم إلى يوم القيامة من يسومهم سوء العذاب} ثم قال: {وإن عدتم عدنا} أي وإنهم قد عادوا إلى فعل ما لا ينبغي وهو التكذيب لمحمد صلى الله عليه وسلم وكتمان ما ورد في التوراة والإنجيل، فعاد الله عليهم بالتعذيب على أيدي العرب. فجرى على بني النضير وقريظة وبني قينقاع ويهود خيبر ما جرى من القتل والجلاء، ثم الباقون منهم مقهورون بالجزية لا ملك لهم ولا سلطان. ثم قال تعالى: {وجعلنا جهنم للكافرين حصيرا} والحصير فعيل فيحتمل أن يكون بمعنى الفاعل، أي وجعلنا جهنم حاصرة لهم، ويحتمل أن يكون بمعنى مفعول، أي جعلناها موضعا محصورا لهم، والمعنى أن عذاب الدنيا وإن كان شديدا قويا إلا أنه قد يتفلت بعض الناس عنه، والذي يقع في ذلك العذاب يتخلص عنه، إما بالموت وإما بطريق آخر، وأما عذاب الآخرة فإنه يكون حاصرا للإنسان محيطا به لا رجاء في الخلاص عنه، فهؤلاء الأقوام لهم من عذاب الدنيا ما وصفناه ويكون لهم بعد ذلك من عذاب الآخرة ما يكون محيطا بهم من جميع الجهات ولا يتخلصون منه أبدا.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ولما انقضى ذلك، كان كأنه قيل: أما لهذه المرة من كرة كالأولى؟ فأطمعهم بقوله سبحانه وتعالى: {عسى ربكم} أي الذي عودكم بإحسانه {أن يرحمكم} فيتوب عليكم ويكرمكم؛ ثم أفزعهم بقوله تعالى: {وإن عدتم} أي بما نعلم من دبركم إلى المعصية مرة ثالثة فما فوقها {عدنا} أي بما تعلمون لنا من العظمة، إلى عذابكم في الدنيا، وقد عادوا غير مرة بما أشار إليه الكلام، وإن كان في سياق الشرط، ليظهر الفرق بين كلام العالم وغيره... {وجعلنا} أي بعد ذلك بعظمتنا {جهنم} التي تلقى داخلها بالتهجم والكراهة {للكافرين} وهذا الوصف الظاهر موضع ضمير لبيان تعليق الحكم به على سبيل الرسوخ سواء في ذلك هم وغيرهم، وفيه إشارة إلى أنهم يعودون إلى الإفساد، وإلى أن منهم من يؤمن ومنهم من يكفر {حصيراً} أي محبساً يحصرهم غاية الحصر، وعن الحسن أن الحصير هو الذي يفرش ويبسط، فالمعنى أنه يجعلها مهادهم.
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
وفي هذه الآيات التحذير لهذه الأمة من العمل بالمعاصي لئلا يصيبهم ما أصاب بني إسرائيل، فسنة الله واحدة لا تبدل ولا تغير. ومن نظر إلى تسليط الكفرة على المسلمين والظلمة، عرف أن ذلك من أجل ذنوبهم عقوبة لهم وأنهم إذا أقاموا كتاب الله وسنة رسوله، مكن لهم في الأرض ونصرهم على أعدائهم.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
(وإن عدتم عدنا).. ولقد عادوا إلى الإفساد فسلط الله عليهم المسلمين فأخرجوهم من الجزيرة كلها. ثم عادوا إلى الإفساد فسلط عليهم عبادا آخرين، حتى كان العصر الحديث فسلط عليهم "هتلر "ولقد عادوا اليوم إلى الإفساد في صورة "إسرائيل" التي أذاقت العرب أصحاب الأرض الويلات. وليسلطن الله عليهم من يسومهم سوء العذاب، تصديقا لوعد الله القاطع، وفاقا لسنته التي لا تتخلف.. وإن غدا لناظره قريب!
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
{وإن عدتم عدنا} يجوز أن تكون الواو عاطفة على جملة {عسى ربكم أن يرحمكم} عطفَ الترهيب على الترغيب. ويجوز أن تكون معترضة والواو اعتراضية. والمعنى: بعد أن يرحمكم ربكم ويؤمنكم في البلاد التي تلْجؤون إليها، إن عدتم إلى الإفساد عدنا إلى عقابكم، أي عدنا لمثل ما تقدم من عقاب الدنيا. وجملة {وجعلنا جهنم للكافرين حصيراً} عطف على جملة {عسى ربكم أن يرحمكم} لإفادة أن ما ذكر قبله من عقاب إنما هو عقاب دنيوي وأن وراءه عقاب الآخرة. وفيه معنى التذييل لأن التعريف في {للكافرين} يعم المخاطبين وغيرهم. ويومئ هذا إلى أن عقابهم في الدنيا ليس مقصوراً على ذنوب الكفر بل هو منوط بالإفساد في الأرض وتعدي حدود الشريعة...
و (عسى) حرف يدل على الرجاء، وكأن في الآية إشارة إلى أنهم سيظلون في مذلة ومسكنة، ولن ترتفع لهم رأس إلا في ظل حبل من الله وعهد منه، وحبل من الناس الذين يعاهدونهم على النصرة والتأييد والحماية... وقوله: {ربكم}: انظر فيه إلى العظمة الإلهية، ورحمة الرب سبحانه الذي ما يزال يخاطب الكافرين الملحدين المعاندين لرسوله، وهو آخر رسول يأتي من السماء، ومع ذلك كله يخاطبهم بقوله: {ربكم}: لأن الرب هو المتولي للتربية والمتكفل بضمان مقومات الحياة لا يضن بها حتى وإن كان العبد كافراً، فالكل أمام عطاء الربوبية سواء: المؤمن والكافر، والطائع والعاصي. الجميع يتمتع بنعم الله: الشمس والهواء والطعام والشراب، فهو سبحانه لا يزال ربهم مع كل ما حدث منهم... وقوله تعالى: {أن يرحمكم}: والرحمة تكون للإنسان إذا كان في موقف يستحق فيه الرحمة واليهود لن تكون لهم دولة، ولن يكون لهم كيان، بل يعيشون في حضن الرحمة الإيمانية الإسلامية التي تعطي لهم فرصة التعايش مع الإسلام معايشة، كالتي كانت لهم في مدينة رسول الله، يوم أن أكرمهم وتعاهد معهم...
ثم يهدد الحق سبحانه بني إسرائيل، فيقول: {وإن عدتم عدنا}: إن عدتم للفساد، عدنا، وهذا جزاء الدنيا، وهو لا ينجيكم من جزاء الآخرة، فهذه مسألة وتلك أخرى حتى لا يفهموا أن العقاب على الذنوب في الدنيا يبرئهم من عذاب الآخرة. فالعقوبة على الذنب التي تبرئ المذنب من عذاب الآخرة ما كان في حضن الإسلام، وإلا لاستوى من أقيم عليه الحد مع من لم يقم عليه الحد...
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
في هذه الحالة فإِنّ أبواب التوبة الإِلهية مفتوحة: (عسى ربّكم أن يرحمكم). (وإِنّ عدتم عدنا) أي إِن عدتم لنا بالتوبة فسوف نعود عليكم بالرحمة، وإِن عدتم للإِفساد عدنا عليكم بالعقوبة. وإِذا كان هذا جزاؤكم في الدنيا ففي الآخرة مصيركم جهنم: (وجعلنا جهنَّم للكافرين حصيراً)... الآيات تتحدث بصراحة عن بني إِسرائيل، ولكنّها تتحدث عن التشابه بين نهج هؤلاء (بني إِسرائيل) ونهج ما يقع على شبههم وحالتهم في أحداث التأريخ الإِسلامي. وهكذا ننتهي إلى نتيجة مؤدّاها أنّ الآيات وإِن تحدّثت عن خصوصيات بني إِسرائيل، إِلاّ أنّها تتسع في مفهومها لترتفع إلى مستوى القاعدة الكلية، والسنَّة المستمرّة في تأريخ البشرية بما يطويه من حياة شعوب وأُمم...