{ 18-21 } { مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا * وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا * كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا * انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا }
يخبر تعالى أن { مَنْ كَانَ يُرِيدُ } الدنيا { العاجلة } المنقضية الزائلة فعمل لها وسعى ، ونسي المبتدأ أو المنتهى أن الله يعجل له من حطامها ومتاعها ما يشاؤه ويريده مما كتب [ الله ] له في اللوح المحفوظ ولكنه متاع غير نافع ولا دائم له .
ثم يجعل له في الآخرة { جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا } أي : يباشر عذابها { مَذْمُومًا مَدْحُورًا } أي : في حالة الخزي والفضيحة والذم من الله ومن خلقه ، والبعد عن رحمة الله فيجمع له بين العذاب والفضيحة .
ثم بين - سبحانه - بعد ذلك مصير الذين يؤثرون العاجلة على الآجلة ، فقال - تعالى - : { مَّن كَانَ يُرِيدُ العاجلة عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَآءُ لِمَن نُّرِيدُ } .
والمراد بالعاجلة : دار الدنيا ، وهى صفة لموصوف محذوف أى : الدار العاجلة التى ينتهى كل شئ فيها بسرعة وعجلة .
أى : من كان يريد بقوله وعمله وسعيه ، زينة الدار العاجلة وشهواتها فحسب ، دون التفات إلى ثواب الدار الآخرة ، { عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا } أى : عجلنا لذلك الإِنسان فى هذه الدنيا ، { ما نشاء } تعجيله له من زينتها ومتعها . .
وهذا العطاء العاجل المقيد بمشيئتنا ليس لكل الناس ، وإنما هو { لمن نريد } عطاءه منهم ، بمقتضى حكمتنا وإرادتنا .
فأنت ترى أنه - سبحانه - قد قيد العطاء لمن يريد العاجلة بمشيئته وإرادته .
ورحم الله صاحب الكشاف فقد قال عند تفسيره لهذه الآية : " من كانت العاجلة همه ، ولم يرد غيرها كالكفرة وأكثر الفسقة ، تفضلنا عليه من منافعها بما نشاء لمن نريد . فقيد الأمر تقييدين : أحدهما : تقييد المعجل بمشيئته ، والثانى : تقييد المعجل له بإرادته .
وهكذا الحال ، ترى كثيرا من هؤلاء يتمنون ما يتمنون ولا يعطون إلا بعضا منه ، وكثيرا منهم يتمنون ذلك البعض وقد حرموا فاجتمع عليهم فقر الدنيا وفقر الآخرة وأما المؤمن التقى فقد اختار مراده ، وهو غنى الآخرة فما يبالى أوتى حظا من الدنيا أو لم يؤت . فإن أوتى فيها شكر ، وإن لم يؤت صبر ، فربما كان الفقر خيرا له ، وأعون على مراده .
وقوله { لمن نريد } بدل من { له } وهو بدل البعض من الكل ، لأن الضمير يرجع إلى { من } وهو فى معنى الكثرة ومفعول نريد محذوف . أى : لمن نريد عطاءه .
وقوله : { ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُوماً مَّدْحُوراً } بيان لسوء مصير هذا المريد للعاجلة فى الآخرة .
و { يصلاها } أى : يلقى فيها ويذوق حرها وسعيرها : يقال : صليت الشاة : شويتها وصَلِىَ فلان بالنار - من باب تعب - إذا وجد حرها .
و { مذموما } من الذم الذى هو ضد المدح .
و { مدحورا } من الدحور بمعنى الطرد واللعن . يقال : دحره دحرا ودحورا ، إذا طرده وأبعده .
أى : من كان يريد بسعيه الدنيا وزينتها أعطيناه منها مانشاء إعطاءه له ، أما فى الآخرة فقد جعلنا له جهنم يدخلها ، ويصلى حرها ولهيبها ، حالة كونه { مذموما } أى مبغوضا بسبب سوء صنيعه ، { مدحورا } أى : مطرودا ومبعدا من رحمة الله - تعالى - .
قال الإِمام الرازى ما ملخصه : وفى لفظ هذه الآية فوائد : منها : أن العقاب عبارة عن مضرة مقرونة بالإِهانة والذم ، بشرط أن تكون دائمة وخالية عن شوب المنفعة فقوله : { ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا } إشارة إلى المضرة العظيمة . وقوله { مذموما } إشارة إلى الإِهانة والذم . وقوله { مدحورا } إشارة إلى البعد والطرد عن رحمة الله - تعالى - .
وهى تفيد كون تلك المضرة خالية عن شوب النفع والرحمة ، وتفيد كونها دائمة وخالية عن التبدل بالراحة والخلاص .
القول في تأويل قوله تعالى : { مّن كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَآءُ لِمَن نّرِيدُ ثُمّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنّمَ يَصْلاهَا مَذْمُوماً مّدْحُوراً } .
يقول تعالى ذكره : من كان طلبه الدنيا العاجلة ولها يعمل ويسعى ، وإياها يبتغي ، لا يوقن بمعاد ، ولا يرجو ثوابا ولا عقابا من ربه على عمله عَجّلْنا لَهُ فِيها ما نَشاءُ لِمَنْ نُرِيدُ يقول : يعجل الله له في الدنيا ما يشاء من بسط الدنيا عليه ، أو تقتيرها لمن أراد الله أن يفعل ذلك به ، أو إهلاكه بما يشاء من عقوباته . ثُمّ جَعَلْنا لَهُ جَهَنّمَ يَصْلاها يقول : ثم أصليناه عند مقدمه علينا في الاَخرة جهنم ، مَذْمُوما على قلة شكره إيانا ، وسوء صنيعه فيما سلف من أيادينا عنده في الدنيا مَدْحُورا يقول : مبعدا : مقصى في النار . وبنحو الذي قلنا في ذلك ، قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : مَنْ كانَ يُرِيدُ العاجِلَةَ عَجّلْنا لَهُ فِيها ما نَشاءُ لِمَنْ نُرِيدُ يقول : من كانت الدنيا همّه وسَدَمَه وطلبته ونيته ، عجّل الله له فيها ما يشاء ، ثم اضطّره إلى جهنم . قال : ثمّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنّمَ يَصْلاَهَا مَذْمُوما مَدْحُورا مذموما في نعمة الله مدحورا في نقمة الله .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني أبو طيبة شيخ من أهل المصيصة ، أنه سمع أبا إسحاق الفزاري يقول : عَجّلْنا لَهُ فِيها ما نَشاءُ لِمَنْ نُرِيدُ قال : لمن نريد هلكته .
حدثني عليّ بن داود ، قال : حدثنا عبد الله ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله مَذْمُوما يقول : ملوما .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعاجِلَةَ عَجّلْنا لَهُ فِيها ما نَشاءُ لِمَنْ نُرِيدُ قال : العاجلة : الدنيا .
{ من كان يريد العاجلة } مقصورا عليها همه . { عجّلنا له فيها ما نشاء لمن نريد } قيد المعجل والمعجل له بالمشيئة والإرادة لأنه لا يجد كل متمن ما يتمناه ، ولا كل واجد جميع ما يهواه وليعلم أن الأمر بالمشيئة والهم فضل . { ولمن نريد } بدل من له بدل البعض . وقرئ " ما يشاء " والضمير فيه لله تعالى حتى يطابق المشهورة . وقيل { لمن } فيكون مخصوصا بمن أراد الله تعالى به ذلك . وقيل الآية في المنافقين كانوا يراءون المسلمين ويغزون معهم ولم يكن غرضهم إلا مساهمتهم في الغنائم ونحوها . { ثم جعلنا له جهنم يصلاها مذموما مدحورا } مطرودا من رحمة الله تعالى .
المعنى من كان يريد الدنيا العاجلة ولا يعتقد غيرها ولا يؤمن بآخرة فهو يفرغ أمله ومعتقده للدنيا ، فإن الله يعجل لمن يريد من هؤلاء ما يشاء هذا المريد أو ما يشاء الله على قراءة من قرأ «نشاء » بالنون ، وقوله { لمن يريد } شرط كاف على القراءتين ثم يجعل الله جهنم لجميع مريدي العاجلة على جهة الكفر من أعطاه فيها ما يشاء ومن حرمه ، قال أبو إسحاق الفزاري المعنى لمن نريد هلكته ، وقرأ الجمهور : «نشاء » بالنون ، وقرأ نافع أيضاً «يشاء » بالياء ، و «المدحور » المهان المبعد المذلل المسخوط عليه .
هذا بيان لجملة { من اهتدى فإنما يهتدي } [ الإسراء : 15 ] وهو راجع أيضاً إلى جملة { وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه } [ الإسراء : 13 ] تدريجاً في التبيان للناس بأن أعمالهم من كسبهم واختيارهم ، فابتدئوا بأن الله قد ألزمهم تبعة أعمالهم بقوله : وكل إنسان ألزمناه طائره ثم وكل أمرهم إليهم ، وأن المسيء لا يضر بإساءته غيره ولا يحملُها عنه غيره فقال : { من اهتدى فإنما يهتدي لنفسه } الآية [ الإسراء : 15 ] . ثم أعذر إليهم بأنه لا يأخذهم على غرة ولا يأخذهم إلا بسوء أعمالهم بقوله : وما كنا معذبين إلى قوله : { خبيراً بصيراً } [ الإسراء : 15 17 ] . ثم كشف لهم مقاصدهم من أعمالهم ، وأنهم قسمان :
قسم لم يرد إلا الدنيا فكانت أعماله لمرضاة شهواته معتقداً أن الدنيا هي قصارى مراتع النفوس لا حظ لها إلا ما حصل لها في مدة الحياة لأنه لا يؤمن بالبعث فيقصر عمله على ذلك .
وقسم علم أن الفوز الحق هو فيما بعد هذه الحياة فعمل للآخرة مقتفياً ما هداه الله إليه من الأعمال بواسطة رسله وأن الله عامل كل فريق بمقدار همته .
فمعنى { كان يريد العاجلة } أنه لا يريد إلا العاجلة ، أي دون الدنيا بقرينة مقابلته بقوله : { ومن أراد الآخرة } لأن هذه المقابلة تقوم مقام الحصر الإضافي إذ ليس الحصر الإضافي سوى جملتين إثبات لشيء ونفي لخلافه . والإتيان بفعل الكون هنا مؤذن بأن ذلك ديدنه وقصارى همه ، ولذلك جعل خبر ( كان ) فعلاً مضارعاً لدلالته على الاستمرار زيادة تحقيق لتمحض إرادته في ذلك .
و { العاجلة } صفة موصوف محذوف يعلم من السياق ، أي الحياة العاجلة ، كقوله : { من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها نوف إليهم أعمالهم فيها } [ هود : 15 ] .
والمراد من التعجيل التعجيل العرفي وهو المبادرة المتعارفة ، أي أن يعطى ذلك في الدنيا قبل الآخرة ، فذلك تعجيل بالنسبة إلى الحياة الدنيا ، وقرينة ذلك قوله : فيها } . وإنما زاد قيدي { ما نشاء لمن نريد } لأن ما يعطاه من أرادوا العاجلة يعطاه بعضهم بالمقادير التي شاء الله إعطاءها .
والمشيئة : الطواعية وانتفاء الإكراه .
وقوله : { لمن نريد } بدل من قوله : { له } بدل بعض من كل بإعادة العامل ، فضمير { له } عائد إلى { من } باعتبار لفظه ، وهو عام لكل مريد العاجلة فأبدل منه بعضه ، أي عجلنا لمن نريد منكم ، ومفعول الإرادة محذوف دل عليه ما سبقه ، أي لمن نريد التعجيل له ، وهو نظير مفعول المشيئة الذي كثر حذفه لدلالة كلام سابق . وفيه خصوصية البيان بعد الإبهام . ولو كان المقصود غير ذلك لوجب في صناعة الكلام التصريح به .
والإرادة : مرادف المشيئة ، فالتعبير بها بعد قوله : { ما نشاء } تفنن . وإعادة حرف الجر العامل في المبدل منه لتأكيد معنى التبعية وللاستغناء عن الربط بضمير المبدل منهم بأن يقال : من نريد منهم .
والمعنى : أن هذا الفريق الذي يريد الحياة الدنيا فقط قد نعطي بعضهم بعض ما يريد على حسب مشيئتنا وإرادتنا لأسباب مختلفة . ولا يَخلو أحد في الدنيا من أن يكون قد عجل له بعض ما يرغبه من لذات الدنيا .
وعطف جملة { جعلنا له جهنم } بحرف ( ثم ) لإفادة التراخي الرتبي . و { له } ظرف مستقر هو المفعول الثاني ل { جعلنا } ، قدم على المفعول الأول للاهتمام .
وجملة { يصالها مذموماً مدحوراً } بيان أو بدل اشتمال لجملة { جعلنا له جهنم } و { مذموماً مدحوراً } حالان من ضمير الرفع في { يصلاها } يقال : صلى النار إذا أصابه حرقها .
والذم الوصف بالمعائب التي في الموصوف .
والمدحور : المطرود . يقال : دحره ، والمصدر : الدحور ، وتقدم عند قوله تعالى : { قال اخرج منها مذءوماً مدحوراً } في سورة [ الأعراف : 18 ] .
والاختلاف بين جملة { من كان يريد العاجلة } وجملة { ومن أراد الآخرة } بجعل الفعل مضارعاً في الأولى وماضياً في الثانية للإيماء إلى أن إرادة الناس العاجلة متكررة متجددة . وفيه تنبيه على أن أمور العاجلة متقضية زائلة ، وجعل فعل إرادة الآخرة ، ماضياً لدلالة المضي على الرسوخ تنبيهاً على أن خير الآخرة أولى بالإرادة ، ولذلك جردت الجملة من ( كان ) ومن المضارع ، وما شرط في ذلك إلا أن يسعى للآخرة سعيها وأن يكون مؤمناً .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{من كان يريد} في الدنيا، {العاجلة عجلنا له فيها}، يعني: في الدنيا،
{ما نشاء لمن نريد}، من المال، {ثم جعلنا له جهنم}، يقول: ثم نصيره إلى جهنم، {يصلاها مذموما}، عند الله، {مدحورا}، يعني: مطرودا في النار...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: من كان طلبه الدنيا العاجلة ولها يعمل ويسعى، وإياها يبتغي، لا يوقن بمعاد ولا يرجو ثوابا ولا عقابا من ربه على عمله "عَجّلْنا لَهُ فِيها ما نَشاءُ لِمَنْ نُرِيدُ "يقول: يعجل الله له في الدنيا ما يشاء من بسط الدنيا عليه، أو تقتيرها لمن أراد الله أن يفعل ذلك به، أو إهلاكه بما يشاء من عقوباته. "ثُمّ جَعَلْنا لَهُ جَهَنّمَ يَصْلاها" يقول: ثم أصليناه عند مقدمه علينا في الآخرة جهنم، "مَذْمُوما" على قلة شكره إيانا، وسوء صنيعه فيما سلف من أيادينا عنده في الدنيا، "مَدْحُورا" يقول: مبعدا: مقصى في النار...
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{من كان يريد العاجلة عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد} يحتمل هذا الوجهين:
أحدهما: أنهم كانوا يعملون بأعمالهم الحسنة في حال كفرهم من نحو الإنفاق والصدقات وبذل الأموال وغير ذلك، يريدون بذلك العز والشرف والذكر في الدنيا، فأخبر أنه من أراد بما يفعل ذلك {عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد}.
و الثاني: يكون قوله:"من كان يريد العاجلة" أي لا يريد بها إلا جمع الأموال وسعتها {عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد}. ثم أخبره أنه لا كل من أرادها يعجل له ذلك، ولا ما أراد يعجل له ذلك. ولكن إنما يعجل (الله ما أراد) ولمن أراد؛ إذ لا كل من أراد شيئا يعطى له ذلك. ثم أخبر عما يعطى في الآخرة {من كان يريد العاجلة} فقال: {ثم جعلنا له جهنم يصلاها مذموما مدحورا} أي مذموما بما يسمى بأسماء قبيحة دنيئة مذمومة عند الخلق، أو يذم، ويلام في النار {مدحورا} مطرودا من الأسماء الحسنى ومن الخيرات أو مبعدا عن رحمته. وقوله تعالى: {مذموما} عند نفسه يومئذ، أو مذموما عند الملائكة والخلق جميعا.
أخبر الله تعالى أن من كان همُّهُ مقصوراً على طلب الدنيا دون الآخرة عَجَّل له منها ما يريد، فعلّق ما يؤتيه منها بمعنيين، أحدهما قوله: {عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا ما نَشَاءُ} فلذلك استثنى في المُعْطَى، وذلك يتضمن مقداره وجنسه وإدامته أو قطعه، ثم أدخل عليه استثناءً آخر فقال: {لِمَنْ نُرِيدُ} فلذلك استثنى في المُعْطَيْن وأنه لا يعطي الجميع ممن يسعى للدنيا بل يعطي من شاء منهم ويحرم من شاء، فأدخل على إرادة العاجلة في إعطاء المريد منها استثنائين لئلاّ يثق الطالبون للدنيا بأنهم لا محالة سينالون بسعيهم ما يريدون.
ثم قال تعالى: {وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَها سَعْيَها وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً} فلم يَسْتَثْنِ شيئاً بعد وقوع السعي منهم على الوجه المأمور به، وشَرَطَ في السعي للآخرة أن يكون مؤمناً ومريداً لثوابها. قال محمد بن عجلان: من لم يكن فيه ثلاث خِلالٍ لم يدخل الجنة: نية صحيحة وإيمان صادق وعمل مصيب، قال: فقلت: عمن هذا؟ فقال: عن كتاب الله، قال الله تعالى: {وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ}، فعلَّقَ سَعْيَ الآخرة في استحقاق الثواب له بأوصاف ولم يَسْتَثْنِ في المقصود شيئاً ولم يخصص إرادة العاجلة بوصف بل أطلقها واستثنى في العطية والمُعْطَى ما قدمنا...
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
ثم قال "من كان يريد "المنافع "العاجلة "في الدنيا عجلنا له فيها "يعني في الدنيا القدر الذي نريده لمن نريد، لا على قدر ما يريدون، لأن ما يريدونه ربما كانت فيه مفسدة، لا يجوز إعطاؤهم إياه، ثم بين أنه إذا أعطاهم ما طلبوه عاجلا، جعل لهم جهنم جزاء، على معاصيهم وكفرهم يصلونها مذمومين مدحورين، أي في حال ذمنا إياهم، يقال: ذأمته أي: طردته، فهو مذؤوم. و" مدحورا "أي متباعدا من رحمة الله دحرته... أي: باعدته.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
من كانت العاجلة همه ولم يرد غيرها كالكفرة وأكثر الفسقة، تفضلنا عليه من منافعها بما نشاء لمن نريد، فقيد الأمر تقييدين، أحدهما: تقييد المعجل بمشيئته. والثاني: تقييد المعجل له بإرادته، وهكذا الحال: ترى كثيراً من هؤلاء يتمنون ما يتمنون ولا يعطون إلا بعضاً منه وكثيراً منهم يتمنون ذلك البعض وقد حرموه، فاجتمع عليهم فقر الدنيا وفقر الآخرة، وأمّا المؤمن التقي فقد اختار مراده وهو غنى الآخرة، فما يبالي: أوتي حظاً من الدنيا أو لم يؤت، فإن أوتي فبها وإلا فربما كان الفقر خيراً له وأعون على مراده.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
والمدحور: المهان المبعد المذلل المسخوط عليه.
من الجهال من إذا ساعدته الدنيا اغتر بها وظن أن ذلك لأجل كرامته على الله تعالى، وأنه تعالى بين أن مساعدة الدنيا لا ينبغي أن يستدل بها على رضا الله تعالى، لأن الدنيا قد تحصل مع أن عاقبتها هي المصير إلى عذاب الله وإهانته، فهذا الإنسان أعماله تشبه طائر السوء في لزومها له وكونها سائقة له إلى أشد العذاب. قوله تعالى: {لمن نريد} يدل على أنه لا يحصل الفوز بالدنيا لكل أحد، بل كثير من الكفار والضالين يعرضون عن الدين في طلب الدنيا، ثم يبقون محرومين عن الدنيا وعن الدين، وهذا أيضا فيه زجر عظيم لهؤلاء الكفار والضالين الذين يتركون الدين لطلب الدنيا، فإنه ربما فاتتهم الدنيا فهم الأخسرون أعمالا الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ولما تقرر أنه سبحانه خبير بذنوبهم بعد تزهيده في الدنيا بما ذكر من مصارع الأولين، أتبعه الإخبار بأنه يعاملهم على حسب علمه على وجه معرف بعلمه بجميع طوياتهم من خير وشر، مرغب في الآخرة، مرهب من الدينا، لأنها المانعة من اتباع الرسل والتقيد بطاعتهم، خوفاً من نقص الحظ من الدنيا بزوال ما هو فيه من الرئاسة والمال والانهماك في اللذة جهلاً بأن ما قدر لا يكون غيره سواء كان صاحبه في طاعة أو معصية فقال تعالى: {من كان يريد} أي إرادة هو فيها في غاية الإمعان بما اقتضاه طبعه المشار إليه بفعل الكون.
ولما كان مدار مقصود السورة على الإحسان الذي هو العبادة على المشاهدة، وكان ذلك منافياً لحال من يلتفت إلى الدنيا، عبر بقوله تعالى: {العاجلة} أي فقط {عجلنا} أي بعظمتنا {له فيها} أي العاجلة {ما نشاء} مما يريده لا جميع ما يريده؛ ثم أبدل من "له "قوله تعالى: {لمن نريد} أي لا لكل من أراد ذلك، تنبيهاً على أن ذلك بقوتنا لا بقوة ذلك المريد {ثم جعلنا} أي بما لنا من العظمة {له} أي لظاهره وباطنه {جهنم} أي الدركة النارية التي تلقى بالتجهم من كان يلقى الدنيا وأهلها بالتبسم {يصلاها} في الآخرة {مذموماً} أي مفعولاً به الذم، وهو ضد المدح {مدحوراً} مدفوعاً مطروداً مبعداً، فينبغي لمريد الدنيا أن لا يزال على حذر لأنه لا ينفك من عذاب الآخرة، فإن لم يعط شيئاً من مناه -كما أشار إليه {لمن نريد} اجتمع له العذابان كاملين: فقر الدنيا وعذاب الآخرة، وإن أعطى فهو لا يعطي كل ما يريد- بما أشار إليه "ما نشاء" -فيجتمع له عذاب ما منعه منها مع عذاب الآخرة.
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
ثم يجعل له في الآخرة {جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا} أي: يباشر عذابها {مَذْمُومًا مَدْحُورًا} أي: في حالة الخزي والفضيحة والذم من الله ومن خلقه، والبعد عن رحمة الله فيجمع له بين العذاب والفضيحة.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
فالذين لا يتطلعون إلى أبعد من هذه الأرض يتلطخون بوحلها ودنسها ورجسها، ويستمتعون فيها كالأنعام، ويستسلمون فيها للشهوات والنزعات. ويرتكبون في سبيل تحصيل اللذة الأرضية ما يؤدي بهم إلى جهنم:
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
هذا بيان لجملة {من اهتدى فإنما يهتدي} [الإسراء: 15] وهو راجع أيضاً إلى جملة {وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه} [الإسراء: 13] تدريجاً في التبيان للناس بأن أعمالهم من كسبهم واختيارهم... فمعنى {كان يريد العاجلة} أنه لا يريد إلا العاجلة، أي دون الدنيا بقرينة مقابلته بقوله: {ومن أراد الآخرة} لأن هذه المقابلة تقوم مقام الحصر الإضافي إذ ليس الحصر الإضافي سوى جملتين إثبات لشيء ونفي لخلافه. والإتيان بفعل الكون هنا مؤذن بأن ذلك ديدنه وقصارى همه، ولذلك جعل خبر (كان) فعلاً مضارعاً لدلالته على الاستمرار زيادة تحقيق لتمحض إرادته في ذلك... والمراد من التعجيل التعجيل العرفي وهو المبادرة المتعارفة، أي أن يعطى ذلك في الدنيا قبل الآخرة، فذلك تعجيل بالنسبة إلى الحياة الدنيا، وقرينة ذلك قوله: فيها}. وإنما زاد قيدي {ما نشاء لمن نريد} لأن ما يعطاه من أرادوا العاجلة يعطاه بعضهم بالمقادير التي شاء الله إعطاءها... والمشيئة: الطواعية وانتفاء الإكراه... وقوله: {لمن نريد} بدل من قوله: {له} بدل بعض من كل بإعادة العامل، فضمير {له} عائد إلى {من} باعتبار لفظه، وهو عام لكل مريد العاجلة فأبدل منه بعضه، أي عجلنا لمن نريد منكم، ومفعول الإرادة محذوف دل عليه ما سبقه، أي لمن نريد التعجيل له، وهو نظير مفعول المشيئة الذي كثر حذفه لدلالة كلام سابق. وفيه خصوصية البيان بعد الإبهام. ولو كان المقصود غير ذلك لوجب في صناعة الكلام التصريح به...
والإرادة: مرادف المشيئة، فالتعبير بها بعد قوله: {ما نشاء} تفنن. وإعادة حرف الجر العامل في المبدل منه لتأكيد معنى التبعية وللاستغناء عن الربط بضمير المبدل منهم بأن يقال: من نريد منهم. والمعنى: أن هذا الفريق الذي يريد الحياة الدنيا فقط قد نعطي بعضهم بعض ما يريد على حسب مشيئتنا وإرادتنا لأسباب مختلفة. ولا يَخلو أحد في الدنيا من أن يكون قد عجل له بعض ما يرغبه من لذات الدنيا...
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
{كان} هنا للدلالة على الرغبة المستمرة، والإرادة الدائمة ما دام على قيد الحياة... والعاجلة وصف للدنيا أي الدنيا العاجلة ومتعها، وجعلها غايته، ومرمى همته، ومطرح نظره، ولم يكن له هم سواها، وذكر الوصف دون الموصوف للإشارة إلى سبب الرغبة، وهو كونها قريبة دانية، فصاحب هذه الإرادة لا يريد إلا منافع العاجلة، وإن كانت زائلة، ولا يريد المنافع الآجلة، وإن كانت هي الباقية... {عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد}، فقيد العطاء بمشيئته، بالنسبة للعطاء فقد يعطى هذا المال، ولا يعطيه الصحة، وقد يعطيه السلطان، ولا يعطيه العزة، وقد يعطى هذا الجاه، ولا يعطيه إلا الذل والهوان، والعيش الدون في الذلة، وفي الجملة يعطى العاجلة، ولكن ليست كلها، ولا يعطى العاجلة كل من يريدها بل يعطيها من اتخذ أسبابها، ولم يتنكب طريقه فيجتمع له مع كفره ذل الدنيا وعذاب الآخرة...
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
وهذا حديثٌ عن تأكيد ارتباط مصير الإنسان بإرادته في مضمونها وحركتها وفي الواقع، بحيث يحدد الله له النتائج السلبية أو الإيجابية في الدنيا والآخرة من خلال طبيعتها، ما يجعل من مسألة الحرية في الاختيار للإنسان، مسألةً تتصل بالمعنى العميق لوجوده...