قوله تعالى : { هو الذي أنزل السكينة } الطمأنينة والوقار ، { في قلوب المؤمنين } لئلا تنزعج نفوسهم لما يرد عليهم . قال ابن عباس : كل سكينة في القرآن فهي طمأنينة إلا التي في سورة البقرة ، { ليزدادوا إيماناً مع إيمانهم } قال ابن عباس : بعث الله رسوله بشهادة أن لا إله إلا الله ، فلما صدقوه زادهم الصلاة ثم الزكاة ثم الصيام ثم الحج ثم الجهاد ، حتى أكمل لهم دينهم ، فكلما أمروا بشيء فصدقوه ازدادوا تصديقاً إلى تصديقهم . وقال الضحاك : يقيناً مع يقينهم . قال الكلبي : هذا في أمر الحديبية حين صدق الله رسوله الرؤيا بالحق .
{ 4-6 } { هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا * لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَكَانَ ذَلِكَ عِنْدَ اللَّهِ فَوْزًا عَظِيمًا * وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا }
يخبر تعالى عن منته على المؤمنين بإنزال السكينة في قلوبهم ، وهي السكون والطمأنينة ، والثبات عند نزول المحن المقلقة ، والأمور الصعبة ، التي تشوش القلوب ، وتزعج الألباب ، وتضعف النفوس ، فمن نعمة الله على عبده في هذه الحال أن يثبته ويربط على قلبه ، وينزل عليه السكينة ، ليتلقى هذه المشقات بقلب ثابت ونفس مطمئنة ، فيستعد بذلك لإقامة أمر الله في هذه الحال ، فيزداد بذلك إيمانه ، ويتم إيقانه ، فالصحابة رضي الله عنهم لما جرى ما جرى بين رسول الله صلى الله عليه وسلم والمشركين ، من تلك الشروط التي ظاهرها أنها غضاضة عليهم ، وحط من أقدارهم ، وتلك لا تكاد تصبر عليها النفوس ، فلما صبروا عليها ووطنوا أنفسهم لها ، ازدادوا بذلك إيمانا مع إيمانهم . وقوله : { وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ } أي : جميعها في ملكه ، وتحت تدبيره وقهره ، فلا يظن المشركون أن الله لا ينصر دينه ونبيه ، ولكنه تعالى عليم حكيم ، فتقتضي حكمته المداولة بين الناس في الأيام ، وتأخير نصر المؤمنين إلى وقت آخر .
ثم بين - سبحانه - بعد ذلك جانبا من مظاهر فضله على المؤمنين فقال : { هُوَ الذي أَنزَلَ السكينة فِي قُلُوبِ المؤمنين ليزدادوا إِيمَاناً مَّعَ إِيمَانِهِمْ . . } .
والسكينة : من السكون ، والمراد بها الثبات والطمأنينة التى أودعها - سبحانه - فى قلوب المؤمنين ، فترتب على ذلك أن أطاعوا الله ورسوله . بعد أن ظنوا أن فى شروط صلح الحديبية ظلما لهم . وأن بايعوا النبى - صلى الله عليه وسلم - على الموت بعد أن بلغهم أن عثمان - رضى الله عنه - قد قتله المشركون ، وفى التعبير عن ذلك بالإِنزال ، إشعار بعلو شأنها ، حتى لكأنها كانت مودعة فى خزائن رحمة الله - تعالى - ، ثم أنزلها بفضله فى قلوبهم بعد ذلك . .
أى : هو - سبحانه - بفضله ورحمته ، الذى أنزل السكينة والطمأنينة والثبات فى قلوب المؤمنين ، فانشرحت صدورهم لهذا الصلح بعد أن ضاقت فى أول الأمر .
وقوله : { ليزدادوا إِيمَاناً مَّعَ إِيمَانِهِمْ } تعليل لهذا الانزال للسكينة .
أى : أوجد السكينة وخلقها فى قلوبهم ، ليزدادوا يقينا على يقينهم ، وتصديقا لى تصديقهم وثباتا على ثباتهم .
وشبيه بهذه الآية قوله - تعالى - : { إِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً } وقوله - سبحانه - : { وَإِذَا مَآ أُنزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَّن يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هذه إِيمَاناً فَأَمَّا الذين آمَنُواْ فَزَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ } وقد أخذ العلماء من هذه الآية وأمثالها ، أن الإِيمان يزيد وينقص .
قال الآلوسى ما ملخصه : قال البخارى : لقيت أكثر من ألف رجل من العلماء بالأمصار ، فما رأيت أحداً منهم يختلف فى أن الإِيمان قول وعمل ، ويزيد وينقص .
واحتجوا على ذلك بالعقل والنقل . أما العقل ، فلأنه لو لم تتفاوت حقيقة الإِيمان لكان إيمان آحاد الأمة المنهمكين فى الفسوق والمعاصى ، مساويا لإِيمان الأنبياء ، واللازم باطل ، فكذا وأما الثانى : فلكثرة النصوص فى هذا المعنى ، ومنها الآية التى معنا وأمثالها ، ومنها وما روى " عن ابن عمر قال : قلنا : يا رسول الله ، إن الايمان يزيد وينقص ، قال : " نعم يزيد حتى يدخل صاحبه الجنة وينقص حتى يدخله النار " " .
وقال الإِمام النووى وغيره : إن الايمان بمعنى التصديق القلبى ، يزيد وينقص - أيضا بكثرة النظر ، ووضوح الأدلة ، ولهذا كان إيمان الصديقين أقوى من إيمان غيرهم .
ثم بين - سبحانه - شمول ملكه وقدرته فقال : { وَلِلَّهِ جُنُودُ السماوات والأرض وَكَانَ الله عَلِيماً حَكِيماً } . أى : ولله - تعالى - وحده جنود السماوات والأرض من ملائكة وجن وإنس ، إذ الكل تحت قهره وسلطانه ، فهو - سبحانه - الذى يدبر أمرهم كيف شاء ، ويدفع بعضهم ببعض كما تقضى حكمته وإرادته ، وهو - تعالى - العليم بكل شئ . الحكيم فى جميع أفعاله . .
القول في تأويل قوله تعالى : { هُوَ الّذِيَ أَنزَلَ السّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوَاْ إِيمَاناً مّعَ إِيمَانِهِمْ وَلِلّهِ جُنُودُ السّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَكَانَ اللّهُ عَلِيماً حَكِيماً } .
يعني جلّ ذكره بقوله : هُوَ الّذِي أنْزَلَ السّكِينَةَ فِي قُلُوبِ المُؤْمِنِينَ الله أنزل السكون والطمأنينة في قلوب المؤمنين بالله ورسوله إلى الإيمان ، والحقّ الذي بعثك الله به يا محمد . وقد مضى ذكر اختلاف أهل التأويل في معنى السكينة قبل ، والصحيح من القول في ذلك بالشواهد المغنية ، عن إعادتها في هذا الموضع .
لِيَزْدَادُوا إيمانا مَعَ إيمانِهِمْ يقول : ليزدادوا بتصديقهم بما جدّد الله من الفرائض التي ألزمهموها ، التي لم تكن لهم لازمة إيمانا مع إيمانهم ، يقول : ليزدادوا إلى أيمانهم بالفرائض التي كانت لهم لازمة قبل ذلك . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني عليّ ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، في قوله : هُوَ الّذِي أنْزَلَ السّكِينَةَ فِي قُلُوبِ المُؤْمِنِينَ قال : السكينة : الرحمة لِيَزْدَادُوا إيمَانا مَعَ إيمانِهِمْ قال : إن الله جلّ ثناؤه بعث نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم بشهادة أن لا إله إلا الله ، فلما صدّقوا بها زادهم الصلاة ، فلما صدّقوا بها زادهم الصيام ، فلما صدّقوا به زادهم الزكاة ، فلما صدّقوا بها زادهم الحجّ ، ثم أكمل لهم دينهم ، فقال اليَوْمَ أكمَلْتُ لَكُمْ ديَنَكُمْ وأتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي قال ابن عباس : فأوثق إيمان أهل الأرض وأهل السموات وأصدقه وأكمله شهادة أن لا إله إلا الله .
وقوله : ولِلّهِ جُنُودُ السّمَوَاتِ والأرْضِ يقول تعالى ذكره : ولله جنود السموات والأرض أنصار ينتقم بهم ممن يشاء من أعدائه وكانَ اللّهُ عَلِيما حَكِيما يقول تعالى ذكره : ولم يزل الله ذا علم بما هو كائن قبل كونه ، وما خلقه عاملوه ، حكيما في تدبيره .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{هو الذي أنزل السكينة في قلوب المؤمنين} يعني الطمأنينة {ليزدادوا} يعني لكي يزدادوا {إيمانا مع إيمانهم} يعني تصديقا مع تصديقهم.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يعني جلّ ذكره بقوله:"هُوَ الّذِي أنْزَلَ السّكِينَةَ فِي قُلُوبِ المُؤْمِنِينَ "الله أنزل السكون والطمأنينة في قلوب المؤمنين بالله ورسوله إلى الإيمان، والحقّ الذي بعثك الله به يا محمد...
"لِيَزْدَادُوا إيمانا مَعَ إيمانِهِمْ" يقول: ليزدادوا بتصديقهم بما جدّد الله من الفرائض التي ألزمهموها، التي لم تكن لهم لازمة "إيمانا مع إيمانهم"، يقول: ليزدادوا إلى أيمانهم بالفرائض التي كانت لهم لازمة قبل ذلك... عن ابن عباس، في قوله: "هُوَ الّذِي أنْزَلَ السّكِينَةَ فِي قُلُوبِ المُؤْمِنِينَ" قال: السكينة: الرحمة، "لِيَزْدَادُوا إيمَانا مَعَ إيمانِهِمْ" قال: إن الله جلّ ثناؤه بعث نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم بشهادة أن لا إله إلا الله، فلما صدّقوا بها زادهم الصلاة، فلما صدّقوا بها زادهم الصيام، فلما صدّقوا به زادهم الزكاة، فلما صدّقوا بها زادهم الحجّ، ثم أكمل لهم دينهم، فقال "اليَوْمَ أكمَلْتُ لَكُمْ ديَنَكُمْ وأتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي" قال ابن عباس: فأوثق إيمان أهل الأرض وأهل السموات وأصدقه وأكمله شهادة أن لا إله إلا الله.
النكت و العيون للماوردي 450 هـ :
قوله عز وجل: {هُوَا الَّذِي أَنزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ المُؤْمِنِينَ} فيها ثلاثة أوجه:
أحدها: أنه الصبر على أمر الله.
الثالث: أنها الرحمة لعباد الله...
{لِيَزْدَادُوا إِيمَاناً مَّعَ إِيمَانِهِمْ} يحتمل ثلاثة أوجه:
أحدها: ليزدادوا عملاً مع تصديقهم.
الثاني: ليزدادوا صبراً مع اجتهادهم.
الثالث: ليزدادوا ثقة بالنصر مع إيمانهم بالجزاء...
{وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَواتِ وَالأَرْضِ} يحتمل وجهين:
أحدهما: أن يكون معناه ولله ملك السماوات والأرض ترغيباً للمؤمنين في خير الدنيا وثواب الآخرة.
الثاني: معناه ولله جنود السماوات والأرض إشعاراً للمؤمنين أن لهم في جهادهم أعواناً على طاعة ربهم...
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
"هو الذي أنزل السكينة في قلوب المؤمنين"... السكينة ما تسكن إليه قلوبهم من التعظيم لله ورسوله والوفاء له...
"ولله جنود السموات والأرض" قيل: معناه انصار دينه ينتقم بهم من اعدائه.. "وكان الله عليما" بالأشياء قبل كونها وعالما بعد كونها "حكيما" في افعاله لأنها كلها محكمة وصواب...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
أي: أنزل الله في قلوبهم السكون، والطمأنينة بسبب الصلح والأمن، ليعرفوا فضل الله عليهم بتيسير الأمن بعد الخوف، والهدنة غب القتال، فيزدادوا يقيناً إلى يقينهم، وأنزل فيها السكون إلى ما جاء به محمد عليه السلام من الشرائع {لِيَزْدَادُواْ إيمانا} بالشرائع مقروناً إلى إيمانهم وهو التوحيد... أو أنزل فيها الوقار والعظمة لله عزّ وجل ولرسوله، ليزدادوا باعتقاد ذلك إيماناً إلى إيمانهم. وقيل: أنزل فيها الرحمة ليتراحموا فيزداد إيمانهم.
{وَلِلَّهِ جُنُودُ السماوات والأرض} يسلط بعضها على بعض كما يقتضيه علمه وحكمته، ومن قضيته أن سكّن قلوب المؤمنين بصلح الحديبية ووعدهم أن يفتح لهم...
... {ولله جنود السموات والأرض} فكان قادرا على إهلاك عدوه بجنوده بل بصيحة ولم يفعل بل أنزل السكينة على المؤمنين ليكون إهلاك أعدائهم بأيديهم فيكون لهم الثواب، وفي جنود السموات والأرض وجوه؛
(أحدها) ملائكة السموات والأرض.
(ثانيها) من في السموات من الملائكة ومن في الأرض من الحيوانات والجن.
(وثالثها) الأسباب السماوية والأرضية حتى يكون سقوط كسف من السماء والخسف من جنوده...
{وكان الله عليما حكيما} لما قال: {ولله جنود السموات والأرض} وعددهم غير محصور، أثبت العلم إشارة إلى أنه {لا يعزب عنه مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض} وأيضا لما ذكر أمر القلوب بقوله {هو الذي أنزل السكينة في قلوب المؤمنين} والإيمان من عمل القلوب ذكر العلم إشارة إلى أنه يعلم السر وأخفى، وقوله {حكيما} بعد قوله {عليما} إشارة إلى أنه يفعل على وفق العلم فإن الحكيم من يعمل شيئا متقنا ويعلمه، فإن من يقع منه صنع عجيب اتفاقا لا يقال له حكيم ومن يعلم ويعمل على خلاف العلم لا يقال له حكيم.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
{هو} أي وحده {الذي أنزل} في يوم الحديبية {السكينة} أي الثبات على الدين {في قلوب المؤمنين} أي الراسخين في الإيمان وهم أهل الحديبية بعد أن دهمهم فيها ما من شأنه أن يزعج النفوس ويزيغ القلوب من صد الكفار ورجوع الصحابة رضي الله تعالى عنهم دون مقصودهم، فلم يرجع أحد منهم عن الإيمان بعد أن ماج الناس وزلزلوا...
. {ليزدادوا} أي بتصديق الرسول...
. {إيماناً} بهذا التصديق بالغيب من أن- صلحهم للكفار ورجوعهم من غير- بلوغ قصدهم هو عين الفتح لترتب الصلح عليه وترتب فشو الإسلام على الصلح كما كشف عنه الوجود بعد ذلك ليقيسوا عليه غيره من الأوامر {مع إيمانهم} الثابت من قبل هذه الواقعة...
. {ولله} أي الذي أنزل السكينة عليهم ليكون نصرهم في هذه العمرة بالقوة ثم يكون عن قريب بالفعل والحال أنه له وحده {جنود السماوات والأرض} أي جميعها، ومنها السكينة، يدبرهم بلطيف صنعه وعجيب تدبيره، فلو شاء لنصر المؤمنين الآن بالفعل، ودمر على أعدائهم بجنود من جنوده أو بغير سبب، لكنه فعل ذلك ليكون النصر بكم، فيعلوا أمركم ويعظم أجركم، ويظهر الصادق في نصره من الكاذب...
{وكان الله} أي الملك الأعظم أزلاً وأبداً {عليماً} بالذوات والمعاني {حكيماً} في إتقان ما يصنع، فرده لهم عن هذه العمرة بعد أن دبر أمر الصلح ليأمن الناس فيداخل بعضهم بعضاً لما علم من أنه لا يسمع القرآن أحد له عقل مستقيم ويرى ما عليه أهله من شدة الاستمساك به والبغض لما كانوا فيه من متابعة الآباء إلا بادر إلى المتابعة ودخل في الدين برغبة، وأدخل سبحانه خزاعة في صلح النبي صلى الله عليه وسلم وبني بكر وهم أعداؤهم في صلح قريش ليبغوا عليهم فتعينهم قريش الصلح بعد أن كثرت جنود الله وعز ناصر الدين، فيفتح الله بهم مكة المشرفة، فتنشر أعلام الدين، وتخفق ألوية النصر المبين، ويدخل الناس في الدين أفواجاً، فيظهر دين الإسلام على جميع الأديان...
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
فالصحابة رضي الله عنهم لما جرى ما جرى بين رسول الله صلى الله عليه وسلم والمشركين، من تلك الشروط التي ظاهرها أنها غضاضة عليهم، وحط من أقدارهم، وتلك لا تكاد تصبر عليها النفوس، فلما صبروا عليها ووطنوا أنفسهم لها، ازدادوا بذلك إيمانا مع إيمانهم...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
والسكينة لفظ معبر مصور ذو ظلال؛ والسكينة حين ينزلها الله في قلب، تكون طمأنينة وراحة، ويقينا وثقة، ووقارا وثباتا، وأستسلاما ورضى. ولقد كانت قلوب المؤمنين في هذا الواقعة تجيش بمشاعر شتى، وتفور بانفعالات متنوعة. كان فيها الانتظار والتطلع إلى تصديق رؤيا رسول الله [صلى الله عليه وسلم] بدخول المسجد الحرام؛ ثم مواجهة موقف قريش وقبول الرسول [صلى الله عليه وسلم] للرجوع عن البيت في هذا العام، بعد الإحرام، وبعد إشعار الهدي وتقليده. كان هذا أمرا شاقا على نفوسهم ما في ذلك ريب. وقد روي عن عمر -رصي الله عنه- أنه جاء أبا بكر وهو مهتاج، فكان مما قال له -غير ما أثبتناه في صلب رواية الحادث -: أوليس كان يحدثنا أنا سنأتي البيت ونطوف به؟ قال أبو بكر- الموصول القلب بقلب رسول الله [صلى الله عليه وسلم] الذي ينبض قلبه على دقات قلب رسول الله [صلى الله عليه وسلم]: بلى. أفأخبرك أنك تأتيه العام؟ قال: لا. قال: فإنك تأتيه وتطوف به فتركه عمر -رضي الله عنه- إلى النبي [صلى الله عليه وسلم] فقال له فيما قال: أو لست كنت تحدثنا أنا سنأتي البيت ونطوف به؟ قال [صلى الله عليه وسلم]: "بلى. أفأخبرتك أنا نأتيه العام؟ " قال: لا. قال رسول الله [صلى الله عليه وسلم]: " فإنك آتيه ومطوف به".. فهذه صورة مما كان يجيش في القلوب.. وكان المؤمنون ضيقي الصدور بشروط قريش الأخرى، من رد من يسلم ويأتي محمدا بغير إذن وليه. ومن حميتهم الجاهلية في رد اسم الرحمن الرحيم. وفي رد صفة رسول الله [صلى الله عليه وسلم] وقد روي أن عليا -رضي الله عنه- أبى أن يمحو هذه الصفة كما طلب سهيل بن عمرو بعد كتابتها، فمحاها رسول الله بنفسه وهو يقول: " اللهم إنك تعلم أني رسولك".. وكانت حميتهم لدينهم وحماستهم للقاء المشركين بالغة، يبدو هذا في بيعتهم الإجماعية؛ ثم انتهى الأمر إلى المصالحة والمهادنة والرجوع. فلم يكن هينا على نفوسهم أن تنتهي الأمور إلى ما انتهت اليه. يبدو هذا في تباطئهم في النحر والحلق، حتى قالها رسول الله [صلى الله عليه وسلم] ثلاثا. وهم من هم طاعة لأمر رسول الله وامتثالا. كالذي حكاه عنهم لقريش عروة ابن مسعود الثقفي. ولم ينحروا ويحلقوا أو يقصروا إلا حين رأو رسول الله يفعل هذا بنفسه، فهزتهم هذه الحركة العملية ما لم يهزهم القول، وثابوا إلى الطاعة كالذي كان في دهشة المأخوذ! وهم كانوا قد خرجوا من المدينة بنية العمرة، لا ينوون قتالا، ولم يستعدوا له نفسيا ولا عمليا. ثم فوجئوا بموقف قريش، وبما شاع من قتلها لعثمان، وبإرسال النفر الذين رموا في عسكر المسلمين بالنبل والحجارة. فلما عزم رسول الله [صلى الله عليه وسلم] على المناجزة وطلب البيعة أعطوها له عن بكرة أبيهم. ولكن هذا لا ينفي موقف المفاجأة على غير ما كانت نفوسهم قد خرجت له. وهو بعض ما كان يجيش في قلوبهم من انفعالات وتأثرات. وهم ألف وأربعمائة وقريش في دارها، ومن خلفهم الأعراب والمشركون. وحين يسترجع الإنسان هذه الصور يدرك معنى قوله تعالى: (هو الذي أنزل السكينة في قلوب المؤمنين).. ويذوق طعم اللفظ وطعم العبارة، ويتصور الموقف يومئذ ويعيش فيه مع هذه النصوص، ويحس برد السكينة وسلامها في تلك القلوب. ولما كان الله يعلم من قلوب المؤمنين يومئذ، أن ما جاش فيها جاش عن الإيمان، والحمية الإيمانية لا لأنفسهم، ولا لجاهلية فيهم. فقد تفضل عليهم بهذه السكينة: (ليزدادوا إيمانا مع إيمانهم) والطمأنينة درجة بعد الحمية والحماسة، فيها الثقة التي لا تقلق، وفيها الرضى المطمئن باليقين. ومن ثم يلوح بأن النصر والغلب لم يكن عسيرا ولا بعيدا، بل كان هينا يسيرا على الله لو اقتضت حكمته يومئذ أن يكون الأمر كما أراده المؤمنون، فإن لله جنودا لا تحصى ولا تغلب، تدرك النصر وتحقق الغلب وقتما يشاء: (ولله جنود السماوات والأرض وكان الله عليما حكيما).. فهي حكمته وهو علمه، تسير الأمور وفقهما كما يريد.
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
{هُوَ الَّذِي أَنزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ} بما تعنيه كلمة السكينة من طمأنينة وصفاء روحي يدفع النفس إلى التأمّل العميق...
{لِيَزْدَادُواْ إِيمَاناً مَّعَ إِيمَانِهِمْ} لأن الإيمان يتأتى عن وضوح الرؤية الذي يفتح للفكر آفاق الاعتقاد به، وعن صفاء الروح الذي يملأ الوجدان بالمعاني الروحية...
{وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَواتِ وَالأرْضِ} سواء تمثلوا في الأمور المعنوية من أسباب وقوانين طبيعية أودعها الله في الأرض والسماء...
أو بمخلوقات حيّة متحركة في السماوات والأرض...
وبذلك كان إنزال السكينة في قلوب المؤمنين متأتياً عن تحريك جنوده للموضع بشكلٍ دقيق.
{وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً} فهو القويّ في عزته، الحكيم في تدبيره...
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
السكينة وليدة الإيمان، وهي تهب الاطمئنان كنسيم الجنّة! وينبغي الالتفات أيضاً إلى هذه اللطيفة في شأن السكينة، إذ عُبّر عنها بالإنزال (هو الذي أنزل السكينة) ونعلم أنّ هذا التعبير في القرآن قد يعني الخلق والإيجاد وإيلاء النعمة أحياناً.. وحيث أنّها من عال إلى دان فقد ورد في شأنها التعبير بالإنزال!. ملاحظات:
السكينة التي لا نظير لها! إذا لم يكن للإيمان أية ثمرة سوى مسألة السكينة لكان على الإنسان أن يتقبَّله! فكيف به وهو يرى آثاره وثمراته وبركاته!. والتحقيق في حال المؤمنين وحال غير المؤمنين يكشف هذه الحقيقة، وهي أنّ الفئة الثّانية يعانون حالة الاضطراب والقلق الدائم، في حين أنّ الجماعة الأولى في اطمئنان خاطر عديم النظير.. وفي ظل الاطمئنان، فإنّهم (لا يخشون أحداً إلاّ الله)...
.وهم يتمسّكون بأصلين مهمّين في حفظ هذه السكينة، وهما: عدم الحزن على ما فاتهم، وعدم التعلّق والفرح بما لديهم...
إنّ المؤمن لا يرى نفسه وحيداً في ميدان الخطوب والحوادث بل يحسّ بيد الله على رأسه ويلمس إعانة الملائكة ونصرتهم له، في حين أنّ غير المؤمنين يحكمهم الاضطراب في أحاديثهم وسلوكهم ولا سيما عند هبوب العواصف وطوفان الأحداث إذ يُرى كلّ ذلك منهم بصورة بيّنة!...
الإيمان، سواءً بمعنى العلم والمعرفة، أم روح التسليم والإذعان للحق فإنّ له درجات وسلسلة مراتب، لأنّ العلم له درجات، والتسليم والإذعان لهما درجات مختلفة أيضاً، حتى العشق والحب الذي هو توأم الإيمان يتفاوت من حالة إلى أُخرى! فالآية محل البحث التي تقول: (ليزدادوا إيماناً مع إيمانهم) تأكيد على هذه الحقيقة أيضاً.. وعلى هذا فلا ينبغي للمؤمن أن يتوقّف في مرحلة واحدة من مراحل الإيمان، بل عليه أن يتسامى إلى درجاته العليا عن طريق بناء شخصيّته والعلم والعمل...