اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{هُوَ ٱلَّذِيٓ أَنزَلَ ٱلسَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ لِيَزۡدَادُوٓاْ إِيمَٰنٗا مَّعَ إِيمَٰنِهِمۡۗ وَلِلَّهِ جُنُودُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِۚ وَكَانَ ٱللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمٗا} (4)

قوله تعالى : { هُوَ الذي أَنزَلَ السكينة فِي قُلُوبِ المؤمنين } لما قال تعالى : { وَيَنصُرَكَ الله نَصْراً عَزِيزاً } [ الفتح : 3 ] بين وجه النصر ، وذلك أن الله تعالى قد ينصر رسله بصحيةٍ يهْلِكُ بها أعداؤُهُمْ ، أو رَجْفَةٍ يُحْكَمُ فيها عليهم بالفَنَاءِ ، أو بشيءٍ يْرْسِلُهُ مِن السَّمَاء ، أو يصبر وقوة وثبات قلبٍ يرزق المؤمنين ليكون لهم بذلك الثواب الجزيل ، فقال : { هُوَ الذي أَنزَلَ السكينة } أي تحقيقاً للنصر . والمراد بالسكينة قيل : السكون ، وقيل : الوَقَار لله . وقيل : اليقين . قال أكثر المفسرين : هذه السكينة غير السكينة المذكورة في قوله تعالى : { يَأْتِيَكُمُ التابوت فِيهِ سَكِينَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ }{[51619]} [ البقرة : 248 ] . ويحتمل أن تكون هي تلك ؛ لأن المقصود منها على جميع الوجوه اليقين وثبات القلب .

فصل

قال الله تعالى ( في{[51620]} حق الكفار ) { وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرعب } [ الأحزاب : 26 ] [ الحشر : 43 ] بلفظ القذف المُزعِج وقال في حق المؤمنين : { أَنزَلَ السكينة فِي قُلُوبِ المؤمنين } بلفظ الإنزال المثبت .

وفيه معنى حكميّ وهو أن من علم شيئاً من قبل ويذكره استدام بذكره ، فإذا وقع لا يَتَغَيَّر{[51621]} ومن كان غافلاً عن شيء فيقع رفعه فإنه يَرْجُفُ فؤاده ، ألا ترى أن من أخبر بوقوع صَيْحَةٍ ، وقيل ( له ){[51622]} لا تنزعج{[51623]} منها فوقعت الصيحة لا يَرْتَجِفُ{[51624]} ومن لم يخبر به أو أخبر وغفل عنه يرتجف إذا وقعت . كذلك الكافر أَتَاهُ الله من حيث لم يحتسب وقذف في قلبه الرُّعْبَ ، فارْتَجَفَ ، والمؤمن أُتِيَ{[51625]} من حيث كان يذكر فسكن ، فلا تزعج نفوسهم لما يرد عليهم . قال ابن عباس : كل سكينة في القرآن فهي طمأنِينَةٌ إلاَّ التي في سورة البقرة{[51626]} .

قوله : { ليزدادوا إِيمَاناً مَّعَ إِيمَانِهِمْ } ، قال ابن عباس ( رضي الله عنهما ) بَعث الله رسوله محمداً صلى الله عليه وسلم بشهادة أن لا إله إلا الله ، فلما صدقوا زادهم الصلاة ، ثم الزكاة ، ثم الصِّيام ، ثم الحجّ ، ثم الجِهَاد حتى أكمل لهم دينهم وكُلَّمَا أُمِرُوا بشيء فصدقوه ازدادوا تصديقاً إلى تصديقهم . وقال الضحاك : يقيناً مع يقينهم{[51627]} ، وقيل : أنزل السكينة عليهم فَصَبَرُوا ورأوْا عَيْنَ القين ما علموا النصر علم اليقين إيماناً بالغيب فازدادوا إيماناً مُسْتَفَاداً من الغيب مع إيمانهم المستفادِ من الشهادة . وقيل : ازدادوا إيماناً بالفروع مع إيمانهم بالأصول فإنهم آمنوا بأن محمداً رسولُ الله ، فإن الله واحدٌ ، والحَشْرَ كائنٌ فآمنوا بأن كُلَّ ما يقول النبي صلى الله عليه وسلم فهو صدق ، وكُلَّ ما يأمر الله تعالى به فهو واجب .

وقيل : ازدادوا إيماناً استدلاليًّا مع إيمانهم الفطري .

فإن قيل : ما الحكمة في قوله في حق الكفار : { إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ ليزدادوا إِثْمَاً } [ آل عمران : 178 ] ولم يقل مع كفرهم وقال في حق المؤمنين : { ا إِيمَاناً مَّعَ إِيمَانِهِمْ } ؟

فالجواب : أن كفر الكافر عِنَادِيّ ، وليس في الوجود كُفرٌ فِطْريّ ، ولا في الوجود كفر عِنَادِيّ لينضمَّ إلَى الكفر الفطري بل الكفر ليس إلا عناداً وكذلك الكفر بالفروع لا يقال : انضم إلى الكفر بالأصول ، لأن من ضرورة الكفر بالأصول الكفر بالفروع وليس من ضرورة الإيمان بالأصول الإيمان بالفروع بمعنى الطاعة والانقياد ، ولهذا قال : { ليزدادوا إِيمَاناً مَّعَ إِيمَانِهِمْ } .

قوله : { وَلِلَّهِ جُنُودُ السماوات والأرض } فهو قادر على إهلاك عَدُوِّهم بجنود ، بل بصيحة ولم يفعل بل أنزل السكينة على المؤمنين ليكون إهلاك أعدائه بأيديهم فيكون لهم الثواب . والمراد بجنود السموات والأرض الملائكة ، وقيل : جنود السموات الملائكة وجنود الأرض الجنُّ والحَيَوَانَاتُ . وقيل : الأسباب السماوية .

{ وَكَانَ الله عَلِيماً } لما قال : { وَلِلَّهِ جُنُودُ السماوات والأرض } وعددهم غير محصور فقال «عَليما » : إشارة إلى أنه لا يعزب عنه مثقال ذرّة في السموات ولا في الأرض . وقيل : لما ذكر القلوب بقوله : { أَنزَلَ السكينة فِي قُلُوبِ المؤمنين } والإيمان الذي من عَمَلِ القُلُوب ذكر العلم إشارة إلى أنه يَعْلَمُ السِّرََّ وأخفى . وقوله «حكيماً » بعد «عليماً » إشارة إلى أنه يفعل على وَفْق العلم ، فإن الحكيم من يعمل شيئاً متقناً وبعلمه{[51628]} .

/خ7


[51619]:وانظر في هذا كله تفسير الإمام الرازي 28/79 و80.
[51620]:ما بين القوسين زيادة من ب على أ.
[51621]:كذا في الرازي وفي ب يتعين.
[51622]:زيادة من أ.
[51623]:في ب ينزعج.
[51624]:وفيها يرجف.
[51625]:في ب: والمؤمن من أوتي وفي الرازي: والمؤمن أتاه وأ والرازي هما الصحيحان وانظر الرازي 28/80.
[51626]:الآية 248 السابقة.
[51627]:القرطبي 16/264.
[51628]:وانظر في هذا كله المرجع السابق 28/81.