روح المعاني في تفسير القرآن والسبع المثاني للآلوسي - الآلوسي  
{هُوَ ٱلَّذِيٓ أَنزَلَ ٱلسَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ لِيَزۡدَادُوٓاْ إِيمَٰنٗا مَّعَ إِيمَٰنِهِمۡۗ وَلِلَّهِ جُنُودُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِۚ وَكَانَ ٱللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمٗا} (4)

{ هُوَ الذي أَنزَلَ السكينة فِى قُلُوبِ المؤمنين } بيان لما أفاض سبحانه عليهم من مبادي الفتح ، والمراد بالسكينة الطمأنينة والثبات من السكون أي أنزلها في قلوبهم بسبب الصلح والأمن إظهاراً لفضله تعالى عليهم بتيسير الأمن بعد الخوف ، والمراد بإنزالها خلقها وإيجادها ، وفي التعبير عن ذلك بالإنزال إيماء إلى علو شأنها .

وقال الراغب : إنزال الله تعالى نعمته على عبدإعطاؤه تعالى إياها وذلك إما بإنزال الشيء نفسه كإنزال القرآن أو بإنزال أسبابه والهداية إليه كإنزال الحديد ونحوه ، وقيل : { أَنَزلَ } من نزل في مكان كذا حط رحله فيه وأنزله غيره ، فالمعنى حط السكينة في قلوبهم فكان قلوبهم منزلاً لها ومأوى ، وقيل : السكينة ملك يسكن قلب المؤمن ويؤمنه كما روي أن علياً رضي الله تعالى عنه وكرم وجهه قال : إن السكينة لتنطق على لسان عمر ، وأمر الإنزال عليه ظهار جداً .

وأخرج ابن جرير . والبيهقي في الدلائل . وغيرهما عن ابن عباس أنه قال : السكينة هي الرحمة ، وقيل : هي العقل ويقال له سكينة إذا سكن عن الميل إلى الشهوات وعن الرعب ، وقيل : هي الوقار والعظمة لله تعالى ولرسوله صلى الله عليه وسلم ، وقيل : هي من سكن إذا كذا مال إليه أي أنزل في قلوبهم السكون والميل إلى ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم من الشرائع ، وأرجح التفاسير هنا على ما قال الخفاجي : الأول ، وما ذكره بعضهم من أن السكينة شيء له رأس كرأس الهرة فما أراه قولاً يصح { لِيَزْدَادُواْ إيمانا مَّعَ إيمانهم } أي يقيناً مع يقينهم برسوخ العقيدة واطمئنان النفوس عليها على أن الإيمان لما ثبت في الأزمنة نزل تجدد أزمانه منزلة نجدده وازدياده فاستعير له ذلك ورشح بكملة مع ، وقيل : ازدياد الإيمان بازدياد ما يؤمن به ، وروي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن أول ما أتاهم به النبي صلى الله عليه وسلم التوحيد ثم الصلاة والزكاة ثم الحج والجهاد فازدادوا إيماناً مع إيمانهم ، ومن قال : الأعمال من الإيمان قال بأنه نفسه أي الإيمان المركب من ذلك وغيره يزيد وينقص ولم يحتج في الآية إلى تأويل بل جعلها دليلاً له ، وتفصيل الكلام في هذا المقام أنه ذهب جمهور الأشاعرة والقلانسي والفقهاء والمحدثون والمعتزلة إلى أن الإيمان يزيد وينقص ونقل ذلك عن الشافعي ومالك ، وقال البخاري : لقيت أكثر من ألف رجل من العلماء بالأمصار فما رأيت أحداً منهم يختلف في أن الإيمان قول وعمل ويزيد وينقص ، واحتجوا على ذلك بالعقل والنقل ، أما الأول فلأنه لو لم تتفاوت حقيقة الإيمان لكان إيمان آحاد الأمة المنهمكين في الفسق والمعاصي مساوياً لإيمان الأنبياء عليهم السلام مثلا واللازم باطل فكذا الملزوم ، وأما الثاني فلكثرة النصوص في هذا المعنى ، مناه الآية المذكورة ، ومنها ما روي عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قلنا : «يا رسول الله ان الإيمان يزيد وينقص قال : نعم يزيد حتى يدخل صاحبه الجنة وينقص حتى يدخل صاحبه النار » ، ومنها ما روي عن عمر وجابر رضي الله تعالى عنهما مرفوعاً «لو وزن إيمان أبي بكر يإيمان هذه الأمة لرجح به » واعترض بأن عدم قبول الإيمان الزيادة والنقص على تقدير كون الطاعات داخلة في مسماه أولى وأحق من عدم قبوله ذلك إذا كان مسماه التصديق وحده .

أما أولاً فلأنه لا مرتبة فوق كل الأعمال لتكون زيادة ولا إيمان دونه ليكون نقصاً ، أوما ثانياً فلأن أحداً لا يستكمل الإيمان حينئذ والزيادة على ما لم يكمل بعد محال . وأجيب بأن هذا إنما يتوجه على المعتزلة والخوارج القائلين بانتفاء الإيمان بانتفاء شيء من الأعمال ، والجماعة إنما يقولون : إنها شرط كمال في الإيمان فلا يلزم عند الانتفاء إلا انتفاء الكمال وهو غير قادح في أصل الإيمان .

وقال النووي وجماعة محققون من علماء الكلام : إن الإيمان بمعنى التصديق القلبي يزيد وينقص أيضاً بكثرة النظر ووضوح الأدلة وعدم ذلك ، ولهذا كان إيمان الصديقين أقوى من إيمان غيرهم بحيث لا تعتريه الشبه ، ويؤيده أن كل واحد يعلم أن ما في قلبه يتفاضل حتى يكون في بعض الأحيان أعظم يقيناً وإخلاصاً منه في بعضها فكذلك التصديق والمعرفة بحسب ظهور البراهين وكثرتها . واعترض بأنه متى قبل ذلك كان شكا .

ودفع بأن مراتب اليقين متفاوتة إلى علم اليقين وحق اليقين وعين اليقين مع أنها لا شك معها وممن وافق النووي على ما حزم به السعد في القسم الثاني من تهذيبه ، وقال جماعة من العلماء أعظمهم الإمام أبو حنيفة وتبعه أصحابه وكثير من المتكلمين الإيمان لا يزد ولا ينقص ، واختاره إمام الحرمين ، واحتجوا بأنه اسم للتصديق البالغ حد الجزم والإذعان وهذا لا يتصور فيه زيادة ولا نقصان ، فالصدق إذا ضم إليه الطاعات أو ارتكب المعاصي فتصديقه بحاله لم يتغير أصلاً وإنما يتفاوت إذا كان اسماً للطاعات المتفاوتة قلة وكثرة . وأجابوا عما تمسك به الأولون بوجوه ، منها ما أشرنا أولاً من أن الزيادة بحسب الدوام والثبات وكثرة الزمان والأوقات . وإيضاحه ما قاله إمام الحرمين : النبي صلى الله عليه وسلم يفضل من عداه باستمرار تصديقه وعصمة الله تعالى إياه من مخامرة الشرك والتصديق عرض لا يبقى بشخصه بل بتجدد أمثاله فتقع للنبي عليه الصلاة والسلام متوالية ولغيره على الفترات فثبتت للنبي صلى الله عليه وسلم أعداد من الإيمان لا يثبت لغيره إلا بعضها فيكون إيمانه صلى الله عليه وسلم أكثر ، والزيادة بهذا المعنى قيل مما لانزاع فيها .

واعترض بأن حصول المثل بعد انعدام الشيء لا يكون زيادة فيه كسواد الجسم ، ودفع بأن المراد زيادة أعداد حصلت وعدم البقاء لا ينافي ذلك ، ومنها ما أسرنا إليه ثانياً من أن المراد الزيادة بحسب زيادة ما يؤمن به ، والصحابة رضوان الله تعالى عليهم أجمعين آمنوا أولا بما آمنوا به وكانت الشريعة لم تتم وكانت الأحكام تنزل شيئاً فشيئاً فكانوا يؤمنون بكل ما يتجدد منها ولا شك في تفاوت إيمان الناس بملاحظة التفاصيل كثرة وقلة لا يختص ذلك بعصره صلى الله عليه وسلم لإمكان الاطلاع على التفاصيل في غيره من العصور أيضاً ، ومنها أن المراد زيادة ثمرته واشراق نوره في القلب فإن نور الإيمان يزيد بالطاعات وينقص بالمعاصي ، قيل : وهذا إنما يحتاج إليه بعد إقامة قاطع على امتناع قبول التصديق الزيادة والنقص ومتى لم يقم قاطع على ذلك كان الأولى إبقاء الظواهر على حالها ، وقال الخطابي : الإيمان قول وهو لا يزيد ولا ينقص وعمل وهو يزيد وينقص واعتقاد وهو يزيد ولا ينقص فإذا نقص ذهب واعترض أنه إذا زاد ثم عاد إلى ما كان فقد نقص ولم يذهب .

ودفع بأن مراده أن الاعتقاد باعتبار أول مراتبه يزيد ولا ينقص لا أن الاعتقاد مطلقاً كذلك ، وذهب جماعة منهم الإمام الرازي . وإمام الحرمين إلى أن الخلاف لفظي وذلك بحمل قول النفي على أصل الإيمان وهو التصديق فلا يزيد ولا ينقص وحمل قول الإثبات على ما به كماله وهو الأعمال فيكون الخلاف في هذه المسألة فرع الخلاف في تفسير الإيمان ، والحق أنه حقيقي لما سمعت عن الإمام النووي ومن معه من أن التصديق نفسه يزيد وينقص .

وقال بعض المحققين : أن الزيادة والنقص من خواص الكم والتصديق قسم من العلم ولم يقل أحد بأنه من مقولة الكم وإنما قيل هو كيف أو انفعال أو اضافة وتعلق بين العلم والمعلوم أو صفة ذات إضافة ؛ والأشهر أنه كيف فمتى صح ذلك وقلنا بمغايرة الشدة والضعف للزيادة والنقص فلا بأس بحملهما في النصوص وغيرها على الشدة والضعف وذلك مجاز مشهور ، وإنكار اتصاف الإيمان بهما يكاد يلحق بالمكابرة فتأمل ، وذكر بعضهم هنا أن الإيمان الذي هو مدخول مع هو الإيمان الفطري والإيمان المذكور قبله الإيمان الاستدلالي فكأنه قيل : ليزدادوا إيماناً استدلالياً مع إيمانهم الفطري ، وفيه من الخفاء ما فيه { وَلِلَّهِ جُنُودُ * السموات والارض } يدبر أمرها كيفما يريد فيسلط بعضها على بعض تارة ويوقع سبحانه بينها السلم أخرى حسبما تقتضيه مشيئته المبنية على الحكم والمصالح ، ومن قضية ذلك ما وقع في الحديبية { وَكَانَ الله عَلِيماً } مبالغاً في العلم بجميع الأمور { حَكِيماً } في تقديره وتدبيره عز وجل .

ومن باب الاشارة : { هُوَ الذي أَنزَلَ السكينة فِى قُلُوبِ المؤمنين } فسروها بشيء يجمع نوراً وقوة وروحاً بحيث يسكن إليه ويتسلى به الحزين والضجر ويحدث عنده القيام بالخدمة ومحاسبة النفس وملاطفة الخلق ومراقبة الحق والرضا بالقسم والمنع من الشطح الفاحش ، وقالوا : لا تنزل السكينة إلا في قلب نبي أو ولى { لِيَزْدَادُواْ إيمانا مَّعَ إيمانهم } [ الفتح : 4 ] فيحصل لهم الإيمان العياني والإيمان الاستدلالي البرهاني .