بحر العلوم لعلي بن يحيى السمرقندي - السمرقندي  
{هُوَ ٱلَّذِيٓ أَنزَلَ ٱلسَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ لِيَزۡدَادُوٓاْ إِيمَٰنٗا مَّعَ إِيمَٰنِهِمۡۗ وَلِلَّهِ جُنُودُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِۚ وَكَانَ ٱللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمٗا} (4)

قوله تعالى : { هُوَ الذي أَنزَلَ السكينة في قُلُوبِ المؤمنين } وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم تجهز في سنة ست في ذي القعدة ، فخرج إلى العمرة معه ألف وستمائة رجل ، ويقال : ألف وأربعمائة ، وساق سبعين بدنة . فبلغ قريشاً خبر النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه ، فبعثوا خالد بن الوليد في عصابة منهم ليصدوا النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه عن البيت ؟ فلما نزل النبي صلى الله عليه وسلم بعسفان قال : «إنَّ قُرَيْشاً جَعَلَتْ لِي عُيُوناً ، فَمَنْ يَدُلُّنِي عَلَى طَرِيقِ الثَّنِيَّةِ » . فقال رجل من المسلمين : أنا يا رسول الله فخرج بهم ، وانتهوا إلى الثنية ، وصعدوا فيها . فلما هبط رسول الله صلى الله عليه وسلم من الثنية ، بركت ناقته القصواء ، فلم تنبعث ، فزجرَها ، وزجرها الناس ، وضربوها ، فلم تنبعث . فقال الناس : خلأت القصواء أي : صارت حروناً . فقال النبي صلى الله عليه وسلم : «ما خَلأَتِ القَصْوَاءُ ، وَمَا كَانَ ذلك لَهَا بِخُلُقٍ ، ولكن حَبَسَهَا حَابِسُ الفِيلِ » ثم قال : «لا يَسْأَلُونَنِي فِيمَا بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ شَيْئاً يُعَظِّمُونَ بِهِ حُرُمَاتِهِمْ ، إلاَّ قِبْلتُهُ مِنْهُمْ » ثَم زجرها ، فانبعثت .

فلما نزلوا على القليب بالحديبية ، لم يكن في البئر إلا ماء وشيك . يعني : قليل متغير ، فاستسقوا فلم يبق في البئر ماء . فقال : " مَن رجل يهيج لنا الماء ؟ " فقال رجل : أنا يا رسول الله . فقال : «ما اسمك » قال : مرة . فقال : «تأخر » فقال رجل آخر أنا يا رسول الله ، فقال : « مَا اسْمُكَ ؟ » . قال : ناجيه . فقال : « أنْزِلْ » . فنزل ، فأعطاه رسول الله صلى الله عليه وسلم مشقصاً ، فبحت به البئر ، فنبع الماء . وقال في رواية عبد الله بن دينار ، عن ابن عمر قال : كان ماء الحديبية قد قل . فأتى بدلو من ماء ، فتوضأ منه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وجعل منه في فيه ، ثم مجه في الدلو ، ثم أمرهم بأن يجعلوه في البئر ، ففعلوا ، فامتلأت البئر حتى كادوا يغرقون منها وهم جلوس . ففزع المشركون لنزول النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه في الحديبية ، فجاؤوه ، واستعدوا ليصدوه . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمر : «يا عُمَرُ اذْهَبْ فَاسْتَأْذِنْ لَنَا عَلَيْهِمْ حَتَّى نَعْتَمِرَ ، وَيُخْلُوا بَيْنِي وَبَيْنَ البَيْتِ ، لا أُرِيدُ مِنْهُمْ غَيْرَهُ » . فقال عمر : يا رسول الله ليس ثم أحد من قومي يمنعني . فأرسل عثمان ، فإن هناك ناساً من بني عمه ، يمنعونه ، فذهب عثمان ، فتلقاه أبان بن سعيد بن العاص ، فقال له : أجرني من قومك حتى أبلغ رسالة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأجاره ، وحمله على فرسه ورائه ، ودخل به مكة فاستأذن عثمان قريشاً ، فأبوا أن يأذنوا له .

فقال : أبان لعثمان طف أنت إن شئت . فقال : لما كنت لأتقدم بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وبقي هناك ثلاثة أيام ، فذكر للنبي صلى الله عليه وسلم أن عثمان قد قتل . فقال لأصحابه : " بايعوني على الموت " . فجلس النبي صلى الله عليه وسلم تحت الشجرة ، فبايعه أصحابه على الموت ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : «إِنِّي أَخَافُ أَلاَّ يُدْرِكَ عُثْمَانَ هَذِهِ البَيْعَةَ ، فَأَنَا أُبَايِعُ لَهُ يَمِينِي بِشمَالِي » . ثم رجع عثمان ، فأخبر أنهم قد أبوا ذلك ، وبلغت قريشاً البيعة ، فكبرت تلك البيعة عندهم ، وقالوا ليزيد بن الحارث الكناني : أردده عنا فقال النبي صلى الله عليه وسلم : «ابْعَثُوا الهَدْيَ فِي وَجْهِهِ يَرَاهَا ، فَإِنَّهُمْ قَوْمٌ يُعَظِّمُونَ الهَدْيَ » . فبعثوا الهدي في وجهه ، فلما رأى يزيد بن الحارث الهدي قال : ما أرى أحداً يفلح بردّ هذا الهدي ، ورجع إلى قريش . فقال لهم : لا تردوا هذا الهدي فإني أخشى أن يصيبكم عذاب من السماء . فأرسلوا عروة بن مسعود الثقفي ، فجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فجلس إليه ، فقال : يا محمد ارجع عن قومك هذه المرة ، فجعل يكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ويومىء بيديه إلى لحيته ، وكان المغيرة قائماً عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فضربه بالسوط على يده ، وقال : اكفف يدك عن لحية رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يصل إليك ما تكره . فقال عروة : من هذا يا محمد ؟ فقال : ابن أخيك المغيرة بن شعبة . فقال : يا غدر ما غسلت سلحتك عني بعد . أفتضرب يدي ؟ قال : اكففها قبل أن لا تصل إليك . فرجع عروة إلى قريش ، فقالوا له : ما ورائك يا أبا يعقوب ؟ فقال : خلوا سبيل الرجل يعتمر ، فإني حضرت كسرى ، وقيصر ، والنجاشي ، فما رأيت ملكاً قط أصحابه أطوع من هذا الملك . والله إنه ليتنخم فيبتدرون نخامته ، والله إنه ليجلس فيبتدرون التراب الذي يجلس عليه ، وإنه ليتوضأ فيبتدرون وضوءه . فقالوا : جبنت ، وانتفح سحرك . ثم قالوا لسهيل بن عمرو : اذهب واردده عنا ، وصالحه . فلما رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : «قَدْ سَهُلَ أمْرُهُمْ » فجاءه سهيل في نفر من قريش فقال : يا محمد ارجع عن قومك هذه المرة ، على أن لك أن تأتيهم من العام المقبل ، فتعتمر أنت ، وأصحابك ، ويدخل كل إنسان منكم بسلاحه راكباً ، فتصالحنا على أن لا تقاتلنا ، ولا نقاتلك سنتين . فرضي رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك . فقال : " اكتب بيننا وبينك كتاباً " ، فأمر علياً رضي الله عنه أن يكتب ، فكتب : " بسم الله الرحمن الرحيم " . فقال سهيل : لا أعرف الرحمن . قال : فكيف أكتب ؟ قال : " اكتب باسمك اللهم ؛ فكتب باسمك اللهم ، هذا ما صالح عليه محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم " .

فقال سهيل : لو أعلم أنك رسول الله ، لاتبعتك . أفترغب عن اسم أبيك ؟ فقال علي رضي الله عنه : فوالله إنه لرسول الله صلى الله عليه وسلم على رغم أنفك . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «أنا مَحَمَّدٌ رَسُولُ الله ، وَأَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الله ، اكْتُبْ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الله لأنه كان عهد أن لا يسألوه عن شيئاً يعظمون به حرماتهم إلا قبله . فكتب هذا ما صالح عليه محمد بن عبد الله سهيل بن عمرو ، ألاّ تقاتلنا ، ولا نقاتلك سنتين ، وندخل في حلفنا من نشاء ، وتدخلوا في حلفكم من شئتم ، وعلى أنكم تأتون من العام المقبل ، وتقيمون ثلاثة أيام ، ثم ترجعون ، وعلى أن ما جاء منا إليكم لا تقبلوه ، وتردوه إلينا ، ومن جاء منكم إلينا فهو منا ، فلا نرده إليكم ، فشق ذلك الشرط على المسلمين ، فقالوا : يا رسول الله من لحق بنا منهم لم نقبله ، ومن لحق بهم منا فهو لهم . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «فأمَّا مَنْ لَحِقَ بِهِمْ مِنَّا فَأبْعَدَهُ الله وَأَوْلَى بِمَنْ كَفر . وَأمَّا مَنْ أرَادَ أنْ يَلْحَقَ بِنَا مِنْهُمْ فَسَيَجْعَلُ الله لَهُ مَخْرِجَاً » . فجاء أبو جندل بن سهيل يوسف في الحديد ، يعني : يمشي مشي الأعرج قد أسلم ، فأوثقه أبوه حين خشي أن يذهب إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فلما وقع في ظهراني المسلمين ، قال : إني مسلم . فجاء أبوه فقال : إنما كتبنا الكتاب الساعة . فقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه : يا رسول الله أليس الله حق وأنت نبيه ؟ قال : «بَلَى » . قال : ونحن قوم مؤمنون ؟ وهم كفار ؟ قال : «بَلَى » . قال : فلم نُعْطِي الدنية في ديننا ؟ قال : «إنَّمَا كَتَبْنَا الكِتَابَ السَّاعَةَ » . فتحول عمر إلى أبي جندل فقال : يا أبا جندل إن الرجل يقتل أباه في الله ، وإن دم الكافر لا يساوي دم كلب ، وجعل عمر يقرب إليه سيفه كيما يأخذه ، ويضرب به أباه . فقال أبو جندل : ما لك لا تقتله أنت ؟ فقال عمر : نهاني رسول الله صلى الله عليه وسلم . فقال : ما أنت بأحق بطاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم مني ، لا أقتل أبي ، فأخذ سهيل بن عمرو غصناً من أغصان تلك الشجرة ، فضرب به وجه أبي جندل ، والمسلمون يبكون . فقال النبي صلى الله عليه وسلم : «خَلُّوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ ابْنِهِ ، فَإنْ يَعْلَمِ الله مِنْ أبِي جَنْدَلٍ الصَّدْقَ يُنْجِهِ مِنْهُمّ » . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لسهيل : «هَبْهُ لِي » فقال سهيل : لا . فقال : مكرز بن حفص : قد أجرته .

يعني : أمنته فآمنه حتى رده إلى مكة ، فأنجى الله تعالى أبا جندل من أيديهم بعد ما رجع النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة ، فخرج إلى شط البحر ، واجتمع إليه قريباً من سبعين رجلاً ، كرهوا أن يقيموا مع المشركين ، وعلموا أن النبي صلى الله عليه وسلم لن يقبلهم حتى تنقضي المدة ، فعمدوا إلى عير لقريش مقبلة إلى الشام ، أو مدبرة فأخذوها ، وجعلوا يقطعون الطريق على المشركين ، فأرسل المشركون إلى النبي صلى الله عليه وسلم يناشدونه إلا قبضهم إليه ، وقالوا له : أنت في حلَ منهم . فالتحقوا برسول الله صلى الله عليه وسلم ، فعلم الذين كرهوا الصلح ، أن الخير فيما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم . ثم أمر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه أن ينحروا البدن ، ويحلقوا الرؤوس ، فلم يفعل ذلك منهم أحد . فدخل النبي صلى الله عليه وسلم على أم سلمة فقال : ألا تعجبين ؟ أمرت الناس أن ينحروا البدن ، ويحلقوا . فلم يفعل أحد منهم . فقالت أم سلمة : قم أنت يا رسول الله وانحر بدنك ، واحلق رأسك ، فإنهم سيقتدون بك . فنحر رسول الله صلى الله عليه وسلم البدن ، وحلق رأسه ، ففعل القوم كلهم ، فحلق بعضهم ، وقصر بعضهم . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «يَرْحَمُ الله المُحَلِّقِينَ » . فقالوا : والمقصرين يا رسول الله ؟ فقال : «يَرْحَمُ الله المُحَلِّقِينَ ، وَالمُقَصِّرِينَ » . فرجع النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة ، فنزل { إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُّبِيناً } إلى قوله : { هُوَ الذي أَنزَلَ السكينة في قُلُوبِ المؤمنين } يعني : السكون ، والطمأنينة في البيعة ، في قلوب المؤمنين . { لِيَزْدَادُواْ إيمانا مَّعَ إيمانهم } يعني : تصديقاً مع تصديقهم الذي هم عليه . ويقال : تصديقاً بما أمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في البيعة . ويقال : يعني : إقراراً بالفرائض ، مع إقرارهم بالله تعالى . وروي عن علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس في قوله : { هُوَ الذي أَنزَلَ السكينة } قال : يعني : الرحمة { في قُلُوبِ المؤمنين لِيَزْدَادُواْ إيمانا } . قال : إن الله تعالى بعث رسوله صلى الله عليه وسلم بشهادة أن لا إله إلا الله ، محمد رسول الله ، كما قال : { قُلْ هُوَ الله أَحَد الله الصمد لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ } [ الإخلاص : 1 ، 4 ] فلما صدقوا بها ، زادهم الصلاة . فلما صدقوا بها زادهم الزكاة . فلما صدقوا بها زادهم الصوم . فلما صدقوا بها زادهم الحج . فلما صدقوا به زادهم الجهاد . يعني : إن في كل ذلك يزيد تصديقاً مع تصديقهم .

{ وَلِلَّهِ جُنُود السماوات والأرض } فجنود السماوات الملائكة ، وجنود الأرض المؤمنون من الجن والإنس { وَكَانَ الله عَلِيماً } بخلقه { حَكِيماً } في أمره حيث حكم بالنصر للمؤمنين يوم بدر .