قوله تعالى : { قل يا أيها الناس إن كنتم في شك من ديني } ، الذي أدعوكم إليه . فإن قيل : كيف قال : إن كنتم في شك ، وهم كانوا يعتقدون بطلان ما جاء به ؟ . قيل : كان فيهم شاكون ، فهم المراد بالآية ، أو أنهم لما رأوا الآيات اضطربوا وشكوا في أمرهم وأمر النبي صلى الله عليه وسلم . قوله عز وجل : { فلا أعبد الذين تعبدون من دون الله } ، من الأوثان ، { ولكن أعبد الله الذي يتوفاكم } ، يميتكم ويقبض أرواحكم .
القول في تأويل قوله تعالى : { قُلْ يَأَيّهَا النّاسُ إِن كُنتُمْ فِي شَكّ مّن دِينِي فَلاَ أَعْبُدُ الّذِينَ تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللّهِ وَلََكِنْ أَعْبُدُ اللّهَ الّذِي يَتَوَفّاكُمْ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ } .
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : قل يا محمد لهؤلاء المشركين من قومك الذين عجبوا أن أوحيت إليك إن كنتم في شكّ أيها الناس من ديني الذي أدعوكم إليه فلم تعلموا أنه حقّ من عند الله : فإني لا أعبد الذين تعبدون من دون الله من الاَلهة والأوثان التي لا تسمع ولا تبصر ولا تغني عني شيئا ، فتشكوا في صحته . وهذا تعريض ولحن من الكلام لطيف . وإنما معنى الكلام : إن كنتم في شكّ من ديني ، لا ينبغي لكم أن تشكوا فيه ، وإنما ينبغي لكم أن تشكوا في الذي أنتم عليه من عبادة الأصنام التي لا تعقل شيئا ولا تضرّ ولا تنفع ، فأما ديني فلا ينبغي لكم أن تشكوا فيه ، لأني أعبد الله الذي يقبض الخلق فيميتهم إذ شاء وينفعهم ويضرّ من يشاء وذلك أن عبادة من كان كذلك لا يستنكرها ذو فطرة صحيحة ، وأما عبادة الأوثان فينكرها كل ذي لبّ وعقل صحيح .
وقوله : وَلكِنْ أعْبُدُ اللّهَ الّذِي يَتَوَفّاكُمْ يقول : ولكن أعبد الله الذي يقبض أرواحكم فيميتكم عند آجالكم . وأُمِرْتُ أنْ أكُونَ مِنَ المُوءْمِنِينِ يقول : وهو الذي أمرني أن أكون من المصدّقين بما جاءني من عنده .
{ قل يا أيها الناس } خطاب لأهل مكة . { إن كنتم في شك من ديني } وصحته . { فلا أعبد الذين تعبدون من دون الله ولكن أعبد الله الذي يتوفاكم } فهذا خلاصة ديني اعتقادا وعملا فاعرضوها على العقل الصرف وانظروا فيها بعين الانصاف لتعلموا صحتها وهو أني لا اعبد ما تخلقونه وتعبدونه ، ولكن أعبد خالقكم الذي هو يوجدكم ويتوفاكم . وإنما خص التوفي بالذكر للتهديد . { وأُمرت أن أكون من المؤمنين } بما دل عليه العقل ونطق به الوحي ، وحذف الجار من أن يجوز أن يكون من المطرد مع أن وأن يكون من غيره كقوله :
أمرتُك الخير فافعل ما أُمرت به *** فقد تركتك ذا مال وذا نسبِ .
وقوله تعالى : { قل يا أيها الناس } الآية ، مخاطبة عامة للناس أجمعين إلى يوم القيامة يدخل تحتها كل من اتصف بالشك في دين الإسلام ، وهذه الآية يتسق معناها بمحذوفات يدل عليها هذا الظاهر الوجيز ، والمعنى إن كنتم في شك من ديني فأنتم لا تعبدون الله فاقتضت فصاحة الكلام وإيجازه اختصار هذا كله ، ثم صرح بمعبوده وخص من أوصافه { الذي يتوفاكم } لما فيها من التذكير للموت وقرع النفوس به ، والمصير إلى الله بعده والفقد للأصنام التي كانوا يعتقدونها ضارة ونافعة .
هذه الجملة متصلة المعنى بجملة : { قُل انظروا ماذا في السماوات والأرض } [ يونس : 101 ] ، إذ المقصود من النظر المأمور به هُنالك النظرُ للاستدلال على إثبات الوحدانية ، فإن جحودهم إيّاها هو الذي أقدمهم على تكذيب الرسول صلى الله عليه وسلم في قوله : إن الله بعثه بإثباتها وأبطل الإشراك ، فلما أمرهم بالنظر المؤدي إلى إثبات انفراده تعالى بالإلهية أعقبه بأن يخبرهم بأنهم إن استمروا على الشك فيما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم فإن الرسول صلى الله عليه وسلم ثابت على ما جاء به وأن دلائل صحة دينه بينة للناظرين . والمراد ب« الناس » في هذا الخطاب المشركون من أهل مكة ، أو جميع أمة الدعوة الذين لمَّا يستجيبوا للدعوة .
و ( في ) من قوله : { في شك } للظرفية المجازية المستعملة في التمكن تشبيهاً لتمكن الصفة بتمكن الظرف من المظروف من جهة الإحاطة .
وعلق الظرف بذات الدين ، والمراد الشك في حالة من أحواله وهي الحالة الملتبسة بهم أعني حالة حقيته .
و ( من ) في قوله : { من ديني } للابتداء المجازي ، أي شككٍ آتتٍ من ديني . وهو ابتداء يَؤول إلى معنى السببية ، أي إن كنتم شاكين شكاً سببه ديني ، أي يتعلق بحقيته ، لأن الشك يُحمل في كل مقام على ما يناسبه ، كقوله : { فإن كنت في شك مما أنزلنا إليك } [ يونس : 94 ] . وقد تقدم آنفاً . وقوله : { وإن كنتم في ريب مما نَزّلنا على عبدنا } [ البقرة : 23 ] .
والشك في الدين هو الشك في كونه حقاً ، وكونِه من عند الله . وإنما يكون هذا الشك عند عدم تصور حقيقة هذا الدين بالكنه وعدم الاستدلال عليه ، فالشك في صدقه يستلزم الشك في ماهيته لأنهم لو أدركوا كنهه لمَا شكُّوا في حقيته .
وجملة : { فلا أعبد الذين تعبدون من دون الله } واقعة موقع جواب الشرط ودالة عليه في المعنى . فالتقدير الجواب : فأنا على يقين من فساد دينكم ، فلا أتبعه ، فلا أعبد الذين تعبدونهم ولكن أعبد الله .
ولما كان مضمون هذه الجملة هو أصل دين الإسلام . فيجوز أن يكون في الآية معنى ثان ، أي إن كنتم في شك من معرفة هذا الدين فخلاصته أني لا أعبد الذين تعبدون من دون الله ولكني أعبد الله وحده ، فيكون في معنى قوله تعالى : { قل يأيها الكافرون لا أعبد ما تعبدون } [ الكافرون : 1 ، 2 ] ثم قوله : { لكم دينكم ولي دين } [ الكافرون : 6 ] فيتأتى في هذه الآية غرضان . فيكون المراد بالناس في قوله : { قل يأيها الناس } جميع أمة الدعوة الذين لم يُسلموا .
والذين يعبدونهم الأصنام . وعوملت الأصنام معاملة العقلاء فأطلق عليها اسم الموصول الذي لجماعة العقلاء مجاراة لما يعتقدونه فيها من العقل والتدبير . ونظير هذا في القرآن كثير .
واختيار صلة التوفّي هنا في نعت اسم الجلالة لما فيها من الدلالة على كمال التصرف في المخلوق فإن المشركين لم يبلغ بهم الإشراك إلى ادعاء أن الأصنام تُحيي وتميت .
واختيار ذلك من بين الصفات الخاصة بالله تعالى تعريض بتذكيرهم بأنهم مُعَرَّضون للموت فيقصّرون من طغيانهم .
والجمع بين نفي أن يَعبد الأصنام ، وبين إثبات أنه يعبد الله ؛ يقوم مقام صيغة القصر لو قال : فلا أعبد إلا اللّهَ ، فوجه العدول عن صيغة القصر : أنّ شأنَها أن يطوى فيها الطرف المنفي للاستغناء عنه بالطرف المثبَت لأنه المقصود . وذلك حين يكون الغرض الأصلي هو طرف الإثبات ، فأما إذا كان طرف النفي هو الأهم كما هنا وهو إبطال عبادة الأصنام أوّلاً عدل على صيغة القصر إلى ذكر صيغتي نفي وإثبات . فهو إطناب اقتضاه المقام ، كقول عبد الملك بن عبد الرحيم الحارثي أو السموأل :
تسيل على حد الظُبَات نفوسنا *** وليست على غير الظُبات تسيل
و { أمرت } عطف على جملة : { فلا أعبد الذين تعبدون من دون الله } .
و { أن أكون } متعلق ب { أمرت } بحذف حرف الجر . وهو الباء التي هي لتعدية فعل ( أمرت ) ، و ( أن ) مصدرية لأن نصب الفعل المضارع بعدها يعين أنها مصدرية ويمنع احتمال أنها تفسيرية .
وأريد بالمؤمنين عقائب هذا اللقب الذين آمنوا بالله وبرسوله صلى الله عليه وسلم وبالقرآن والبعث فإذا أطلق لفظ المؤمنين انصرف إلى القوم الذين اتصفوا بالإسلام ، ولذلك لا يقدر للمؤمنين متعلق . وفي جعل النبي صلى الله عليه وسلم من جملة المؤمنين تشريف لهذا الجمع وتنويه به .