قوله تعالى : { قُلْ يا أيها الناس إِن كُنتُمْ فِي شَكٍّ مِّن دِينِي } الآية .
لمَّا بالغ في ذكر الدليل أمر رسوله صلى الله عليه وسلم بإظهار دينه ، وإظهار المباينة عن المشركين ، لكي تزول الشكوك والشبهات في أمره .
فإن قيل : كيف قال " في شكٍّ " وهم كافرون يعتقدون بطلان ما جاء به ؟ .
قيل : كان فيهم شاكون ، فهم المرادُ بالآية ، أو أنَّهم لمَّا رَأوا الآياتِ اضطربوا ، وشكُّوا في أمرهم وأمر النبي - صلوات الله البر الرحيم وسلامه عليه - .
قوله : " فَلاَ أَعْبُدُ " جواب الشَّرط ، والفعلُ خبر ابتداء مضمر تقديره : فأنَا لا أعبدُ ، ولو وقع المضارعُ منفياً ب " لا " دون فاء لجزمَ ، ولكنَّه مع الفاءِ يرفع كما تقدَّم ذكره ، وكذا لوْ لمْ يُنْفَ ب " لا " كقوله تعالى : { وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ الله مِنْهُ } [ المائدة : 95 ] ، أي : فهو ينتقُم .
ثم قال : { ولكن أَعْبُدُ الله الذي يَتَوَفَّاكُمْ } يميتكم ، ويقبض أرواحكم .
فإن قيل : ما الحكمةُ في وصف المعبود ههنا بقوله : { الذي يَتَوَفَّاكُمْ } ؟ .
الأول : أنَّ المعنى أني أعبدُ الله الذي خلقكم أولاً ، ثم يتوفَّاكم ثانياً ثم يعيدكم ثالثاً ، فاكتفى بذكر التوفي لكونه مُنَبِّهاً على البواقي .
الثاني : أنَّ الموت أشدُّ الأشياءِ مهابة ، فخص هذا الوصف بالذكر ههنا ، ليكون أقوى في الزَّجر والرَّدع .
الثالث : أنَّهم لمَّا استعجلوا نزول العذاب قال تعالى : { فَهَلْ يَنتَظِرُونَ إِلاَّ مِثْلَ أَيَّامِ الذين خَلَوْاْ مِن قَبْلِهِمْ قُلْ فانتظروا إِنَّي مَعَكُمْ مِّنَ المنتظرين ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنَا والذين آمَنُواْ } [ يونس : 102-103 ] وهذا يدلُّ على أنَّهُ تعالى يهلك أولئك الكفار ، ويبقي المؤمنين ويقوي دولتهم ، فلمَّا كان قريب العهد بذكر هذا الكلام لا جرم قال ههنا : { ولكن أَعْبُدُ الله الذي يَتَوَفَّاكُمْ } وهو إشارةٌ إلى ما قرَّره وبيَّنهُ في تلك الآية كأنه يقول : أعبد الله الذي وعدني بإهلاككم ، وإبقائي بعدكم .
قوله : { وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ المسلمين } [ يونس : 72 ] ، قال الزمخشري : أصله بأن أكون ، فحذف الجارُّ ، وهذا الحذف يحتمل أن يكون من الحذف المطرد الذي هو حذفُ الحروفِ الجارَّة مع أن وأنَّ ، وأنْ يكون من الحذف غير المطَّرد ؛ وهو كقوله : [ البسيط ]
أَمَرْتُكَ الخَيْرَ . . . *** . . . {[18637]}
{ فاصدع بِمَا تُؤْمَرُ } [ الحجر : 94 ] يعني : بغيرِ المُطَّرد أنَّ حذف حرف الجر مسموعٌ في أفعالٍ لا يجوزُ القياسُ عليها ، وهي : أمَرَ ، واسْتَغْفَرَ ، كما تقدم [ الأعراف 155 ] ، وأشار بقوله : " أمَرْتُكَ " إلى البيت المشهور : [ البسيط ]
أمَرْتُكَ الخَيْرَ فافْعَلْ مَا أمِرْتَ بِهِ *** . . . {[18638]}
وقد قاس ذلك بعضُ النَّحويِّين ، ولكن يُشترط أن يتعيَّن ذلك الحرف ، ويتعيَّن موضعه أيضاً ، وهو رأي علي بن علي بن سليمان فيُجيز " بريتُ القلمَ السكين " بخلاف " صَكَكْتُ الحَجَرَ بالخشبةِ " .
قوله : " وأنْ أقِمْ " يجوز أن يكون على إضمار فعلٍ أي : وأوحي إليَّ أن أقم ، ثم لك في " أنْ " وجهان أحدهما : أن تكون تفسيريةً لتلك الجملةِ المقدَّرة ، كذا قاله أبو حيان ، وفيه نظرٌ ، إذا المفسَّرُ لا يجوز حذفه ، وقد ردَّ هو بذلك في موضع غير هذا ، والثاني : أن تكون المصدرية ، فتكون هي وما في خبرها في محلِّ رفع بذلك الفعل المقدر ، ويحتمل أن تكون " أنْ " مصدرية فقط ، وهي على هذا معمولةٌ لقوله : أمِرْتُ مراعى فيها معنى الكلام ؛ لأنَّ قوله " أنْ أكُونَ " كون من أكوانِ المؤمنين ، ووصلْ " أنْ " بصيغة الأمْر جائزٌ ، كما تقَدَّم تحريره .
وقال الزمخشريُّ{[18639]} : فإن قلت : عطف قوله : " وأنْ أقِمْ " على " أنْ أكُون " فيه إشكالٌ ؛ لأنَّ أنْ لا تخلو : إمَّا أن تكون التي للعبارة ، أو التي تكونُ مع الفعلِ في تأويل المصدر ، فلا يصحُّ أن تكون التي للعبارة ، وإن كان الأمر ممَّا يتضمَّنُ معنى القول ؛ لأنَّ عطفها على الموصولة ينافي ذلك ، والقولُ بكونها موصولة مثل الأولى لا يساعد عليه لفظ الأمْرِ وهو " أقِمْ " ؛ لأنَّ الصِّلة حقُّها أن تكون جملة تحتمل الصِّدق والكذب .
قلت : قد سوَّغَ سيبويه أن توصلَ " أنْ " بالأمْرِ والنَّهْيِ ، وشبَّه ذلك بقولهم : " أنت الذي تفعل " على الخطاب ؛ لأنَّ الغرضَ وصلها بما تكونُ معه في تأويلِ المصدرِ ، والأمْرُ والنَّهْيُ دالاَّنِ على المصدر دلالة غيرهما من الأفعال .
قال شهاب الدين : وقد تقدَّم الإشكالُ في ذلك وهو أنَّه إذا قُدِّرت بالمصدر فاتت الدَّلالةُ على الأمْرِ والنَّهْي .
ورجَّحَ أبُو حيَّان كونها مصدرية على إضمار فعل كما تقدَّم تقريره قال : " ليزولَ قلقُ العطفِ لوجودِ الكافِ ، إذْ لوْ كانَ " وأنْ أقِمْ " عطفا على " أنْ أكُونَ " لكان التَّركيبُ " وَجْهِي " بياء المتكلم ، ومراعاةُ المعنى فيه ضعفٌ ، وإضمارُ الفعل أكثر " .
قال ابنُ الخطيبِ{[18640]} : الواو في قوله : " وأنْ أقِمْ وجْهكَ " حرف عطف ، وفي المعطوف عليه وجهان :
الأول : أنَّ قوله : وأمِرْتُ أنْ أكُون قائم مقام قوله : وقيل لي كن من المؤمنين ثم عطف عليه " وأنْ أقِمْ وجْهَكَ " .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.