اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{قُلۡ يَـٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ إِن كُنتُمۡ فِي شَكّٖ مِّن دِينِي فَلَآ أَعۡبُدُ ٱلَّذِينَ تَعۡبُدُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ وَلَٰكِنۡ أَعۡبُدُ ٱللَّهَ ٱلَّذِي يَتَوَفَّىٰكُمۡۖ وَأُمِرۡتُ أَنۡ أَكُونَ مِنَ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ} (104)

قوله تعالى : { قُلْ يا أيها الناس إِن كُنتُمْ فِي شَكٍّ مِّن دِينِي } الآية .

لمَّا بالغ في ذكر الدليل أمر رسوله صلى الله عليه وسلم بإظهار دينه ، وإظهار المباينة عن المشركين ، لكي تزول الشكوك والشبهات في أمره .

فإن قيل : كيف قال " في شكٍّ " وهم كافرون يعتقدون بطلان ما جاء به ؟ .

قيل : كان فيهم شاكون ، فهم المرادُ بالآية ، أو أنَّهم لمَّا رَأوا الآياتِ اضطربوا ، وشكُّوا في أمرهم وأمر النبي - صلوات الله البر الرحيم وسلامه عليه - .

قوله : " فَلاَ أَعْبُدُ " جواب الشَّرط ، والفعلُ خبر ابتداء مضمر تقديره : فأنَا لا أعبدُ ، ولو وقع المضارعُ منفياً ب " لا " دون فاء لجزمَ ، ولكنَّه مع الفاءِ يرفع كما تقدَّم ذكره ، وكذا لوْ لمْ يُنْفَ ب " لا " كقوله تعالى : { وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ الله مِنْهُ } [ المائدة : 95 ] ، أي : فهو ينتقُم .

ثم قال : { ولكن أَعْبُدُ الله الذي يَتَوَفَّاكُمْ } يميتكم ، ويقبض أرواحكم .

فإن قيل : ما الحكمةُ في وصف المعبود ههنا بقوله : { الذي يَتَوَفَّاكُمْ } ؟ .

فالجواب : من وجوه :

الأول : أنَّ المعنى أني أعبدُ الله الذي خلقكم أولاً ، ثم يتوفَّاكم ثانياً ثم يعيدكم ثالثاً ، فاكتفى بذكر التوفي لكونه مُنَبِّهاً على البواقي .

الثاني : أنَّ الموت أشدُّ الأشياءِ مهابة ، فخص هذا الوصف بالذكر ههنا ، ليكون أقوى في الزَّجر والرَّدع .

الثالث : أنَّهم لمَّا استعجلوا نزول العذاب قال تعالى : { فَهَلْ يَنتَظِرُونَ إِلاَّ مِثْلَ أَيَّامِ الذين خَلَوْاْ مِن قَبْلِهِمْ قُلْ فانتظروا إِنَّي مَعَكُمْ مِّنَ المنتظرين ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنَا والذين آمَنُواْ } [ يونس : 102-103 ] وهذا يدلُّ على أنَّهُ تعالى يهلك أولئك الكفار ، ويبقي المؤمنين ويقوي دولتهم ، فلمَّا كان قريب العهد بذكر هذا الكلام لا جرم قال ههنا : { ولكن أَعْبُدُ الله الذي يَتَوَفَّاكُمْ } وهو إشارةٌ إلى ما قرَّره وبيَّنهُ في تلك الآية كأنه يقول : أعبد الله الذي وعدني بإهلاككم ، وإبقائي بعدكم .

قوله : { وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ المسلمين } [ يونس : 72 ] ، قال الزمخشري : أصله بأن أكون ، فحذف الجارُّ ، وهذا الحذف يحتمل أن يكون من الحذف المطرد الذي هو حذفُ الحروفِ الجارَّة مع أن وأنَّ ، وأنْ يكون من الحذف غير المطَّرد ؛ وهو كقوله : [ البسيط ]

أَمَرْتُكَ الخَيْرَ . . . *** . . . {[18637]}

{ فاصدع بِمَا تُؤْمَرُ } [ الحجر : 94 ] يعني : بغيرِ المُطَّرد أنَّ حذف حرف الجر مسموعٌ في أفعالٍ لا يجوزُ القياسُ عليها ، وهي : أمَرَ ، واسْتَغْفَرَ ، كما تقدم [ الأعراف 155 ] ، وأشار بقوله : " أمَرْتُكَ " إلى البيت المشهور : [ البسيط ]

أمَرْتُكَ الخَيْرَ فافْعَلْ مَا أمِرْتَ بِهِ *** . . . {[18638]}

وقد قاس ذلك بعضُ النَّحويِّين ، ولكن يُشترط أن يتعيَّن ذلك الحرف ، ويتعيَّن موضعه أيضاً ، وهو رأي علي بن علي بن سليمان فيُجيز " بريتُ القلمَ السكين " بخلاف " صَكَكْتُ الحَجَرَ بالخشبةِ " .

قوله : " وأنْ أقِمْ " يجوز أن يكون على إضمار فعلٍ أي : وأوحي إليَّ أن أقم ، ثم لك في " أنْ " وجهان أحدهما : أن تكون تفسيريةً لتلك الجملةِ المقدَّرة ، كذا قاله أبو حيان ، وفيه نظرٌ ، إذا المفسَّرُ لا يجوز حذفه ، وقد ردَّ هو بذلك في موضع غير هذا ، والثاني : أن تكون المصدرية ، فتكون هي وما في خبرها في محلِّ رفع بذلك الفعل المقدر ، ويحتمل أن تكون " أنْ " مصدرية فقط ، وهي على هذا معمولةٌ لقوله : أمِرْتُ مراعى فيها معنى الكلام ؛ لأنَّ قوله " أنْ أكُونَ " كون من أكوانِ المؤمنين ، ووصلْ " أنْ " بصيغة الأمْر جائزٌ ، كما تقَدَّم تحريره .

وقال الزمخشريُّ{[18639]} : فإن قلت : عطف قوله : " وأنْ أقِمْ " على " أنْ أكُون " فيه إشكالٌ ؛ لأنَّ أنْ لا تخلو : إمَّا أن تكون التي للعبارة ، أو التي تكونُ مع الفعلِ في تأويل المصدر ، فلا يصحُّ أن تكون التي للعبارة ، وإن كان الأمر ممَّا يتضمَّنُ معنى القول ؛ لأنَّ عطفها على الموصولة ينافي ذلك ، والقولُ بكونها موصولة مثل الأولى لا يساعد عليه لفظ الأمْرِ وهو " أقِمْ " ؛ لأنَّ الصِّلة حقُّها أن تكون جملة تحتمل الصِّدق والكذب .

قلت : قد سوَّغَ سيبويه أن توصلَ " أنْ " بالأمْرِ والنَّهْيِ ، وشبَّه ذلك بقولهم : " أنت الذي تفعل " على الخطاب ؛ لأنَّ الغرضَ وصلها بما تكونُ معه في تأويلِ المصدرِ ، والأمْرُ والنَّهْيُ دالاَّنِ على المصدر دلالة غيرهما من الأفعال .

قال شهاب الدين : وقد تقدَّم الإشكالُ في ذلك وهو أنَّه إذا قُدِّرت بالمصدر فاتت الدَّلالةُ على الأمْرِ والنَّهْي .

ورجَّحَ أبُو حيَّان كونها مصدرية على إضمار فعل كما تقدَّم تقريره قال : " ليزولَ قلقُ العطفِ لوجودِ الكافِ ، إذْ لوْ كانَ " وأنْ أقِمْ " عطفا على " أنْ أكُونَ " لكان التَّركيبُ " وَجْهِي " بياء المتكلم ، ومراعاةُ المعنى فيه ضعفٌ ، وإضمارُ الفعل أكثر " .

قال ابنُ الخطيبِ{[18640]} : الواو في قوله : " وأنْ أقِمْ وجْهكَ " حرف عطف ، وفي المعطوف عليه وجهان :

الأول : أنَّ قوله : وأمِرْتُ أنْ أكُون قائم مقام قوله : وقيل لي كن من المؤمنين ثم عطف عليه " وأنْ أقِمْ وجْهَكَ " .


[18637]:تقدم.
[18638]:تقدم.
[18639]:ينظر: الكشاف 2/374.
[18640]:ينظر: تفسير الفخر الرازي 17/138.