قوله تعالى : { وقال الذين كفروا } يعني المشركين ، يعني : النضر بن الحارث وأصحابه ، { إن هذا } ما هذا القرآن ، { إلا إفك } كذب ، { افتراه } اختلقه محمد صلى الله عليه وسلم ، { وأعانه عليه قوم آخرون } قال مجاهد : يعني اليهود . وقال الحسن : هو عبيد بن الخضر الحبشي الكاهن . وقيل : جبر ، ويسار ، وعداس بن عبيد ، كانوا بمكة من أهل الكتاب ، فزعم المشركون أن محمداً صلى الله عليه وسلم يأخذ منهم ، قال الله تعالى : { فقد جاؤوا } يعني قائلي هذه المقالة ، { ظلماً وزوراً } أي : بظلم وزور . فلما حذف الباء انتصب ، يعني جاؤوا شركاً وكذباً بنسبتهم كلام الله تعالى إلى الإفك والافتراء .
ثم حكى - سبحانه - بعض الشبهات التى أثارها المشركون حول القرآن الكريم الذى أنزله على نبيه صلى الله عليه وسلم فقال : { وَقَالَ الذين كفروا . . . . } .
الإفك : أسوأ الكذب . يقال : أفك فلان - كضرب وعلم - أفكا ، إذا قال أشنع الكذب وأقبحه .
والزور فى الأصل : تحسين الباطل . مأخوذ من الزورِ وهو الميل وأطلق على الباطل زور لما فيه من الميل عن الصدق إلى الكذب ، ومن الحق إلى ما يخالفه .
أى : وقال الذين كفروا فى شأن القرآن الكريم الذى أنزله الله - تعالى - على نبيه صلى الله عليه وسلم ، ما هذا إلى كذب وبهتان { افتراه } واختلقه محمد صلى الله عليه وسلم من عند نفسه ، { وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ } أى وأعانه وساعده على هذا الاختلاق { قَوْمٌ آخَرُونَ } من اليهو أو غيرهم ، كعداس - مولى حويطب بن عبد العزى - ويسار - مولى العلاء بن الحضرمى - وأبى فكيهة الرومى . وكان هؤلاء من أهل الكتاب الذين أسلموا .
وقوله - تعالى - : { فَقَدْ جَآءُوا ظُلْماً وَزُوراً } رد على أقوال الكافرين الفاسدة وجاءوا بمعنى فعلوا ، وقوله : { ظُلْماً } منصوب به . والتنوين للتهويل .
أى : فقد فعل هؤلاء الكافرون بقولهم هذا ظلما عظيما وزورا كبيرا ، حيث وضعوا الباطل موضع الحق ، والكذب موضع الصدق .
ويصح أن يكون قوله : { ظُلْماً } منصوبا بنزع الخافض أى : فقد جاءوا بظلم عظيم ، وكذب فظيع ، انحرفوا به عن جادة الحق والصواب .
المراد ب { الذين كفروا } قريش وذلك أن بعضهم قال { هذا إفك } وكذب { افتراه } محمد واختلف المتأولون في «القوم » المعينين على زعم قريش ، فقال مجاهد أشاروا إلى قوم من اليهود ، وقال ابن عباس أشاروا إلى عبيد كانوا للعرب من الفرس أحدهم أبو فكيهة مولى الحضرميين وجبر ويسار وعداس وغيرهم ، ثم أخبر الله تعالى عنهم أنهم ما { جاؤوا } إلا إفكاً { وزوراً } أي ما قالوا إلا باطلاً وبهتاناً ، و «الزور » تحسين الباطل هذا عرفه وأصله التحسين مطلقاً ، ومنه قول عمر رضي الله عنه : فأردت أن أقدم بين يدي أبي بكر مقالة كنت زورتها .
انتقال من ذكر كفرهم في أفعالهم إلى ذكر كفرهم بأقوالهم الباطلة .
والإظهار هنا لإفادة أن مضمون الصلة هو علة قولهم هذا ، أي ما جرأهم على هذا البهتان إلا إشراكهم وتصلبهم فيه ، وليس ذلك لشبهة تبعثهم على هذه المقالة لانتفاء شبهة ذلك ، بخلاف ما حكي آنفاً من كفرهم بالله فإنهم تلقوه من آبائهم ، فالوصف الذي أجري عليهم هنا مناسب لمقالتهم لأنها أصل كفرهم .
وهذه الجملة مقابلة جملة : { تبارك الذي نزل الفرقان على عبده } [ الفرقان : 1 ] فهي المقصود من افتتاح الكلام كما آذنت بذلك فاتحة السورة . وإنما أخرت هذه الجملة التي تقابل الجملة الأولى مع أن مقتضى ظاهر المقابلة أن تذكر هذه الجملة قبل جملة : { واتخذوا من دونه آلهة } [ الفرقان : 3 ] اهتماماً بإبطال الكفر المتعلق بصفات الله كما تقدم آنفاً .
والقصر المشتمل عليه كلامهم المستفاد من ( إنْ ) النافية و ( إلاّ ) قصر قلب ؛ زعموا به رد دعوى أن القرآن منزل من عند الله .
وممن قال هذه المقابلة النضر بن الحارث ، وعبد الله بن أمية ، ونوفل بن خويلد . فإسناد هذا القول إلى جميع الكفار لأنه واقع بين ظهرانيهم وكلهم يتناقلونه . وهذه طريقة مألوفة في نسبة أمر إلى القبيلة كما يقال : بنو أسد قتلوا حجراً .
واسم الإشارة إلى القرآن حكاية لقولهم حين يسمعون آيات القرآن .
والضمير المرفوع في { افتراه } عائد إلى الرسول صلى الله عليه وسلم المعلوم من قوله : { على عبده } [ الفرقان : 1 ] .
والإفك : الكذب . وتقدم عند قوله تعالى : { إن الذين جاءو بالإفك } في سورة النور ( 11 ) . والإفتراء : اختلاق الأخبار ، أي ابتكارها وهو الكذب عن عمد ، وتقدم في قوله : { ولكن الذين كفروا يفترون على الله الكذب } في سورة العقود ( 103 ) .
{ وأعانه عليه } أي على ما يقوله من القرآن قوم آخرون لقنوه بعض ما يقوله ، وأرادوا بالقوم الآخرين اليهود . روي هذا التفسير عن مجاهد وعن ابن عباس : أشاروا إلى عبيد أربعة كانوا للعرب من الفرس وهم : عدّاس مولى حويطب بن عبد العزى ، ويسار أبو فكيهة الرومي مولى العلاء بن الحضرمي ، وفي « سيرة ابن هشام » أنه مولى صفوان بن أمية بن محرِّث ، وجبر مولى عامر . وكان هؤلاء من موالي قريش بمكة ممن دانوا بالنصرانية وكانوا يعرفون شيئاً من التوراة والإنجيل ثم أسلموا ، وقد مر ذلك في سورة النحل ، فزعم المشركون أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يتردد إلى هؤلاء سراً ويستمد منهم أخبار ما في التوراة والإنجيل .
والقصر المستفاد من قوله : { إن هذا إلا إفك افتراه وأعانه عليه قوم آخرون } متسلط على كلتا الجملتين ، أي لا يخلو هذا القرآن من مجموع الأمرين ، هما : أن يكون افترى بعضه من نفسه ، وأعانه قوم على بعضه .
وفرع على حكاية قولهم هذا ظهور أنهم ارتكبوا بقولهم ظلماً وزوراً لأنهم حين قالوا ذلك ظهر أن قولهم زور وظلم لأنه اختلاق واعتداء .
و { جاءوا } مستعمل في معنى ( عملوا ) وهو مجاز في العناية بالعمل والقصد إليه لأن من اهتم بتحصيل شيء مشى إليه ، وبهذا الاستعمال صح تعديته إلى مفعول كما في هذه الآية .
والظلم : الاعتداء بغير حق بقول أو فعل قال تعالى : { قال لقد ظلمك بسؤال نعجتك إلى نعاجه } [ ص : 24 ] وتقدم في قوله : { ومن أظلم ممن منع مساجد الله } في سورة البقرة ( 114 ) . والظلم الذي أتوه هو نسبتهم الرسول إلى الاختلاق فإنه اعتداء على حقه الذي هو الصدق .
والزور : الكذب ، وأحسن ما قيل في الزور : إنه الكذب المحسَّن المموَّه بحيث يشتبه بالصدق .
وكون قولهم ذلك كذباً ظاهر لمخالفته الواقع فالقرآن ليس فيه شيء من الإفك ، والذين زعموهم معينين عليه لا يستطيع واحد منهم أن يأتي بكلام عربي بالغ غاية البلاغة ومرتق إلى حد الإعجاز ، وإذا كان لبعضهم معرفة ببعض أخبار الرسل فما هي إلا معرفة ضئيلة غير محققة كشأن معرفة العامة والدهماء .