قوله تعالى : { فقطع دابر القوم الذين ظلموا } ، أي : آخرهم الذين بدبرهم ، يقال : دبر فلان القوم يدبرهم دبراً ودبوراً ، إذا كان آخرهم ، ومعناه أنهم استؤصلوا بالعذاب فلم يبق منهم باقية .
قوله تعالى : { والحمد لله رب العالمين } ، حمد الله نفسه على أن قطع دابرهم لأنه نعمة على الرسل ، فذكر الحمد لله تعليماً لهم ولمن آمن بهم ، أن يحمدوا الله على كفايته شر الظالمين ، وليحمد محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه ربهم إذ أهلك المكذبين .
ثم قال - تعالى - : { فَقُطِعَ دَابِرُ القوم الذين ظَلَمُواْ والحمد للَّهِ رَبِّ العالمين } .
الدابر : الآخر ، والمعنى : فأهلك الله - تعالى - أولئك الأقوام عن آخرهم بسبب ظلمهم وفجورهم ، والحمد لله رب العالمين الذى نصر رسله وأولياءه على أعدائهم ، وفى ختام هذه الآية بقوله { والحمد للَّهِ رَبِّ العالمين } تعليم لنا ، إذ أن زوال الظالمين نعمة تستوجب الحمد والثناء على الله - تعالى - .
وقوله تعالى : { فقطع دابر القوم } الآية ، «الدابر » آخر الأمر الذي يدبره أي يأتي من خلفه ، ومنه قول الشاعر [ أمية بن أبي الصلت ] [ البسيط ]
فَأُهلِكُوا بعذابٍ حصَّ دَابِرَهُمْ . . . فما استطاعُوا لَهُ دَفْعاً ولا انْتَصَرُوا{[4920]}
وَقَدْ زَعَمتْ علْيا بَغِيضٍ وَلَفُّها . . . بَأني وَحِيدٌ قَدْ تَقَطَّع دابري{[4921]}
وهذه كناية عن استئصال «شأفتهم » ومحو آثارهم كأنهم وردوا العذاب حتى ورد آخرهم الذي َََََََََدَبَرهم ، وقرأ عكرمة «فقَطَع » بفتح القاف والطاء «دابرَ » بالنصب ، وحسن الحمد عقب هذه الآية لجمال الأفعال المتقدمة في أن أرسل الرسل وتلطف في الأخذ بالبأساء والضراء ليتضرع إليه فيرحم وينعم ، وقطع في آخر الأمر دابر الظلمة ، وذلك حسن في نفسه ونعمة على المؤمنين فحسن الحمد يعقب هذه الأفعال ، وبحمد الله ينبغي أن يختم كل فعل وكل مقالة لا رب غيره .
جملة { فقطع دابر القوم } معطوفة على جملة { أخذناهم } ، أي فأخذناهم أخذ الاستئصال . فلم يُبق فيهم أحداً .
والدابر اسم فاعل من دَبَره من باب كَتَب ، إذا مشى من ورائه . والمصدر الدبور بضم الدال ، ودابر الناس آخرهم ، وذلك مشتقّ من الدُبُر ، وهو الوراء ، قال تعالى : { واتَّبِع أدبارهم } [ الحجر : 65 ] . وقطع الدابر كناية عن ذهاب الجميع لأنّ المستأصل يبدأ بما يليه ويذهب يستأصل إلى أن يبلغ آخره وهو دَابره ، وهذا ممّا جرى مجرى المثل ، وقد تكرّر في القرآن ، كقوله : { أنّ دابر هؤلاء مَقطوع مصبحين } [ الحجر : 66 ] .
والمراد بالذين ظلموا المشركون ، فإنّ الشرك أعظم الظلم ، لأنَّه اعتداء على حقّ الله تعالى على عباده في أن يعترفوا له بالربوبية وحده ، وأنّ الشرك يستتبع مظالم عدّة لأنّ أصحاب الشرك لا يؤمنون بشرع يزع الناس عن الظلم .
وجملة : { والحمد لله ربّ العالمين } يجوز أن تكون معطوفة على جملة : { ولقد أرسلنا إلى أمم من قبلك } بما اتَّصل بها . عطف غرض على غرض . ويجوز أن تكون اعتراضاً تذييلياً فتكون الواو اعتراضية . وأيَّاً ما كان موقعها ففي المراد منها اعتبارات ثلاثة :
أحدها : أن تكون تلقيناً للرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنين أن يحمدوا الله على نصره رسلَه وأولياءهم وإهلاك الظالمين ، لأنّ ذلك النصر نعمة بإزالة فساد كان في الأرض ، ولأنّ في تذكير الله الناس به إيماء إلى ترقّب الإسوة بما حصل لمن قبلهم أن يترقَّبوا نصر الله كما نصر المؤمنين من قبلهم ؛ فيكون { الحمد لله } مصدراً بدلاً من فعله ، عُدل عن نصبه وتنكيره إلى رفعه وتعريفه للدلالة على معنى الدوام والثبات ، كما تقدّم في قوله تعالى : { الحمد لله } في سورة [ الفاتحة : 2 ] .
{ ثانيها } : أن يكون { الحمد لله } كناية عن كون ما ذكر قبله نعمة من نعم الله تعالى لأنّ من لوازم الحمد أن يكون على نعمة ، فكأنّه قيل : فقطع دابر القوم الذين ظلموا . وتلك نعمة من نعم الله تقتضي حمده .
ثالثها : أن يكون إنشاءَ حمد لله تعالى من قِبَل جلاله مستعملاً في التعجيب من معاملة الله تعالى إيّاهم وتدريجهم في درجات الإمهال إلى أن حقّ عليهم العذاب .
ويجوز أن يكون إنشاءَ الله تعالى ثناء على نفسه ، تعريضاً بالامتنان على الرسول والمسلمين .
واللام في { الحمد } للجنس ، أي وجنس الحمد كلّه الذي منه الحمد على نعمة إهلاك الظالمين .
وفي ذلك كلّه تنبيه على أنَّه يحقّ الحمد لله عند هلاك الظلمة ، لأنّ هلاكهم صلاح للناس ، والصلاح أعظم النعم ، وشكر النعمة واجب . وهذا الحمد شكر لأنّه مقابل نعمة . وإنّما كان هلاكهم صلاحاً لأنّ الظلم تغيير للحقوق وإبطال للعمل بالشريعة ، فإذا تغير الحقّ والصلاح جاء الدمار والفوضى وافتتن الناس في حياتهم فإذا هلك الظالمون عاد العدل ، وهو ميزان قوام العالم .
أخرج أحمد بن حنبل عن عقبة بن عامر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : إذا رأيت الله يعطي العبد من الدنيا على معاصيه ما يحبّ فإنّما هو استدراح ثم تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم { فلمّا نسُوا ما ذكّروا به فتحنا عليهم أبواب كلّ شيء حتّى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون فقطع دابر القوم الذين ظلموا والحمد لله ربّ العالمين } .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.