{ سواء عليهم استغفرت لهم } يا محمد ، { أم لم تستغفر لهم لن يغفر الله لهم إن الله لا يهدي القوم الفاسقين } ذكر محمد بن إسحاق وغيره من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بلغه : أن بني المصطلق يجتمعون لحربه وقائدهم الحارث بن أبي ضرار أبو جويرية زوج النبي صلى الله عليه وسلم ، فلما سمع بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج إليهم حتى لقيهم على ماء من مياههم يقال له المر يسيع من ناحية قديد إلى الساحل ، فتزاحم الناس واقتتلوا فهزم الله بني المصطلق ، وقتل من قتل منهم ، ونقل رسول الله صلى الله عليه وسلم أبناءهم ونساءهم وأموالهم فأفاءها عليهم ، فبينما الناس على ذلك الماء إذ وردت واردة الناس ومع عمر بن الخطاب أجير له من بني غفار ، يقال له جهجاه بن سعيد الغفاري يقود له فرسه فازدحم جهجاه وسنان ابن وبر الجهني ، حليف بني عوف بن الخزرج على الماء فاقتتلا ، فصرخ الجهني : يا معشر الأنصار ! وصرخ الغفاري : يا معشر المهاجرين ! وأعان جهجهاهاً الغفاري رجل من المهاجرين يقال له جعال ، وكان فقيراً ، فغضب عبد الله بن أبي بن سلول وعنده رهط من قومه فيهم زيد بن أرقم ، غلام حديث السن ، فقال ابن أبي : أفعلوها ؟ قد نافرونا وكاثرونا في بلادنا ، والله ما مثلنا ومثلهم إلا كما قال القائل : سمن كلبك يأكلك ، أما والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل . يعني بالأعز نفسه وبالأذل رسول الله صلى الله عليه وسلم . ثم أقبل على من حضره من قومه فقال : هذا ما فعلتم بأنفسكم ، احللتموهم بلادكم ، وقاسمتموهم أموالكم ، أما والله لو أمسكتم عن جعال وذويه فضل الطعام لم يركبوا رقابكم ، ولتحولوا إلى غير بلادكم ، فلا تنفقوا عليهم حتى ينفضوا من حول محمد ، فقال زيد بن أرقم : أنت -والله- الذليل القليل المبغض في قومك ، ومحمد صلى الله عليه وسلم في عز من الرحمن عز وجل ، ومودة من المسلمين ، فقال عبد الله بن أبي : اسكت ، فإنما كنت ألعب . قال : فمشى زيد بن أرقم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وذلك بعد فراغه من العدو ، فأخبره الخبر ، وعنده عمر بن الخطاب ، فقال : دعني أضرب عنقه يا رسول الله ، قال : كيف يا عمر إذا تحدث الناس أن محمداً يقتل أصحابه ؟ ولكن أذن بالرحيل وذلك في ساعة لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يرتحل فيها فارتحل الناس . وأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عبد الله بن أبي فأتاه فقال له : أنت صاحب هذا الكلام الذي بلغني ؟ فقال عبد الله : والذي أنزل عليك الكتاب ما قلت شيئاً من ذلك ، وإن زيداً لكاذب ، وكان عبد الله في قومه شريفاً عظيماً ، فقال من حضر من أصحابه من الأنصار : يا رسول الله عسى أن يكون الغلام وهم في حديثه ولم يحفظ ما قاله . فعذره النبي صلى الله عليه وسلم وفشت الملامة في الأنصار لزيد ، وكذبوه ، وقال له عمه وكان زيد معه : ما أردت إلى أن كذبك رسول الله صلى الله عليه وسلم ، والناس كلهم يقولون : إن عبد الله شيخنا ، وكبيرنا لا يصدق عليه كلام غلام من غلمان الأنصار ، ومقتوك ، وكان زيد يساير النبي صلى الله عليه وسلم فاستحيا بعد ذلك أن يدنو من النبي صلى الله عليه وسلم . فلما استقل رسول الله صلى الله عليه وسلم وسار لقيه أسيد بن حضير فحياه بتحية النبوة وسلم عليه ، ثم قال : يا رسول الله لقد رحت في ساعة منكرة ما كنت تروح فيها . فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : أو ما بلغك ما قال صاحبكم عبد الله ابن أبي ؟ قال : وما قال ؟ قال : زعم إن رجع إلى المدينة أخرج الأعز منها الأذل . فقال أسيد : فأنت والله يا رسول الله تخرجه إن شئت ، هو والله الذليل وأنت العزيز ، ثم قال : يا رسول الله ارفق به فوالله لقد جاء الله بك ، وإن قومه لينظمون له الخرز ليتوجوه فإنه ليرى أنك قد استلبته ملكاً . وبلغ عبد الله بن عبد الله بن أبي ما كان من أمر أبيه فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : يا رسول الله إنه بلغني أنك تريد قتل عبد الله بن أبي ، لما بلغك عنه ، فإن كنت فاعلاً فمرني به ، فأنا أحمل إليك رأسه ، فوالله لقد علمت الخزرج ما كان بها رجل أبر بوالديه مني ، وإني أخشى أن تأمر به غير فيقتله ، فلا تدعني نفسي أن أنظر إلى قاتل عبد الله بن أبي يمشي في الناس فأقتله ، فأقتل مؤمناً بكافر ، فأدخل النار . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : بل نرفق به ونحسن صحبته ما بقي معنا . قال : وسار النبي صلى الله عليه وسلم يومه ذلك حتى أمسى ، وليلته حتى أصبح ، وصدر يومه حتى آذتهم الشمس ، ثم نزل بالناس فلم يكن إلا أن وجدوا مس الأرض فوقعوا نياماً . وإنما فعل ذلك ليشغل الناس عن الحديث الذي كان بالأمس من حديث عبد الله بن أبي . ثم راح بالناس حتى نزل على ماء بالحجاز فويق البقيع ، يقال له نقعاًء فهاجت ريح شديدة آذتهم وتخوفوها منها ، وضلت ناقة النبي صلى الله عليه وسلم وذلك ليلاً ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا تخافوا فإنما هبت لموت عظيم من عظماء الكفار توفي بالمدينة ، قيل : من هو ؟ قال : رفاعة بن زيد ابن التابوت ، فقال رجل من المنافقين : كيف يزعم أنه يعلم الغيب ولا يعلم مكان ناقته ؟ ألا يخبره الذي يأتيه بالوحي ! فأتاه جبريل فأخبره بقول المنافق وبمكان الناقة ، وأخبر بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه ، وقال : ما أزعم أني أعلم الغيب وما أعلم ولكن الله أخبرني بقول المنافق وبمكان ناقتي ، هي في الشعب قد تعلق زمامها بشجرة فخرجوا يسعون قبل الشعب فإذا هي كما قال ، فجاؤوا بها من ذلك الشعب ، وآمن ذلك المنافق . فلما قدموا المدينة وجدوا رفاعة بن زيد بن التابوت قد مات ذلك اليوم ، وكان من عظماء اليهود وكهفاً للمنافقين ، فلما وافى رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة ، قال زيد بن أرقم : جلست في البيت لما بي من الهم والحياة ، فأنزل الله تعالى سورة المنافقين في تصديق زيد وتكذيب عبد الله بن أبي . فلما نزلت أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بأذن زيد وقال : يا زيد إن الله صدقك ، وأوفى بأذنك . وكان عبد الله بن أبي أتى بقرب المدينة ، فلما أراد أن يدخلها جاءه ابنه عبد الله بن عبد الله حتى أناخ على مجامع طرق المدينة ، فلما جاء عبد الله بن أبي قال : وراءك ، قال : مالك ويلك ؟ قال : لا والله لا تدخلها أبداً إلا بإذن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولتعلمن اليوم من الأعز من الأذل ، فشكا عبد الله إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما صنع ابنه ، فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم أن خل عنه حتى يدخل ، فقال : أما إذا جاء أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فنعم ، فدخل فلم يلبث إلا أياماً قلائل حتى اشتكى ومات . قالوا : فلما نزلت الآية وبان كذب عبد الله بن أبي قيل له : يا أبا حباب إنه قد نزل فيك آي شداد فاذهب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يستغفر لك ، فلوى رأسه ثم قال : أمرتموني أن أؤمن فآمنت ، وأمرتموني أن أعطي زكاة مالي فقد أعطيت فما بقي إلا أن أسجد لمحمد صلى الله عليه وسلم ، فأنزل الله تعالى : { وإذا قيل لهم تعالوا يستغفر لكم رسول الله لووا رؤوسهم } الآية ونزل .
وقوله - سبحانه - : { سَوَآءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَن يَغْفِرَ الله لَهُمْ .
. } تيئيس له - صلى الله عليه وسلم - من إيمانهم ، ومن قبولهم للحق .
ولفظ " سواء " اسم مصدر بمعنى الاستواء ، والمراد به الفاعل . أى : مستو ، ولذلك يوصف به كما يوصف بالمصدر ، كما فى قوله - تعالى - : { قُلْ ياأهل الكتاب تَعَالَوْاْ إلى كَلِمَةٍ سَوَآءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ . . } أى : مستوية .
أى : إن هؤلاء الراسخين فى الكفر والنفاق ، قد استوى عندهم استغفارك لهم وعدم استغفارك ، فهم لتأصل الجحود فيهم صاروا لا يفرقون بين الحق والباطل ، ولا يؤمنون بثواب أو عقاب . . . ولذلك فلن يغفر الله - تعالى - لهم مهما حرصت على هدايتهم وصلاحهم .
وقوله - سبحانه - : { إِنَّ الله لاَ يَهْدِي القوم الفاسقين } تعليل لانتفاء المغفر من الله - تعالى - لهم .
أى : لن يغفر الله - تعالى - لهم ، لأن سنته - سبحانه - قد اقتضت أن لا يهدى إلى طاعته ، وأن لا يشمل بمغفرته ، من فسق عن أمره ، وآثر الباطل على الحق ، والكفر على الإيمان ، لسوء استعداده ، واتباعه لخطوات الشيطان .
وقوله تعالى : { سواء عليهم } الآية ، روي أنه لما نزلت : { إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر لهم }{[11113]} [ التوبة : 80 ] ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «لأزيدن على السبعين »{[11114]} ، وفي حديث آخر : «لو علمت أني إن زدت على السبعين غفر لهم لزدت »{[11115]} ، فكأنه عليه السلام رجا أن هذا الحد ليس على جهة الحتم جملة ، بل على أن ما يجاوزه يخرج عن حكمه ، فلما فعل ابن أبي وأصحابه ما فعلوا شدد الله تعالى عليهم في هذه السورة ، وأعلم أنه لن يغفر لهم دون حد في الاستغفار{[11116]} ، وفي قول رسول الله صلى الله عليه وسلم : «لو أعلم أني إن زدت غفر لهم » نص على رفض دليل الخطاب{[11117]} .
وقرأ جمهور الناس : «أستغفرت » بالقطع وألف الاستفهام ، وقرأ أبو جعفر بن القعقاع : «آستغفرت » بمدّ على الهمزة وهي ألف التسوية ، وقرأ أيضاً : بوصل الألف دون همز على الخبر ، وفي هذا كله ضعف لأنه في الأولى : أثبت همزة الوصل ، وقد أغنت عنها همزة الاستفهام ، وفي الثانية : حذف همزة الاستفهام وهو يريدها وهذا مما لا يستعمل إلا في الشعر .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: سواء يا محمد على هؤلاء المنافقين الذين قيل لهم تعالوا يستغفر لكم رسول الله" أستَغْفَرْتَ لَهُمْ "ذنوبهم "أمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللّهُ لَهُمْ" يقول: لن يصفح الله لهم عن ذنوبهم، بل يعاقبهم عليها "إنّ اللّهِ لا يَهْدِي القَوْمَ الفاسِقِينَ" يقول: إن الله لا يوفّق للإيمان القوم الكاذبين عليه، الكافرين به، الخارجين عن طاعته.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{سواء عليهم استغفرت لهم أم لم تستغفر} [فيه وجهان:
أحدهما: أنهم] لم يعدوا ذلك زلة وذنبا لأنه كان عندهم أنهم على الحق.
والثاني: ما قلنا: إنهم كانوا لا يؤمنون بالآخرة، والمغفرة إنما تطلب من الله، ويتحقق ذلك في الآخرة.
وقوله تعالى: {لن يغفر الله لهم} على ذلك أيضا؛ إنه لا يغفر أستغفرت أم لم تستغفر... ثم قوله تعالى: {لن يغفر الله لهم} يحتمل وجهين:
أحدهما: يقول: {لن يغفر الله لهم} ما داموا على النفاق، ولم يتوبوا عنه. والثاني: أن يقول: {لن يغفر الله لهم} في قوم، علم الله منهم أنهم لا يؤمنون أبدا...
{إن الله لا يهدي القوم الفاسقين} ولم يقل: القوم الكافرين أو المنافقين أو المستكبرين مع أن كل واحد منهم من جملة ما سبق ذكره؟
نقول: كل أحد من تلك الأقوام داخل تحت قوله: {الفاسقين} أي الذين سبق ذكرهم وهم الكافرون والمنافقون والمستكبرون.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
... وجملة (لن يغفر الله لهم}... هي وعيد لهم وجزاء على استخفافهم بالاستغفار من رسول الله صلى الله عليه وسلم... وجملة {إن الله لا يهدي القوم الفاسقين} تعليل لانتفاء مغفرة الله لهم بأن الله غضب عليهم فحرمهم اللطف والعناية...
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
{سَوَآءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ}...
لأنّ المغفرة بيده، وليس لك أن تستغفر إلا لمن كان يعيش هذه القابلية وهم المؤمنون العصاة، أما الكافرون الذين لا يؤمنون بالله، والمشركون الذين يشركون بعبادته غيره، فليس لهم طريق إلى رحمة الله ورضوانه، وبالتالي فليس لهم مجال في عفو الله وغفرانه، لأنهم لا يتعلقون من رحمة الله بشيء، ولا يجدون أنفسهم بحاجةٍ إلى رحمة الله، ما يجعل الفسق عندهم خطاً يؤكدون إرادتهم فيه، ويرفضون غيره، {إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} لأن الله قد فتح لهم باب الهداية، فأغلقوها على أنفسهم، فلا يفتحها الله لهم من جديد مع بقاء إراداتهم الرافضة على حالها...