الكشف والبيان في تفسير القرآن للثعلبي - الثعلبي  
{سَوَآءٌ عَلَيۡهِمۡ أَسۡتَغۡفَرۡتَ لَهُمۡ أَمۡ لَمۡ تَسۡتَغۡفِرۡ لَهُمۡ لَن يَغۡفِرَ ٱللَّهُ لَهُمۡۚ إِنَّ ٱللَّهَ لَا يَهۡدِي ٱلۡقَوۡمَ ٱلۡفَٰسِقِينَ} (6)

{ سَوَآءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَسِقِينَ } نزلت هذه الآية في عبد اللّه بن أُبي المنافق وأصحابه ، وذلك ما ذكره أهل التفسير وأصحاب السير أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم بلغه أنّ بني المصطلق يجتمعون لحربه وقائدهم الحرث بن أبي ضراب أَبُو جويرية زوج رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فلمّا سمع بهم رسول اللّه ( عليه السلام ) خرج إليهم حتّى لقيهم على ماء من مياههم يقال له : المريسيع من ناحية قدموا إلى الساحل ، فتزاحف النّاس واقتتلوا فهزم اللّه بني المصطلق وقتل من قتل منهم ونقل رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أبناءهم ونساءهم وأموالهم فأفاءها عليه ، وقد أُصيب رجل من المسلمين من بني كليب بن عوف بن عامر يقال له : هشام بن صبابة ، أصابه رجل من الأنصار من رهط عبادة بن الصامت وهو يرى أنّه من العدو فقتله خطأً .

فبينا النّاس على ذلك الماء إذ وردت واردة الناس ومع عمر بن الخطاب أجير له من بني عمار يقال له : جهجاه بن سعيد يقود له فرسه فازدحم جهجاه وسنان الجهني حليف بني عوف بن الخزرج على الماء فاقتتلا فصرخ الجهني : يا معشر الأنصار ، وصرخ الغفاري : يا معشر المهاجرين ، فأعان جهجاه الغفاري رجل من المهاجرين يقال له جعال وكان فقيراً ، وقال عبد اللّه بن أبي الجعال : وإنّك لهناك ؟ فقال : وما يمنعني أن أفعل ذلك ؟ فاشتدَّ لسان جعال على عبد اللّه ، فقال عبد اللّه : والّذي يُحلَفُ به لأذرنّك وبهمك عن هذا ، وغضب عبد اللّه بن أبي وعنده رهط من قومه فيهم زيد بن أرقم غلاماً حديث السّن ، وقال ابن أُبي افعلوا قد نافرونا وكاثرونا في بلادنا ، والله ما مثلنا ومثلهم إلاّ كما قال القائل : سمّن كلبك يأكلك ، أما واللّه { لَئِن رَّجَعْنَآ إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الأَذَلَّ } يعني بالأعزّ نفسه وبالأذلّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم ثمّ أقبل على من حضر من قومه فقال : هذا ما فعلتم بأنفسكم أحللتموهم بلادكم وقاسمتموهم أموالكم ، أما واللّه لو أمسكتم عن جعال وذويه فضل الطعام لم يركبوا رقابكم ، ولأوشكوا أن يتحولوا عن بلادكم فيلحقوا بعشائرهم وموإليهم فلا تنفقوا عليهم حتّى ينفضّوا من حول محمّد ، فقال زيد بن أرقم : أنت واللّه الذليل المبغض في قومك ، ومحمّد في عزّ من الرحمن ومودّة من المسلمين ، واللّه لا أحبّك بعد كلامك هذا .

فقال عبد اللّه : اسكت فإنّما كنت ألعب ، فمشى زيد بن أرقم إلى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم وذلك بعد فراغه من الغزو فأخبره الخبر وعنده عمر بن الخطاب فقال : دعني أضرب عنقه يا رسول اللّه فقال : إذا توعد أن خلّ عنه يدخل . فقال : أمّا إذا جاءَ أمر النبي ( عليه السلام )فعمر يرحل ولم يلبث إلاّ أياماً ولأنك حسبتني أشتكي ومات .

قالوا : فلمّا نزلت هذه الآية وبان كذب عبد اللّه بن أبي قيل له : يا أبا حباب إنّه قد نزلت أيُ شداد ، فاذهب إلى رسول اللّه يستغفر لك فلوّى رأسه ثم قال : أمرتموني أن أؤمن فقد أمنت ، وأمرتموني أن أُعطي زكاة مالي فقد أعطيت ، فما بقي إلاّ أن أسجد لمحمّد ، فأنزل اللّه سبحانه { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ } إلى قوله { هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لاَ تُنفِقُواْ عَلَى مَنْ عِندَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنفَضُّواْ وَلِلَّهِ خَزَآئِنُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ } فلا يعذر أحد أن يعطي هنا شيئاً إلاّ بأذنه ، ولا أن يمنعه شيئاً إلاّ بمشيئته .

قال رجل لحاتم الأصم : من أين يأكل ؟ فقرأ { وَلِلَّهِ خَزَآئِنُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لاَ يَفْقَهُونَ } .

وقال الجنيد : خزائن السماء : الغيوب ، وخزائن الأرض : القلوب وهو علاّم الغيوب ومقلّب القلوب ، وكان الشبلي يقول : وللّه خزائن السماوات والأرض فأين تَذهبون ؟ .