قوله تعالى : { إن الذين كفروا ينفقون أموالهم ليصدوا عن سبيل الله } ، أي : ليصرفوا عن دين الله ، قال الكلبي ومقاتل : نزلت في المطعمين يوم بدر ، وكانوا اثني عشر رجلاً : أبو جهل بن هشام ، وعتبة ، وشيبة ابنا ربيعة بن عبد شمس ، ونبيه ومنبه ابنا الحجاج ، وأبو البختري بن هشام ، والنضر بن الحارث ، وحكيم بن حزام ، وأبي بن خلف ، وزمعة بن الأسود ، والحارث بن عامر بن نوفل ، والعباس بن عبد المطلب ، وكلهم من قريش ، وكان يطعم كل واحد منهم كل يوم عشر جزر ، وقال الحكم بن عيينة : نزلت في أبي سفيان ، أنفق على المشركين يوم أحد أربعين أوقية .
قوله تعالى : { فسينفقونها ثم تكون عليهم حسرةً } ، يريد : ما أنفقوا في الدنيا يصير حسرة عليهم في الآخرة .
قوله تعالى : { ثم يغلبون } ، ولا يظفرون .
قوله تعالى : { والذين كفروا } ، منهم .
قوله تعالى : { إلى جهنم يحشرون } ، خص الكفار لأن منهم من أسلم .
ثم حكى - سبحانه - ما كانوا يفعلونه من إنفاق أموالهم لا في الخير ولكن في الشرور والآثام وتوعدهم على ذلك بسوء المصير فقال - تعالى - : { إِنَّ الذين كَفَرُواْ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّواْ عَن سَبِيلِ الله فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ والذين كفروا إلى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ } .
روى المفسرون في سبب نزول هذه الآية روايات منها ما ذكره محمد بن إسحاق عن الزهرى وغيره قالوا : لما أصيبت قريش يوم بدر ، ورجع فلُّهم - أي جيشهم المهزوم - إلى مكة ورجع أبو سفيان بعيره ، مشى عبد الله بن ربيعة وعكرمة بن أبى جهل ، وصفوان بن أمية في رجال من قريش أصيب آباؤهم وأنباؤهم وإخوانهم في بدر ، فكلموا أبا سفيان بن حرب ، ومن كانت له في تلك العير من قريش تجارة ، فقالوا : يا معشر قريش إن محمداً قد وتركم وقتل خياركم ، فأعينونا بها المال على حربه ، لعلنا أن ندرك منه ثأراً بمن أصيب منا . ففلعوا . قال : ففيهم - كما ذكر عن ابن عباس - أنزل الله - تعالى - { إِنَّ الذين كَفَرُواْ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّواْ عَن سَبِيلِ الله . . } الآية .
وروى ابن جرير عن سعيد بن جبرير قال : نزلت في أبى سفيان بن حرب ، استأجر يوم غزوة أحد ألفين من الأحابيش من بنى كنانة ، فقاتل بهم النبى - صلى الله عليه وسلم - :
وروى عن الكلبى والضحاك ومقاتل أنها نزلت في المطعمين يوم بدر ، وكانوا اثنى عشر رجلا من قريش . . . كان كل واحد منهم يطعم الناس كل يوم عشر جزر .
قال ابن كثير : وعلى كل تقدير فهى عامة وإن كان سبب نزولها خاصا .
أى : أن الآية الكريمة تتناول بوعديها كل من يبذل أمواله في الصد عن سبيل الله ، وفى تأييد الباطل ومعارضة الحق .
المعنى : أن الذين كفروا بالحق لما جاءهم { يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ } لافى جوه الخير ، وإنما ينفقونها { لِيَصُدُّواْ عَن سَبِيلِ الله } أى : ينفقونها ليمنعوا الناس عن الدخول في الدين الذي يوصلهم إلى رضا الله وغلى طريقه القويم .
واللام في قوله : { لِيَصُدُّواْ } لام الصيرورة ، ويصح أن تكون للتعليل ؛ لأن غرضهم منع الناس عن الدخول في دين الله الذي جاء به النبى - صلى الله عليه وسلم - ، والذى يرونه ديناً مخالفاً لما كان عليه الآباء والأجداد فيجب محاربته في زعمهم .
وقوله : { فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ . . . } بيان لما سيؤول إليه أمرهم في الدنيا من الخيبة والهزيمة والندامة .
أى : فيسنفقون هذه الأموال في الشرور والعدوان ، ثم تكون عاقبة ذلك حسرة وندامة عليهم ، لأنهم لم يصلوا - ولن يصلوا - من وراء إنفاقها إلى ما يبغون ويؤملون . وفضلا عن كل هذا فستكون نهايتهم الهزيمة والإِذلال في الدنيا ، لأن سنة الله قد اقتضت أن يجعل النصر في النهاية لأتباع الحق لالأتباع الباطل .
وقوله : { فَسَيُنفِقُونَهَا } خبر إن في قوله { إِنَّ الذين كَفَرُواْ . . } واقترن الخبر بالفاء لتضمن المبتدأ الموصول مع صلته معنى الشرط ، فصار الخبر بمنزلة الجزاء بحسب المعنى .
وفى تكرير الإِنفاق في شبه الشرط والجزاء ، إشعار بكمال سوء إنفاقهم ، حيث إنهم لم ينفقوا أموالهم في خير أو ما يشبه الخير ، وإنما أنفقوها في الشرور المحضة .
وجاء العطف بحرف { ثُمَّ } للدلالة على البون الشاسع بين ما قصدوه من نفقتهم وبين ما آل ويئول إليه أمرهم . فهم قد قصوا بنفقتهم الوقوف في وجه الحق والانتصار على المؤمنين . . ولكن هذا القصد ذهب أدراج الرياح ، فقد ذهبت أموالهم سدى ، وغلبوا المرة بعد المرة ، وعاد المؤمنون إلى مكة فاتحين ظافرين بعد أن خرجوا منها مهاجرين .
وقوله : { والذين كفروا إلى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ } بيان لسوء مصيرهم في الآخرة ، بعد بيان حسرتهم وهزيمتهم في الدنيا .
أى : أن هؤلاء الكافرين ستكون عاقبة إنفاقهم لأموالهم الحسرة والهزيمة في الدنيا ، أما في الآخرة فسيكون مصيرهم الحشر والسوق إلى نار جهنم لا إلى غيرها .
قال محمد بن إسحاق : حدثني الزهري ، ومحمد بن يحيى بن حِبَّان ، وعاصم بن عمر بن قتادة ، والحُصَيْن بن عبد الرحمن بن عمرو بن سعيد بن معاذ ، قالوا : لما أصيبت قريش يوم بدر ، ورجع فَلُّهم إلى مكة ، ورجع أبو سفيان بِعِيرِه ، مشى عبد الله بن أبي ربيعة ، وعكرمة بن أبي جهل وصفوان بن أمية ، في رجال من قريش أصيب آباؤهم ، وأبناؤهم وإخوانهم ببدر ، فكلموا أبا سفيان بن حرب ومن كانت له في تلك{[12927]} العير من قريش تجارة ، فقالوا : يا معشر قريش ، إن محمدا قد وَتَرَكم وقتل خياركم ، فأعينونا بهذا المال على حربه ، لعلنا أن ندرك منه ثأرًا بمن أصيب منا ! ففعلوا . قال : ففيهم - كما ذكر عن ابن عباس - أنزل الله ، عز وجل : { إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ [ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ ] }{[12928]} إلى قوله : { وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ }{[12929]}
وهكذا روي عن مجاهد ، وسعيد بن جُبَيْر ، والحَكَم بن عتيبة ، وقتادة ، والسُّدِّي ، وابن أبزَى : أنها نزلت{[12930]} في أبي سفيان ونفقته الأموال في أُحُد لقتال رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وقال الضحاك : نزلت في أهل بدر .
وعلى كل تقدير ، فهي عامة . وإن كان سبب نزولها خاصا ، فقد أخبر تعالى أن الكفار ينفقون أموالهم ليصدوا عن اتباع طريق الحق ، فسيفعلون ذلك ، ثم تذهب أموالهم ، { ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً } أي : ندامة ؛ حيث لم تُجْدِ شيئًا ؛ لأنهم أرادوا إطفاء نور الله وظهور كلمتهم على كلمة الحق ، والله متم نوره ولو كره الكافرون ، وناصر دينه ، ومُعْلِن كلمته ، ومظهر دينه على كل دين . فهذا الخزي لهم في الدنيا ، ولهم في الآخرة عذاب النار ، فمن عاش منهم ، رأى بعينه وسمع بأذنه ما يسوءه ، ومن قُتِل منهم أو مات ، فإلى الخِزْي الأبدي والعذاب السَّرْمَدِيّ ؛ ولهذا قال : { فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ }
{ إن الذين كفروا ينفقون أموالهم ليصدوا عن سبيل الله فسينفقونها ثم تكون عليهم حسرة ثم يغلبون }
لما ذُكر صدهم المسلمين عن المسجد الحرام الموجب لتعذيبهم ، عُقب بذكر محاولتهم استيصال المسلمين وصدهم عن الإسلام وهو المعني ب { سبيل الله } وجعلت الجملة مستأنفة ، غير معطوفة ، اهتماماً بها أي أنهم ينفقون أموالهم وهي أعز الأشياء عليهم للصد عن الإسلام ، وأتى بصيغة المضارع في { ينفقون } للإشارة إلى أن ذلك دأبهم وأن الإنفاق مستمر لإعداد العُدد لغزو المسلمين ، فإنفاقهم حصل في الماضي ويحصل في الحال والاستقبال ، وأشعرت لام التعليل بأن الإنفاق مستمر لأنه منوط بعلة ملازمة لنفوسهم وهي بغض الإسلام وصدهم الناس عنه .
وهذا الإنفاق : أنهم كانوا يطعمون جيشهم يوم بدر اللحم كل يوم ، وكان المطعمون اثني عشر رجلاً وهم أبو جهل ، وأمية بن خلف ، والعباس بن عبد المطلب وعتبة بن ربيعة ، والحارث بن عامر بن نوفل ، وطعمية بن عدي بن نوفل ، وأبو البَخْترِي والعاصي بن هاشم ، وحكيم بن حزام ، والنضر بن الحارث ، ونُبَيْه بنُ حجاج السهمي ، وأخوه مُنَبه ، وسهيل بن عَمرو العامري ، كانوا يطعمون في كل يوم عشر جزائر . وهذا الإنفاق وقع يوم بدر ، وقد مضى ، فالتعبير عنه بصيغة المضارع لاستحضار حالة الإنفاق وأنها حالة عجيبة في وفرة النفقات .
وهو جمع بالإضافة يجعله من صيغ العموم ، فكأنه قيل ينفقون أموالهم كلها مبالغة ، وإلاّ فإنهم ينفقون بعض أموالهم .
والفاء في { فسينفقونها } تفريع على العلة لأنهم لما كان الإنفاق دأبهم لتلك العلة المذكورة ، كان مما يتفرع على ذلك تكرر هذا الانفاق في المستقبل ، أي ستكون لهم شدائد من بأس المسلمين تضطرهم إلى تكرير الانفاق على الجيوش لدفاع قوة المسلمين .
وضمير { ينفقونها } راجع إلى الأموال لا بقيد كونها المنفَقة بل الأموال الباقية أو بما يكتسبونه .
و { ثم } للتراخي الحقيقي والرتبي ، أي وبعد ذلك تكون تلك الأموال التي ينفقونها حسرة عليهم ، والحسرة شدة الندامة والتلهفُ على ما فات ، وأسندت الحسرة إلى الأموال لأنها سبب الحسرة بإنفاقها . ثم إن الإخبار عنها بنفس الحسرة مبالغة مثل الإخبار بالمصادر ، لأن الأموال سبب التَحَسر لا سبب الحسرة نفسها .
وهذا إنذار بأنهم لا يحصلون من إنفاقهم على طائِل فيما أنفقوا لأجله ، لأن المنفق إنما يتحسر ويندم إذا لم يحصُل له المقصود من إنفاقه . ومعنى ذلك أنهم ينفقون ليغلبوا فلا يغلِبون ، فقد أنفقوا بعد ذلك على الجيش يومَ أُحُد : استأجر أبو سفيان ألفين من الأحابيش لقتال المسلمين يوم أُحُد . والأحابيش : فِرَق من كنانة تجمعت من أفذاذ شتى وحالفوا قريشاً وسكنوا حول مكة سمّو أحابيش جمع أحبوش وهو الجماعة أي الجماعات فكان ما أحرزوه من النصر كِفاءً لنصر يوم بدر ، بل كان نصر يوم بدر أعظمَ .
ولذلك اقتنع أبو سيفيان يوم أُحُد أن يقول « يوم بيوم بدر والحرب سجال » وكان يحسب أن النبي صلى الله عليه وسلم قد قُتل وأن أبا بكر وعمر قتلا فخاب في حسابه ، ثم أنفقوا على الأحزاب حين هاجموا المدينة ثم انصرفوا بلا طائِل ، فكان إنفاقهم حسرة عليهم .
وقوله : { ثم يُغلبون } ارتقاء في الإنذار بخيبتهم وخذلانهم ، فإنهم بعد أن لم يحصلوا من إنفاقهم على طائِل تُوعدوا بأنهم سيغلبهم المسلمون بعد أن غلبوهم أيضاً يومَ بدر ، وهو إنذار لهم بغلب فتح مكة وانقطاعِ دابر أمرهم ، وهذا كالإنذار في قوله : { قل للذين كفروا ستغلبون وتحشرون إلى جهنم وبئس المهاد } [ آل عمران : 12 ] وإسناد الفعل إلى المجهول لكون فاعل الفعل معلوماً بالسياق فإن أهل مكة ما كانوا يقاتلون غير المسلمين وكانت مكة لَقاحاً .
و { ثم } للتراخي الحقيقي والرتبي مثل التي قبلها .
{ والذين كفروا إلى جهنم يحشرون }
كان مقتضى الظاهر أن يقال وإلى حهنم يحشرون كما قال في الآية الأخرى : { قل للذين كفروا ستغلبون وتحشرون إلى جهنم وبئس المهاد } [ آل عمران : 12 ] فعدل عن الإضمار هنا إلى الإظهار تخريجاً على خلاف مقتضى الظاهر ، للإفصاح عن التشنيع بهم في هذا الإنذار حتى يعاد استحضار وصفهم بالكفر بإصرح عبارة ، وهذا كقول عويف القوافي :
اللؤْم أكرم من وَبْرٍ ووالِده *** واللؤْم أكرمُ من وَبْر ومَا وَلدَا
لقصد زيادة تشنيع وَبْرٍ المهجو بتقرير اسمه واسم اللؤم الذي شبه به تشبيهاً بليغاً .
وعرّفوا بالموصولية إيماء إلى أن علة استحقاقهم الأمرين في الدنيا والآخرة هو وصف الكفر ، فيعلم أن هذا يحصل لمن لم يقلعوا عن هذا الوصف قبل حلول الأمرين بهم .