ثم ساق - سبحانه - بعد ذلك ما يدل على سعة فضله ورحمته بعباده فقال : { أَلَمْ تَرَ أَنَّ . . . } .
الاستفهام فى قوله : { أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله أَنزَلَ مِنَ السمآء مَآءً فَتُصْبِحُ الأرض مُخْضَرَّةً . . . } للتقرير .
وقوله : { مُخْضَرَّةً } أى : ذات خضرة بسبب النبات الذى ينبته الله فيها بعد نزول المطر عليها .
والمعنى : لقد رأيت ببصرك وعلمت ببصيرتك أيها المخاطب أن الله - تعالى - قد أنزل من السماء ماء ، فتصير الأرض بسببه ذات خضرة ، وفى ذلك أعظم الأدلة على كمال قدرته ، وعظيم رحمته بعباده .
وقال - سبحانه - { فَتُصْبِحُ } بصيغة المضارع ، لاستحضار صورة الاخضرار ، الذى اتصف به الأرض بعد نزول المطر عليها ، وصيغة الماضى لا تفيد دوام استحضارها ، لأن الفعل الماضى يفيد انقطاع الشىء .
ولم ينصب هذا الفعل المضارع فى جواب الاستهفام ، لأن الاستفهام تقريرى فهو فى معنى الخبر ، والخبر لا جواب له ، فكأنه قيل : لقد رأيت ، ولأن السببية هنا غير متحققة ، إذ الرؤية لا يتسبب عنها اخضرار الأرض ، وإنما اخضرارها يكون بسبب نزول المطر .
وقد أشار صاحب الكشاف إلى ذلك فقال : فإن قلت : هلا قيل : فأصبحت ؟ ولم صرف إلى لفظ المضارع ؟
قلت : لنكتة فيه وهى إفادة بقاء أثر المطر زمانا بعد زمان ، كما تقول : أنعم علىَّ فلان عام كذا ، فأروح وأغدوا شاكرا له . ولو قلت : فرحت وغدوت لم يقع ذلك الموقع . فإن قلت : فما له رفع ولم ينصب جوابا للاستفهام ؟
قلت : لو نصب لأعطى ما هو عكس الغرض ، لأن معناه إثبات الاخضرار فينقلب بالنصب إلى نفى الاخضرار . مثاله أن تقول لصاحبك ألم تر أنى أنعمت عليك فتشكر . إن نصبته فأنت ناف لشكره . شاك تفريطه فيه ، وإن رفعته فأنت مثبت للشكر وهذا وأمثاله مما يجب أن يرغب له من استم بالعلم فى علم الإعراب وتوقير أهله .
وقال بعض العلماء ما ملخصه : فإن قيل : كيف قال فتصبح مع أن اخضرار الأرض قد يتأخر عن صبيحة المطر .
فالجواب : أن تصبح هنا بمعنى تصير ، والعرب تقول : فلان أصبح غنيا ، أى : صار غنيا ، أو أن الفاء للتعقيب ، وتعقيب كل شىء بحسبه ، كقوله - تعالى - : { ثُمَّ خَلَقْنَا النطفة عَلَقَةً فَخَلَقْنَا العلقة مُضْغَةً فَخَلَقْنَا المضغة عِظَاماً . . . } مع أن بين كل شيئين أربعين يوما ، كما جاء فى الحديث الصحيح .
ثم ختم - سبحانه - الآية بقوله : { إِنَّ الله لَطِيفٌ خَبِيرٌ } أى : إن الله - تعالى - لطيف بعباده .
ومن مظاهر لطفه بهم ، إنزاله المطر على الأرض للانتفاع بما تنبته من كل زوج بهيج ، وهو - تعالى - خبير بأحوال عباده ، لا يعزب عن عمله مثقال ذرة من هذه الأحوال . فإنه - سبحانه - { لَّهُ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض }
وهذا أيضا من الدلالة على قدرته وعظيم سلطانه ، فإنه يرسل{[20400]} الرياح ، فتثير سحابا ، فيمطر على الأرض الجُرُز التي{[20401]} لا نبات فيها ، وهي هامدة يابسة سوداء قحلة ، { فَإِذَا أَنزلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ } [ الحج : 5 ] .
وقوله : { فَتُصْبِحُ الأرْضُ مُخْضَرَّةً } ، الفاء هاهنا للتعقيب ، وتعقيب كل شيء بحسبه ، كما قال : { خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا } [ المؤمنون : 14 ] ، وقد ثبت في الصحيحين : " أن بين كل شيئين أربعين يوما " ومع هذا هو معقب{[20402]} بالفاء ، وهكذا هاهنا قال : { فَتُصْبِحُ الأرْضُ مُخْضَرَّةً } أي : خضراء بعد يبسها ومُحُولها{[20403]} .
وقد ذكر عن بعض أهل{[20404]} الحجاز : أنها تصبح عقب المطر خضراء ، فالله أعلم .
وقوله : { إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ } أي : عليم بما في أرجاء الأرض وأقطارها وأجزائها من الحب وإن صغر ، لا يخفى عليه خافية ، فيوصل إلى كل منه قسطه من الماء فينبته به ، كما قال لقمان : { يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الأرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ } [ لقمان : 16 ] ، وقال : { أَلا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ } [ النمل : 25 ] ، وقال تعالى : { وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلا يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ } [ الأنعام : 59 ] ، وقال { وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ } الآية [ يونس : 61 ] ؛ ولهذا قال أمية بن [ أبي ]{[20405]} الصلت - أو : زيد بن عمرو بن نُفيل - في قصيدته :
وَقُولا لَه : مَن يُنْبِتُ الحبَّ في الثَّرَى *** فَيُصبحَ منْهُ البَقْلُ يَهْتَزُّ رَابيَا?
ويُخْرجُ منْهُ حَبَّه في رُؤُوسه *** فَفي ذَاك آيات لمَنْ كَانَ وَاعيا{[20406]}
القول في تأويل قوله تعالى : { أَلَمْ تَرَ أَنّ اللّهَ أَنزَلَ مِنَ السّمَآءِ مَآءً فَتُصْبِحُ الأرْضُ مُخْضَرّةً إِنّ اللّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ } .
يقول تعالى ذكره : ألَمْ تَرَ يا محمد أنّ اللّهَ أنْزَلَ مِنَ السّماءِ ماءً يعني مطرا ، فَتُصْبِحُ الأرْضُ مُخْضَرّةً بما ينبت فيها من النبات . إنّ اللّهَ لَطِيفٌ باستخراج النبات من الأرض بذلك الماء وغير ذلك من ابتداع ما شاء أن يبتدعه . خَبِيرٌ بما يحدث عن ذلك النبت من الحبّ وبه . قال : فَتُصْبِحُ الأرْضُ فرفع ، وقد تقدمه قوله : ألَمْ تَرَ وإنما قيل ذلك كذلك لأن معنى الكلام الخبر ، كأنه قيل : أعلم يا محمد أن الله ينزل من السماء ماء فتصبح الأرض ونظير ذلك قول الشاعر :
ألَمْ تَسْأَلِ الرّبْعَ القَدِيمَ فيَنْطِقُ *** وهلْ تُخْبِرَنْكَ اليوْمَ بَيْداءُ سَمْلَقُ
{ ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء } استفهام تقرير ولذلك رفع . { فتصبح الأرض مخضرة } عطف على { أنزل } إذ لو نصب جوابا لدل على نفي الاخضرار كما في قولك : ألم تر أني جئتك فتكرمني ، والمقصود إثباته وإنما عدل به عن صبغة الماضي للدلالة على بقاء أثر المطر زمانا بعد زمان . { إن الله لطيف } يصل علمه أو لطفه إلى كل ما جل ودق . { خبير } بالتدابير الظاهرة والباطنة .