الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{أَلَمۡ تَرَ أَنَّ ٱللَّهَ أَنزَلَ مِنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءٗ فَتُصۡبِحُ ٱلۡأَرۡضُ مُخۡضَرَّةًۚ إِنَّ ٱللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٞ} (63)

قوله : { فَتُصْبِحُ } : فيه قولان ، أحدهما : أنه مضارعٌ لفظاً ماضٍ معنى ، تقديرُه فأصبحَتْ ، فهو عطفٌ على أَنْزَل . قاله أبو البقاء . ثم قال بعد أن عطف على " أَنْزل " : " فلا موضعَ له إذن " وهو كلامٌ متهافِتٌ ؛ لأنَّ عَطْفَه على " أَنْزَلَ " يَقْتضي أن يكونَ له محلٌّ من الإِعرابِ : وهو الرفعُ خبراً ل " أنَّ " ، لكنه لا يجوزُ لعدم الرابطِ . والثاني : أنه على بابِه ، ورَفْعُه على الاستئنافِ . قال/ أبو البقاء : " فهي أي القصة ، وتُصْبِحُ الخبر " . قلت : ولا حاجةَ إلى تقديرِ مبتدأ ، بل هذه جملةٌ فعليةٌ مستأنفةٌ ، ولا سيما وقَدَّر المبتدأ ضميرَ القصة ثم حذفه وهو لا يجوز ؛ لأنه لا يُؤْتى بضميرِ القصة إلاَّ للتأكيدِ والتعظيم ، والحذفُ يُنافيه .

قال الزمخشري : " فإن قلتَ : هلا قيل : فَأَصْبحت ، ولِمَ صُرِفَ إلى لفظِ المضارع ؟ قلت : لنكتةٍ فيه : وهي إفادةُ بقاءِ أثرِ المطرِ زماناً بعد زمانٍ كما تقول : أنعم عليَّ فلانٌ عامَ كذا فأرُوْح وأَغْدوا شاكراً له . ولو قلت : رُحْتُ وغَدَوْتُ لم يَقَعْ ذلك الموقعَ . فإن قلت : فما له رُفِعَ ولم يُنْصَبْ جواباً للاستفهام ؟ قلت : لو نُصِب لأعطى عكسَ الغرضِ لأنَّ معناه إثباتُ الاخضرارِ ، فينقلبُ بالنصب إلى نفي الاخضرار . مثالُه أن تقولَ لصاحبِك : ألم تَرَ أني أنعمتُ عليك فتشكر " إن نَصَبْتَ فأنتَ نافٍ لشكره شاكٍ تفريطَه [ فيه ] ، وإن رَفَعْتَه فأنت مُثْبِتٌ للشكرِ ، وهذا وأمثالُه ممَّا يجب أَنْ يَرْغَبَ له من اتَّسم بالعلم في علم الإِعراب وتوقير أهله " . وقال ابنُ عطية : " قوله : " فتصبحُ " بمنزلة قوله فتضحى أو تصير ، عبارةٌ عن استعجالِها إثْرَ نزولِ الماءِ واستمرارها لذلك عادةً . ورَفْعُ قولِه " فتُصْبِحُ " من حيث الآيةُ خبرٌ ، والفاء عاطفةٌ وليسَتْ بجواب ، لأنَّ كونَها جواباً لقوله : { أَلَمْ تَرَ } فاسدُ المعنى " .

قال الشيخ : " ولم يبين هو ولا الزمخشري قبله كيف يكون النصبُ نافياً للاخضرار ، إلاَّ كونَ المعنى فاسداً ؟ قال سيبويه : " وسألتُه يعني الخليل عن { أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَآءِ مَآءً فَتُصْبِحُ الأَرْضُ مُخْضَرَّةً } فقال : هذا واجبٌ وتنبيه . كأنك قلت : أتسمعُ أنزل اللهُ من السماءِ ماء فكان كذا وكذا " . قال ابن خروف : وقوله : " هذا واجبٌ " وقوله : " فكان كذا " يريدُ أنهما ماضيان ، وفَسَّر الكلام ب " أتسمع ليريَكَ أنه لا يتصل بالاستفهام لضعفِ حكمِ الاستفهامِ فيه . وقال بعضُ شُرَّاح الكتاب : " فتصبحُ " لا يمكن نصبُه ؛ لأنَّ الكلامَ واجب . ألا ترى أن المعنى : أن اللهَ أنزلَ ، فالأرضُ هذه حالُها . وقال الفراء : " ألم تَرَ " خبرٌ كما تقولُ في الكلام : علم أنَّ الله يفعل كذا فيكون كذا " .

ويقول : " إنما امتنع النصب جواباً للاستفهام هنا ؛ لأنَّ النفيَ إذا دخل عليه الاستفهامُ ، وإن كان يقتضي تقريراً في بعضِ الكلام هو مُعامَلٌ معاملةَ النفيِ المَحْضِ في الجوابَ " . ألا ترى إلى قولِه تعالى : { أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى }

[ الأعراف : 172 ] وكذلك الجوابُ بالفاءِ إذا أَجَبْتَ النفيَ كان على معنيين في كل منهما يَنْتفي الجوابُ . فإذا قلت : " ما تأتِيْنا فتحدِّثَنا " بالنصب ، فالمعنى : ما تأتينا محدِّثاً ، وإنما تأتينا ولا تحدث . ويجوزُ ِأن يكون المعنى : أنك لا تأتي فكيف تحدّثُ ؟ فالحديثُ منتفٍ في الحالتين ، والتقريرُ بأداةِ الاستفهام كالنفي المَحْض في الجواب يُثْبت ما دَخَلْتْه الهمزةُ ، وينتفي الجوابُ ، فيلزَمُ من هذا الذي قَرَّرْناه إثباتُ الرؤيةِ وانتفاءُ الاخضرارِ ، وهو خلافُ المقصودِ . وأيضاً فإنَّ جوابَ الاستفهامِ ينعقدُ منه مع الاستفهامِ السابقِ شَرْطٌ وجزاءٌ كقوله :

ألم تَسْألْ فَتُخْبِرْكَ الرُّسومُ *** . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

يتقدر : إنْ تسألْ تخبرْك الرسوم ، وهنا لا يتقدَّر : إنْ تَرَ إنزالَ المطر تصبح الأرضُ مخضرةً ؛ لأنَّ اخضرارَها ليس مترتباً على عِلْمِك أو رؤيتِك ، إنما هو مترتبٌ على الإِنزال وإنما عَبَّر بالمضارعِ ؛ لأن فيه تصويراً للهيئة التي الأرضُ عليها والحالةِ التي لابَسَتِ الأرضَ ، والماضي يفيد انقطاعَ الشيءِ . وهذا كقولِ جَحْدَرِ بنِ مَعُونة يصف حاله مع أشدِّ نازلةٍ في قصةٍ جَرَتْ له مع الحجاج ابن يوسف الثقفي ، وهي أبياتٌ فمنها :/

يَسْمُوا بناظِرَتَيْنِ تَحْسَبُ فيهما *** لِما أَجالهما شعاعَ سِراج

لَمَّا نَزَلْتُ بحُصْنِ أَزْبَرَ مُهْصِرٍ *** للقِرْن أرواحَ العدا مَجَّاجِ

فأكرٌّ أحملُ وهو يُقعي باسْته *** فإذا يعودُ فراجعٌ أدراجي

وعلمْتُ أني إنْ أَبَيْتَ نِزالَه *** أني من الحَجَّاج لستُ بناجي

فقوله : " فأكرٌّ " تصويرٌ للحالةِ التي لابَسَها " .

قلت : أمَّا قولُه " وأيضاً فإنَّ جوابَ الاستفهامِ ينعقدُ منه مع الاستفهامِ " إلى قولِه : " إنما هو مترتِّبٌ على الإِنزال " منتزعٌ مِنْ كلامِ أبي البقاء . قال أبو البقاء : " إنما رُفع الفعلُ هنا وإنْ كان قبلَه استفهامٌ لأمرين ، أحدهما : أنه استفهامٌ بمعنى الخبر أي : قد رأيت ، فلا يكون له جوابٌ . الثاني : أنَّ ما بعدَ الفاءِ ينتصِبُ إذا كان المستفهمُ عنه سبباً له ، ورؤيته لإِنزالِ الماءِ لا يُوْجِبُ اخضرارَ الأرض ، وإنما يجبُ عن الماء " وأمَّا قولُه : " وإنما عَبَّر بالمضارع " فهو معنى كلامِ الزمخشري بعينه ، وإنما غَيَّر عبارتَه وأَوْسَعَها .

وقوله : " فتصبحُ " استدلَّ به بعضُهم على أن الفاءَ لا تقتضي التعقيبَ قال : " لأنَّ اخضرارَها متراخٍ عن إنزالِ الماء ، هذا بالمشاهدةِ " . وقد أُجيب عن ذلك بما نقله عكرمةٌ : مِنْ أَنَّ أرضَ مكة وتهامةَ على ما ذُكر ، وأنها تُمْطِرُ الليلةَ فتصبح الأرضُ غُدْوَةً خَضِرةً ، فالفاءُ على بابها . قال ابن عطية : " وشاهَدْتُ هذا في السُّوس الأقصى ، نَزَل المطر ليلاً بعد قَحْط ، فأصبحت تلك الأرضُ الرَّمِلةُ التي تَسْفيها الرياحُ قد اخضرَّت بنباتٍ ضعيف " وقيل : تراخي كلِّ شيء بحَسَبه .

وقيل : ثَمَّ جملٌ محذوفةٌ قبل الفاءِ تقديره : فتهتَزُّ وتَرْبُو وتَنْبُتُ فتصبحُ . يبيِّنُ ذلك قولُه : { فَإِذَآ أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَآءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنبَتَتْ } وهذا من الحذفِ الذي يَدُلُّ عليه فَحْوَى الكلام كقوله تعالى : { فَأَرْسِلُونِ * يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنَا } [ يوسف : 45-46 ] . إلى آخر القصة .

و " تُصْبِحُ " يجوزُ أَنْ تكونَ الناقصةَ ، وأَنْ تكونَ التامَّة . و " مُخْضَرَّةً " حالٌ . قاله أبو البقاء . وفيه بُعْدٌ عن المعنى إذ يصير التقديرُ : فَتَدخُلُ الأرضُ في وقتِ الصباح على هذه الحالِ . ويجوزُ فيها أيضاً أن تكونَ على بابِها من الدلالةِ على اقترانِ مضمونِ الجملة بهذا الزمنِ الخاصِّ . وإنما خَصَّ هذا الوقتَ لأن الخضرةَ والبساتينَ أبهجُ ما تُرَى فيه . ويجوزُ أن تكونَ بمعنى تَصير .

وقرا العامَّةُ بضمِّ الميم وتشديدِ الراء اسمَ فاعلٍ ، مِنْ اخْضَرَّت فهي مُخْضَرَّةٌ . والأصلُ مُخْضَرِرَة بكسر الراء الأولى ، فأُدْغِمَتْ في مثلها . وقرأ بعضُهم " مَخْضَرَة " بفتح الميم وتخفيفِ الراء بزنة مَبْقَلَة ومَسْبَعَة . والمعنى : ذات خُضْرَواتٍ وذات سِباعٍ وذات بَقْلٍ .