قوله تعالى : { أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله أَنزَلَ مِنَ السماء مَاءً } الآية لما دل على قدرته بما تقدم أتبعه بأنواع أُخَر من الدلائل على قدرته ونعمته فقال : { أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله أَنزَلَ } وفيه ثلاثة أوجه :
أحدها : أن المراد الرؤية الحقيقية ، لأن الماء النازل من السماء يرى بالعين ، واخضرار النبات على الأرض مرئي ، فحمل الكلام على حقيقته أولى .
والثاني : المراد ألم تخبر على سبيل الاستفهام .
الثالث : المراد ألم تعلم {[31746]} .
قال ابن الخطيب : والأول ضعيف ، لأن الماء وإن كان مرئياً إلا أن كون الله منزلاً له من السماء غير مرئي ، وإذا ثبت هذا وجب حمله على العلم ، لأن المقصود من تلك الرؤية هو العلم ، لأن الرؤية إذا لم يقترن بها العلم كانت كأنها لم تحصل{[31747]} .
أحدهما : أنه مضارع لفظاً ماض معنى تقديره : فأصبحت ، قاله أبو البقاء{[31748]} ، ثم قال بعد أن عطفه على «أَنْزَل » : فلا موضع له إذاً{[31749]} . وهو كلام ضعيف ، لأن عطفه على «أنزل » يقتضي أن يكون له محل من الإعراب وهو الرفع خبراً ل «أن » . لكنه لا يجوز لعدم الربط .
الثاني : أنه على بابه ، ورفعه على الاستئناف . قال أبو البقاء : فهي ، أي : القصة ، و«تُصْبِح » الخبر{[31750]} . قال شهاب الدين : ولا حاجة إلى تقدير مبتدأ ، بل هذه جملة فعلية مستأنفة لا سيما وقَدَّر{[31751]} المبتدأ ضمير القصة ثم حذفه ، وهو لا يجوز ، لأنه لا يؤتى بضمير القصة إلا للتأكيد والتعظيم والحذف ينافيه{[31752]} . قال الزمخشري : فإن قلت : هلا قيل : فأصبحت ، ولم صرف إلى لفظ المضارع . قلت : لنكتة{[31753]} فيه ، وهي إفادة بقاء أثر المطر زماناً بعد زمان كما تقول : أنعَمَ عليَّ فلان عام كذا ، فأروح وأغدو{[31754]} شاكراً له ، ولو قلت : فَرِحْتُ{[31755]} وغَدَوْتُ لم يقع ذلك الموقع . فإن قلت : فما له رفع ولم ينصب جواباً بالاستفهام . قلت : لو نصب لأعطى عكس الغرض ، لأن معناه إثبات الاخضرار ، فينقلب بالنصب إلى نفي الاخضرار ، مثاله أن تقول لصاحبك : ألم تر أني أنعمت عليك فتشكر . إن نصبته فأنت ناف لشكره شاك تفريطه ، وإن رفعته فأنت مثبت للشكر ، وهذا وأمثاله مما يجب أن يرغب له من اتسم بالعلم في علم الإعراب وتوقير أهله{[31756]} . وقال ابن عطية : قوله : «فَتُصْبِِحُ » بمنزلة قوله : فتضحى أو تصير ، عبارة عن استعجالها أثر نزول الماء واستمرارها كذلك عادة ، ووقع{[31757]} قوله : «فتُصْبحُ » من حيث الآية خبر ، والفاء عاطفة وليست بجواب ، لأن كونها جواباً{[31758]} لقوله : «أَلَمْ تَر » فاسد المعنى{[31759]} . قال أبو حيان : ولم يبين هو ولا الزمخشري قبله كيف يكون النصب نافياً للاخضرار ، ولا{[31760]} كون المعنى فاسداً .
قال سيبويه : وسألته - يعني الخليل - عن { أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله أَنزَلَ مِنَ السماء مَاءً فَتُصْبِحُ الأرض مُخْضَرَّةً } فقال : هذا واجب وتنبيه ، كأنك قلت : أتسمع أنزل الله من السماء ماء فكان كذا وكذا {[31761]} .
قال ابن خروف : وقوله : هذا واجب . وقوله : فكان كذا . يريد أنهما ماضيان وفسر الكلام ب «أتسمع » . ( ليريك أنه لا يتصل بالاستفهام{[31762]} ) لضعف حكم الاستفهام فيه {[31763]} .
وقال بعض شراح الكتاب : «فتُصْبِحُ » لا يمكن نصبه ، لأن الكلام واجب ، ألا ترى أن المعنى أن الله أنزل فالأرض هذه حالها{[31764]} . وقال الفراء : «ألَمْ تَر » خبر ، كما تقول في الكلام : اعلم أن الله يفعل كذا فيكون كذا{[31765]} . ويقول{[31766]} : إنما امتنع النصب جواباً للاستفهام هنا ، لأن النفي إذا دخل عليه الاستفهام ، وإن كان يقتضي تقريراً في بعض الكلام ، هو معامل معاملة النفي المحض في الجواب ، ألا ترى إلى قوله تعالى : { أَلَسْتَ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بلى }{[31767]} [ الأعراف : 172 ] وكذلك الجواب بالفاء إذا أجبت النفي كان على معنيين في كل منهما ينتفي الجواب . فإذا قلت : ما تأتينا فتحدثنا . بالنصب ، فالمعنى ما تأتينا محدثاً ، وإنما تأتينا ولا تُحَدَِّث ، ويجوز أن يكون المعنى أنك لا تأتي فكيف تحدث ، فالحديث منتف في الحالتين{[31768]} ، والتقرير بأداة الاستفهام كالنفي المحض في الجواب يثبت ما دخلته الهمزة وينفي الجواب{[31769]} ، فيلزم من هذا التقدير إثبات الرؤية وانتفاء الاخضرار ، وهو خلاف المقصود .
وأيضاً فإن جواب الاستفهام ينعقد منه مع الاستفهام السابق شرط وجزاء كقوله :
أَلَمْ تَسْأَلْ فَتُخْبِركَ الرُّسُومُ{[31770]} *** . . .
يتقدر : إن تسأل تخبرك الرسوم ، وهنا لا يتقدر : إن تر إنزال المطر تصبح الأرض مخضرة ، لأن اخضرارِها ليس مترتباً على علمك أو رؤيتك إنما هو مترتب على الإنزال .
وإنما عبر بالمضارع ، لأن فيه تصوير الهيئة{[31771]} التي{[31772]} الأرض عليها والحالة التي لابست الأرض ، والماضي يفيد انقطاع الشيء ، وهذا كقول جحدر بن معاوية يصف حاله مع أسد نازله في قصة جرت له مع الحجاج بن يوسف الثقفي ، وهي أبيات فمنها :
يَسْمُو بِنَاظِرَتَيْنِ تَحْسَبُ فِيْهمَا *** لَما أَجَالَهُمَا شُعَاعَ سِرَاجِ
لَما نَزَلْتَ بِحصْنٍ أَزْبَرَ مِهْصَرٍ *** لِلْقِرْنِ أَرْوَاح العِدَا مَحَّاجِ
فَأَكِرُّ أَحْمِلُ وَهو يُقْعِي باسْتِه *** فَإِذَا يَعُوْدُ فَرَاجِعٌ أَدْرَاجِ
وَعَلِمْتُ أَنِّي إِنْ أَبَيْتُ نِزَالَهُ *** أَنِّيْ مِنَ الحَجَّاجِ لَسْتُ بَنَاجِ{[31773]}
فقوله : فأَكِرُّ تصوير للحالة التي لابسها{[31774]} . قال شهاب الدين : أما قوله : وأيضاً فإن جواب الاستفهام ينعقد مع الاستفهام . إلى قوله : إنما هو مترتب على الإنزال . منتزع من كلام أبي البقاء . قال أبو البقاء : إنما رفع الفعل هنا وإن كان قبله استفهام لأمرين :
أحدهما : أنه استفهام بمعنى الخبر ، أي قدر رأيت فلا يكون له جواب .
والثاني : أن ما بعد الفاء ينصب إذا كان المستفهم عنه سبباً له ، ورؤيته لإنزال الماء لا يوجب اخضرار الأرض ، وإنما يجب على الماء {[31775]} .
وأما قوله : وإنما عبر بالمضارع . فهو معنى كلام الزمخشري بعينه ، وإنما غير عبارته وأوسعها . {[31776]}
وقوله : «فَتُصْبح » استدل به بعضهم على أن الفاء لا تقتضي التعقيب ، قال : لأن اخضرارها متراخ عن إنزال الماء ، هذا بالمشاهدة .
وأجيب عن ذلك بما نقله عكرمة من أن أرض مكة وتهامة على ما ذكروا أنها تمطر الليلة فتصبح الأرض غدوة خضرة ، فالفاء على بابها{[31777]} . قال ابن عطية : شاهدت هذا في السوس{[31778]} الأقصى نزل المطر ليلاً بعد قحط فأصبحت تلك الأرض الرملة التي نسفتها الرياح قد اخضرت بنبات ضعيف{[31779]} . وقيل : تراها{[31780]} كل شيء بحسبه{[31781]} ، وقيل : ثم جُمَلٌ محذوفة قبل الفاء تقديره : فتهتز وتربو وتنبت ، بيّن ذلك قوله تعالى : { فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الماء اهتزت وَرَبَتْ وَأَنبَتَتْ }{[31782]} [ الحج : 5 ] وهذا من الحذف الذي يدل عليه فحوى الكلام كقوله تعالى : { فَأَرْسِلُونِ يُوسُفُ أَيُّهَا{[31783]} الصديق أَفْتِنَا }{[31784]} [ يوسف : 45 - 46 ] إلى آخر القصة . و «تُصْبِحُ » يجوز أن تكون الناقصة وأن تكون التامة «مُخَضَرَّة » حال قاله أبو البقاء{[31785]} . وفيه بعد عن المعنى إذ يصير التقدير فتدخل الأرض في وقت الصباح على هذه الحال . ويجوز فيها أيضاً أن تكون على بابها من الدلالة على اقتران مضمون الجملة بهذا الزمن الخاص ، وإنما خص هذا الوقت لأن الخضرة والبساتين أبهج ما ترى فيه ويجوز أن تكون بمعنى تصير . وقرأ العامة «مُخضَرَّة » بضم الميم وتشديد الراء اسم فاعل من اخْضَرَّت فهي مُخْضَرَّة ، والأصل مُخْضَررَة بكسر الراء الأولى فأدغمت في مثلها . وقرأ بعضهم «مَخْضَرَة » بفتح الميم وتخفيف الراء{[31786]} بزنة مَبْقَلة ومَسْبعة .
والمعنى : ذات خضروات وذات سِبَاع وذات بَقْل .
ثم قال : { إِنَّ الله لَطِيفٌ خَبِيرٌ } أي : أنه{[31787]} رحيم بعباده ولرحمته فعل ذلك حتى عظم انتفاعهم به ، لأن الأرض إذا أصبحت مخضرة ، والسماء إذا أمطرت كان ذلك سبباً لعيش الحيوان أجمع . ومعنى «خَبِير » أي ؛ عالم بمقادير مصالحهم فيفعل على قدر ذلك من غير زيادة ولا نقصان . وقال ابن عباس : «لطيفٌ » بأرزاق عباده «خبير » بما في قلوبهم من القنوط . وقال الكلبي : «لطيف » في أفعاله «خبير » بأعمال خلقه .
وقال مقاتل : «لطيف » باستخراج النبت «خبير » بكيفية خلقه{[31788]} .