لما ذكر تعالى ما دل على قدرته الباهرة من إيلاج الليل في النهار والنهار في الليل وهما أمران مشاهدان مجيء الظلمة والنور ، ذكر أيضاً ما هو مشاهد من العالم العلوي والعالم السفلي ، وهو نزول المطر وإنبات الأرض وإنزال المطر واخضرار الأرض مرئيان ، ونسبة الإنزال إلى الله تعالى مدرك بالعقل .
وقال أبو عبد الله الرازي : الماء وإن كان مرئياً إلاّ أن كون الله منزله من السماء غير مرئي إذا ثبت هذا وجب حمله على العلم ، لأن المقصود من تلك الرؤية إذا لم يقترن بها العلم كانت كأنها لم تحصل .
وقال الزمخشري : فإن قلت : هلا قيل فأصبحت ولم صرف إلى لفظ المضارع ؟ قلت : لنكتة فيه وهي إفادة بقاء أثر المطر زماناً بعد زمان .
كما تقول أنعم عليّ فلان عام كذا ، فأروح وأغدو شاكراً له .
ولو قلت فرحت وغدوت لم يقع ذلك الموقع .
فإن قلت : فما باله رفع ولم ينصب جواباً للاستفهام ؟ قلت : لو نصب لأعطى ما هو عكس الغرض ، لأن معناه إثبات الاخضرار فينقلب بالنصب إلى نفي الاخضرار مثاله أن تقول لصاحبك : ألم تر أني أنعمت عليك فتشكر إن نصبته فأنت ناف لشكره شاك تفريطه ، وإن رفعته فأنتم مثبت للشكر هذا وأمثاله مما يجب أن يرغب له من اتسم بالعلم في علم الإعراب وتوقير أهله .
وقال ابن عطية : وقوله { فتصبح الأرض } بمنزلة قوله فتضحى أو تصير عبارة عن استعجالها أثر نزول الماء واستمرارها كذلك عادة ووقع قوله { فتصبح } من حيث الآية خبراً ، والفاء عاطفة وليست بجواب لأن كونها جواباً لقوله { ألم تر } فاسد المعنى انتهى .
ولم يبين هو ولا الزمخشري كيف يكون النصب نافياً للاخضرار ، ولا كون المعنى فاسداً .
وقال سيبويه : وسألته يعني الخليل عن { ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فتصبح الأرض مخضرة } فقال : هذا واجب وهو تنبيه .
كأنك قلت : أتسمع أنزل الله من السماء ماء فكان كذا وكذا .
قال ابن خروف ، وقوله فقال هذا واجب ، وقوله فكان كذا يريد أنهما ماضيان ، وفسر الكلام بأتسمع ليريك أنه لا يتصل بالاستفهام لضعف حكم الاستفهام فيه ، ووقع في الشرقية عوض أتسمع انتبه انتهى .
ومعنى في الشرقية في النسخة الشرقية من كتاب سيبويه .
وقال بعض شراح الكتاب { فتصبح } لا يمكن نصبه لأن الكلام واجب ألا ترى أن المعنى { أن الله أنزل } فالأرض هذا حالها .
وقال الفراء { ألم تر } خبر كما تقول في الكلام اعلم أن الله يفعل كذا فيكون كذا انتهى .
ويقول إنما امتنع النصب جواباً للاستفهام هنا لأن النفي إذا دخل عليه الاستفهام وإن كان يقتضي تقريراً في بعض الكلام هو معامل معاملة النفي المحض في الجواب ألا ترى إلى قوله
{ ألست بربكم قالوا بلى } وكذلك في الجواب بالفاء إذا أجبت النفي كان على معنيين في كل منهما ينتفي الجواب ، فإذا قلت : ما تأتينا فتحدثنا بالنصب ، فالمعنى ما تأتينا محدثاً إنما يأتي ولا يحدث ، ويجوز أن يكون المعنى إنك لا تأتي فكيف تحدث ، فالحديث منتفٍ في الحالتين والتقرير بأداة الاستفهام كالنفي المحض في الجواب يثبت ما دخلته الهمزة ، وينتفي الجواب فيلزم من هذا الذي قررناه إثبات الرؤية وانتفاء الاخضرار وهو خلاف المقصود .
وأيضاً فإن جواب الاستفهام ينعقد منه مع الاستفهام السابق شرط وجزاء فقوله :
يتقدر أن تسأل فتخبرك الرسوم ، وهنا لا يتقدر أن ترى إنزال المطر تصبح الأرض مخضرة لأن اخضرارها ليس مترتباً على علمك أو رؤيتك ، إنما هو مترتب على الإنزال ، وإنما عبر بالمضارع لأن فيه تصويراً للهيئة التي الأرض عليها ، والحالة التي لابست الأرض ، والماضي يفيد انقطاع الشيء وهذا كقول جحدر بن معونة العكلي ، يصف حاله مع أشد نازلة في قصة جرت له مع الحجاج بن يوسف :
يسمو بناظرتين تحسب فيهما *** لما أجالهما شعاع سراج
لما نزلت بحصن أزبر مهصر *** للقرن أرواح العدا محاج
فأكر أحمل وهو يقعي باسته *** فإذا يعود فراجع أدراجي
وعلمت أني إن أبيت نزاله *** أني من الحجاج لست بناجي
فقوله : فأكر تصوير للحالة التي لابسها .
والظاهر تعقب اخضرار الأرض إنزال المطر وذلك موجود بمكة وتهامة فقط قاله عكرمة وأخذ تصبح على حقيقتها أي : تصبح ، من ليلة المطر .
وذهب إلى أن الاخضرار في غير مكة وتهامة يتأخر .
وقال ابن عطية : وقد شاهدت هذا في السوس الأقصى نزل المطر ليلاً بعد قحط فأصبحت تلك الأرض الرملة التي قد نسفتها الرياح قد اخضرّت بنبات ضعف انتهى .
وإذا جعلنا { فتصبح } بمعنى فتصير لا يلزم أن يكون ذلك الاخضرار في وقت الصباح ، وإذا كان الاخضرار متأخراً عن إنزال المطر فثم جمل محذوفة التقدير ، فتهتز وتربو فتصبح يبين ذلك قوله تعالى { فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت وأنبتت } وقرىء { مخضرة } على وزن مفعلة ومسبعة أي ذات خضر ، وخص تصبح دون سائر أوقات النهار لأن رؤية الأشياء المحبوبة أول النهار أبهج وأسر للرائي .
{ إن الله لطيف } أي باستخراج النبات من الأرض بالماء الذي أنزله { خبير } بما يحدث عن ذلك النبت من الحب وغيره .
وقيل { خبير } بلطيف التدبير { خبير } بالصنع الكثير .
وقيل : { خبير } بمقادير مصالح عباده فيفعل على قدر ذلك من غير زيادة ولا نقصان .
وقال ابن عباس { لطيف } بأرزاق عباده { خبير } بما في قلوبهم من القنوط .
وقال الكلبي { لطيف } بأفعاله { خبير } بأعمال خلقه .
وقال الزمخشري { لطيف } وأصل علمه أو فضله إلى كل شيء { خبير } بمصالح الخلق ومنافعهم .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.